احترافية نيتشه وشاعرية روسو ونشاز أدورنو / مروة متولي
عندما نستمع إلى قطعة موسيقية وضعها أحد الفلاسفة، لن يشبه الأمر الاستماع إلى أي موسيقى أخرى، سنصغي جيداً إلى كل نغمة من أجل التقاط معنى أو فكرة ما، وكأننا سنعثر على كلمات لم يدونها الفيلسوف في أوراقه، واختار أن يصدح بها في موسيقاه، كما أننا لن نكف عن التفكير ومحاولة معرفة ماذا أراد هذا الفيلسوف أن يقول من خلال الموسيقى، ولماذا لجأ إلى هذا الفن تحديداً؟ وإلى أي مدى كانت الموسيقى تطارده وتفرض نفسها عليه؟
مروة متولي |
من أشهر الفلاسفة الذين يمكن الاستماع إلى مؤلفاتهم الموسيقية هو الألماني فريدريك نيتشه، فقد بدأت علاقته الأصيلة والراسخة بالموسيقى منذ سنوات طفولته الأولى، وقام بتأليف معزوفاته الخاصة في صباه ومراهقته، وهو لم يكن موهوباً وحسب، وإنما كان دارساً لقواعد هذا الفن متمكناً من أسراره، كما كان يتمتع بذائقة موسيقية رفيعة بطبيعة الحال، ويظهر التمكن والاحتراف وقوة التكنيك في كافة أعماله، ونلمح لديه ذلك الطموح الفني الكبير، والسعي نحو الكمال والمثل الأسمى، بالإضافة إلى قوة الخيال ورقة العاطفة، وإلى حد كبير نشعر بامتزاج نفسه بالموسيقى، وحاجته الماسة إليها، ونجد أن بعض مؤلفاته للبيانو لا تقل رقياً وجمالاً عن مؤلفات شومان وشوبان اللذين أحبهما كثيراً، ولا يخفى كذلك تأثره بفاغنر الذي أحبه بجنون ثم كرهه بجنون، لأنه أحب زوجته كما يقال، وبالطبع سيظهر أثر فلسفة شوبنهاور والرومانتيكية والميل إلى درامية الموسيقى والتعبير عن الوقوع تحت سطوة القدر وآلامه، كما سيبدو تأثره الكبير بموسيقى بيتهوفن وتقديره العظيم لموهبته، بشكل يصل إلى حد المحاكاة والتقليد في بعض الأحيان.
وفي مؤلفاته للبيانو والكمان يُظهر نيتشه نبوغاً مدهشاً في توظيفه لهذه الآلة
الوترية، وقدرته على صياغة حوار شيق بينها وبين البيانو، والاسترسال على أوتارها
في التعبير عما يختلج في روحه بتدفق جارف، وقد أتت ألحان هذا الفيلسوف التراجيدي
على درجة كبيرة من الجمال والوضوح، قريبة إلى الأسماع والأفهام على السواء، تماماً
كفلسفته وأفكاره الواضحة البعيدة عن الغموض والتعقيد والثرثرة الفارغة، فهو أديب
وشاعر وموسيقي بالفطرة وفنان أولاً وأخيراً.
أما الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو فلديه بعض المؤلفات الموسيقية العجيبة، ورغم النشاز العظيم في ألحانه يجب القول إنها تتسق مع أفكاره كأحد منظري الموسيقى كما يعتبره البعض
على العكس من نيتشه لا نلمح لدى الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو ذلك التمكن والاحتراف، ورغم ذلك قد تكون موسيقاه هي الألطف والأكثر شعبية، بتوجهها إلى القلوب مباشرة قبل الأسماع، حيث تغلب العاطفة على التكنيك بدرجة كبيرة، وعندما نرهف السمع إليه يدهشنا ذلك الانسجام الهارموني الغارق في الشاعرية والرومانسية، كان روسو الأكثر وفاء وإيماناً وتمسكاً بالكلمة، لم يرد استبعادها وفصلها عن الموسيقى، وكان بالفعل بارعاً في تلحين الكلمات، ويظهر ميله الشديد نحو موسيقى الغناء والأناشيد والشعر الوجداني والصور الدرامية، ويبدو أنه كان يطمح إلى الأوبرا، وأن هذا الفن العظيم كان غايته الكبرى. أثناء الاستماع إلى موسيقاه لن نفكر إلا في «مدام دي فَرِنس» التي كانت امرأة حياته بحق، رغم أنه عشق الكثيرات غيرها، وستحيلنا كل أغنية إلى مشهد من اعترافاته، فموسيقى عاطفية حزينة ستجعلنا نتخيله وهو يبكي ويبلل صدرها بدموع النشوة والذنب، ممزقاً بين شعوره بالسعادة لأن المرأة التي يراها أجمل نساء الأرض صارت أخيراً بين أحضانه، وشعوره بأنه مارس الحب المحرم مع من كانت في مقام الأم بالنسبة إليه، واحتضنته وآوته في قصرها ورعته مالياً وتكفلت بتعليمه، وعندما نستمع إلى أغنية عن جحيم الوحدة وبؤس الاشتياق والانتظار والتوق إلى رؤية وجه الحبيبة وسماع صوتها، سنتخيله يجلس وحيداً في قصرها، ينتظر عودتها من رحلة غرامية مع عشيقها الآخر «كلود آنيه»، الذي أنقذه روسو من الموت ذات ليلة، رغم غيرته الشديدة، لأنه لا يريد أن يسبب الحزن لحبيبته، وبالفعل كانت الموسيقى هي الملاذ لروسو أثناء غيابها، وربما قام بتأليف أغلب ألحانه في قصرها هائماً بحبها لا يفكر في سواها.
أما الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو فلديه بعض
المؤلفات الموسيقية العجيبة، ورغم النشاز العظيم في ألحانه يجب القول إنها تتسق مع
أفكاره كأحد منظري الموسيقى كما يعتبره البعض، ويكفي أن نعرف أنه كان مغرماً
بموسيقى كل من أرنولد شونبرغ وألبان بيرغ وأنطون ويبرن، وأن هذا الفيلسوف والناقد
الماركسي، كان يريد أن يصرفنا عن الاستماع إلى موسيقى بيتهوفن، ويجعلنا نستمع إلى
موسيقى هؤلاء، الذين تتشابه موسيقاه مع موسيقاهم إلى حد بعيد، في كونها مؤذية
للروح، مؤلمة للأذن وللأسنان أيضاً، وقادرة على أن تجعل الحياة مريرة، بأصوات تشبه
الخربشات على الزجاج، وتنافر هائل بين الآلات وفوضى عارمة في النغمات، وأثناء خوض
تجربة الاستماع السيئة إلى مؤلفاته الموسيقية، سنتذكر بعض أفكاره وآرائه العنيفة
حول موسيقى البوب، وسخريته من الميلودي وجمال اللحن والتكرار، الذي هو من جماليات
الموسيقى الأساسية وعبقريتها في بعض الأحيان، وسنتذكر تفسيراته الغريبة للفنون
بشكل عام، حيث السينما وسيلة خبيثة لتحقيق أهداف غامضة، وأفلام كارتون ديزني
مؤامرة كونية كبرى، وموسيقى البوب خطة رأسمالية للاستيلاء على أموالنا، وربما لا
يختلف المفكر الذي يتبع مثل هذا الأسلوب عن رجل الدين، الذي يتعمد إخافتنا من كل
شيء لنتوقف عن التفكير، ونتشبث بطرف ثوبه كالأطفال المذعورين، ولا يختلف أيضاً عن
صاحب السلطة السياسية، الذي يخيفنا من «العدو» الذي هو في حقيقة الأمر حليفه
الأبدي، وصنو وجوده وليس أحرص منهما على حياة الآخر، وكم هو سخيف ذلك المفكر الذي
يسعى إلى بث الخوف في نفوسنا، وجعلنا نتوجس من كل شيء حولنا، ليستطيع أن يمارس
علينا سلطته الفكرية، وكأننا لا نرى ولا نفهم وهو وحده القادر على رؤية الحقيقة
المختبئة وراء كل شيء، وأن هناك دائماً ذلك الخطر الداهم وهو وحده أيضاً القادر
على تنبيهنا إليه، في حين أن كافة الأخطار والشرور في العالم واضحة تماماً، وأن
المجرمين والقتلة والسفاحين الذين يهددون وجودنا في كل لحظة معروفون للجميع، ونحن
إذا طبقنا أسلوب أدورنو على موسيقاه، سنقول إنه بالتعاون مع شونبرغ وبيرغ وويبرن
أسسوا تنظيماً يعمل ضد الموسيقى، ويسعى إلى قتل الفن والجمال، وعلى كل حال يعد
الاستماع إلى مؤلفاته الموسيقية تجربة سيئة للغاية وغير ممتعة على الإطلاق كمطالعة
بعض كتاباته أيضاً، فشتان بين ما كتبه نيتشه عن الموسيقى في كتاب «نشوء المأساة»
بحاسة فنية نادرة، وما كتبه أدورنو عنها في مقالاته ومؤلفاته خلواً من كل حس.
القدس العربي
٭ كاتبة مصرية
مقال جميل ودراسة مثيرة عن هولأ الفلاسفة والذين إلتقو في التعبير بالموسيقى،وكأنها الحبر السري لأفكارهم وأرائهم،رغم التناقدات التي بينهم إلا ان الموسيقى كانت لهم أخلص تعبير عن حقيقة عواطفهم ..
ردحذفشكرا جزبلا لك لهذه الدراسة الجميلة والمثيرة،ولمجهوداتك الكبيرة.