أحمد الشيخاوي |
عن جامعة المبدعين المغاربة، صدر حديثا للشاعرة المغربية نعيمة زايد، مجموعة شعرية تحت وسوم " بحيرة الصمت " وهي تشغل حيّزا يفوق المائة صفحة، من القطع المتوسط، تتخلّله عشرات القصائد المراوحة بين خطابات تتضارب وتتفاوت، يوقعها الحسّ الرومانسي تارة، والوطني والوجودي الإنساني، تارة أخرى.
منجز تحاول من خلاله الشاعرة أن تُلفت انتباهنا إلى حقيقة جوهرية، تكمن في بلاغة الصمت، بما يعطي تبريرا، ربما، لمنظومة مفاهيمية، قد يفصح عنها التحام حياة الكائن، بجنس تعبيري أزلي يكنّى الشعر، ومن تم، درء انشغالات البحث عن غائيته، باعتباره أرقى من ذلك بكثير، والأجدر أن تُعاش لحظاته كتابة وتذوقا، وتُتنفس زواياه على نحو ينعش واقع الانطفاء والانكسار والعزلة.
الأكيد أننا نكتب وكأننا لا نكتب، ومثل هذه
المجموعة، وإن تعثرت دوالها بمناخ الخرق التركيبي، تظل تحيل على عوالم
تدبجها إيقاعات الولادة الثانية التي يجود بها الشعر، دونما قيود ولا شروط، سوى
لأنه نصّب ذاته سلطانا على القلوب، منذ القدم، وما على الأجيال سوى الابتكار في
معانيه، وانتهاك الآفاق المدبّجة بفخاخ البحث في ماهيته، قصد ما ورائيات ألوانه،
هنالك أغور ما تكون المقامرات، في ضمنيات هذا النوع الزئبقي
المتفلّت، لاكتمال محطات التنعم بمناحي إدهاشه، ومرجانيته المانحة قيما
وجمالا ومثالية للذات والحياة والكون.
نقتبس لها الآتي :
[ نلهو
بحصان من ورق
نشرب
جرحنا ونثمل
ينخمد فينا الشارع
وذراعك تلاعب حلمة الريح
لأبلغ الحلم
هيه
بقعر المرآة أراك](1).
مجموعة تريد لنا الانصراف إلى خبايا البياض، وما يمكن أن تثمره كتابة البياض، ما بحيث ما تفتأ الذات الشاعرة، تجذب إلى عوالم يخفيها ويتستّر عيها الصمت في سكونية رهيبة، كأنما تبرّر عجز الأدب عموما عن احتواء جرح العصر، بما يهب للحالة رؤى إنسانية أكثر موسوعية وشمولية.
تجربة تدلف إلى قطوف هذه المشهدية
الساكنة،والمثرثرة بأبعاد المحو وسلطته وجبروته.
وحده المتلقي هنا، تقع على عاتقه مسؤولية
تلوين ما وراء هذه البحيرة الساكنة أو الصامتة، ما دامت القراءة
تتعدد،وتتمرد على القطبية والدوغمائية وأنانيات التأويل.
يترك له دور إكمال الرّسالة المتغزلة بأوجاع
الوجود والأنثوي وجراحات الهوية والانتماء.
مثلما نطالع لها، أيضا، قولها وهي تتقمصّ لغة صامتة، لا تنزّ بغير ما يستفاد من لوحات البياض، تقول أو بالأحرى تهمس، بما تلتقطه عين الأنثى:
[ أيا وطنا بضراوة اللغة أرسم قامته
كرخام أبيض لا تراوح المكان
يأتيك الفراش مندسا بعين أنثى
وأنت كقيامة تمسك عنق السماء لتتجلى
غيما
اقترب قليلا لتمطر
فليس من في الختم
كمن لم يبارح بالخطو
فاللغة محض بيان
ونحن دون المعنى غياب](2).
بهذا الأسلوب الكريستالي الناصع، تقدّم،ما ينكّه العملية التواصلية ويجعلها مشرعة على فوقية مغزى البياض، تسقط من نكهة البرزخية،على الحالة الإنسانية المتشظية، وتغمز بدوال روح الشعرية المنتصرة للإنسانية والأنثوي والحياة.
إنه وبتأمل عتبة المجموعة، نهتدي إلى ضمنية هذا
الربط بين الماء والصمت، وهذا يولّد تشويقا يحفّز النفس الإيجابية، ويترعها أملا
وتفاؤلا بفجر يذيل راهنا مطفأ الأرجاء.
نقرأ لها قولها كذلك :
[ مفعمة الخطو
أيا امرأة بدرجة وطن
هادني غبارها
عارية أنت
إلا من إعصار رؤيا وعهدة
يا أنت يا أنا
أغرق أصابعي بالظل
وأذكي شهوة التجلي
كي تمور بصهيلها الأحلام
وكأني اليوم بميلاد أقيم
كما لو أني وجه الفتنة الأبهى
حين تؤبن احتضارات مساء ولى
كما لو أن الوجود أقنعة تتبادل
مكتظة بضحك الأطفال
تشرع أبواب الرغبات الصغيرة](3).
منجز يكون التعاطي معه على هذا الأساس، بما تعرّيه هذه المائيات على تنوّع دوالها وعمق ارتباطها ببياض الإبداع، والأقوى في ذلك، ما يشير إلى ترجيح السياق الحياتي في المعادلة ككل.
لذا وانطلاقا من هذه الخلفية، خلفية مزج المفتوح
على آفاق التأويل وصفحات الإلهام، بميكانيزم المائيات المثوّرة لجملة من الأغراض
الثقافية والعاطفية، تكون شاعرتنا نفضت عن بصمتها هذه، تعتيمات القول الشعري، ورمت
بالكرة لصالح المتلقي المنتج، بمعزل عن السلبية التواصلية وبرودة خرائطيتها،
محرّضة على مقولة موت المؤلف، كما مغرية بزخم التقاطعات المعرفية والجمالية التي
تطفو على الكتابة الغامضة المقبولة، كي تعوّضها بفلسفة ممتدة ومستمدة لنَفس البساطة
والاستيعاب، من تصاعدية تفكّك أسرار كهذه تركيبية، يمليها طقس كتابي ما، تستسلم من
خلاله الذات، لمعطيات مباغتات البياض وعمق مراميه.
______
هامش:
(1)مقتطف من نص " بحيرة الصمت " صفحة4.
(2)مقتطف من نص " بيان " صفحة 13/14.
(3) مقتطف من نص " حين تدقّ دفوفها
الريح" صفحة79.
*شاعر وناقد مغربي
إرسال تعليق