القرآن
الكريم، الذي بلغ من روعة بيانه وتجديده في أساليب البلاغة ما جعله حدا فاصلا بين
مرحلتين من تاريخ اللغة العربية، والمعجزة الخالدة التي يتوقف عليها أساس الدين
وأصل الشريعة إلى قيام الساعة، معجزة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، كان محورا
لجهد واسع عميق مبارك سلك فيه الباحث محمد سلاّم جميعان طريق التحقيق وإعمال الفكر
والربط الواعي بين المفاهيم في محاولة للخروج عن جادة المطروق.
في
هذا الكتاب، (الوحي والشعر/ مركز معرفة الإنسان للدراسات والأبحاث والنشر، ط1
2018)، يروم الكاتب جديدا يخالف به من وقفوا أمام بوابة الشعر وتحدثوا عن فنونه
ووسائله وغاياته التي حصروها في الوساوس والأخلاط وأضغاث الأحلام وغير ذلك من
فواصل الخطاب الذي يُعلي من النفي والإثبات، خارجا بذلك عن لب ما يهدف إليه القرآن
ورسالته الخالدة التي تتمثل في مجاوزة الواقعة زمانا ومكانا، وصولا لقيمة تتمركز
في معنى كلي شمولي.
يقف
الباحث أمام ظاهرة وجدها في كتب التفسير والحديث والأدب، رأى فيها أن لفظتي
"الشعر" و " الشعراء" في النص القرآني يدور حولهما الحديث
دونما احاطة تامة عميقة، حيث تعامل المفسرون معهما كوحدات جزئية دون التفات لغائية
تكرار اللفظتين في مواقع مختلفة، يربطها مقصد خطابي يسهم في تشكيل رؤيا ترتبط
بالإنسان والعالم، حيث هدف النص القرآني أن ننتقل من الكلمة اللغوية إلى العالم،
في الوقت الذي ذهب المفسرون لإعطاء النص بعدا أحاديا تمثّل في الفصل بين الوحي
والوجود، من هنا لجأ الباحث في كتابه للعناية باستقراء الرؤية القرآنية للشعر
والشعراء بكل ما يمثل ذلك من الفاظ وتعبيرات ومفاهيم، ترتبط دلالاتها بمفهوم
الشعر، ضمن السياق القرآني، كما استقرأ كتب الأدب والتفسير واضعا الألفاظ
والتعابير والمفاهيم في مجال موضوعي دلالي واحد باعتماد مجموعة ضوابط أولها، أن
القرآن كتاب هداية ودستور هدى، محكم الآيات واضح المعنى، يسمو بالنفس ويحملها
لمرافئ العبودية الخالصة، ولأن الكتاب المجيد كتاب حق ومشعل هداية فإن هذا يستلزم
زعزعة القيم القديمة وطمسها والوقوف أمام السائد والمتداول، وبناء عليه يتم إسقاط
وهدم المرجعيات المعرفية القديمة وكل أباطيلها.
يقف
الأستاذ «جميعان» أمام قضية تستحق المعالجة وهي أن العرب قبل الإسلام قد تشبّعوا
بما لدى الأمم المحيطة بهم وتفاعلوا مع حضاراتهم وثقافاتهم، وبما كان لدى أهل
الكتاب كذلك من ثقافة وأحاديث وأقوال من قبل أن يبعث فيهم رسولهم من بين ظهرانيهم
، فقد اطلعوا بعد الإسلام على ما لدى الكتابيين وغيرهم من الأقوام واستوعبوا
ثقافتهم وتراثهم وما فيه من أخبار وقصص وأحاديث وشرائع، ولمّا كان معلوما أن الحق
سبحانه قد وجه أنظارنا لتلك المصادر المعرفية التي طالها التشويه والتحريف، إلا أن
الخلق عبر الأزمان المتتابعة والأماكن المختلفة، ولبواعث كثيرة كالجهل والدسّ، قد
وصلتهم المعارف مع الأجيال بصورة غير نقية فيها الكثير من الشوائب التي طالت جذور
المفاهيم التي شاعت وانتقلت إلى أن طغى غير الصحيح والناقص، وصار هو الطاغي ووصل
حد المسلمات.
من
هنا فإن الانطلاق من القرآن الكريم المحكم الآيات والمفصّل على نحو لا يلتبس
بالذوق والوهم، حيث جاء لتأهيل الإنسان لدوره الوجودي الكونيّ توحيدا وتزكية
وعمرانا واستخلافا، لهذا فقط أمر الحق بني البشر لفتح أقفال قلوبهم وعقولهم لتدبّر
النص القرآني وتأسيس قواعد لفهمه وتشكيل الاعتقادات والتصورات ما دامت الظاهرة
القرآنية تتأسس لسانيا على نظام منهجي مضبوط لا يُقبل معه عقلا أن يكون القرآن
حمّال أوجه ترضية للهوى والأيديولوجيا والسياسة والمذهب، ولهذا علينا الا نُسقط
بلاغة البشر بكل قصورهم ومحدودية ملكاتهم وفهمهم على البلاغة القرآنية، فالألسنية
القرآنية كونها كلام الله، تتعالى على مواضعات البشر وتخريجاتهم البلاغية
والنحوية، حيث دلالات الألفاظ تحمل في ذاتها عوائد معرفية تنفي أي تضاد أو ترادف
أو اشتراك، وإن أغفال أهل التفسير واللغة لهذه الحقيقة هو الذي مكّن التراث
المدوّن من فرض منطقه على القران وفق تراتبية معكوسة (اعتقاد – قواعد - قراءة
القرآن وفهمه) فللقرآن لغته الاصطلاحية الدقيقة التي لم تأخذ حقها الكافي من قبل
التراثيين الذين ركزوا على المصدر البشري للغز فدوّنوا لسان العرب ولم يدونوا لسان
القرآن، وانصرفوا للإعراب والبحث عن عجائب القرآن وبلاغته، وفسّروه بدلالات
الفاظهم هم وليس بدلالات ألفاظ القرآن، فاللغة كما تظهر في القرآن قضية منهجية
اصطلاحية ذات محمولات معرفية، بينما لسان القرآن هو الحالة المثالية التي تستوعب
التوحيدية التي انبثّت الدعوة إليها في آياته المجيدة التي هي وحي الهي مطلق في
عالميته ورسالته وحاكميته، كيف لا والقرآن تنتظمه وحدة سياقية اتساقيه على نحو
تام، فهو وحدة واحدة في الفاظه وعباراته وصوره حتى لتبدوا كلها آية واحدة، ناهيك عن
أن القرآن يعمل وفق قانون التبيين الذاتي، فهو مّبيّن لكل شيء ومبين لذاته، وذلك
بتحقيق فعل (التدبّر) الذي جاء بصيغة المضارع لكشف دلالة التجدد والاستمرارية في
النظر والمنهج.
يتأسس
بحث «جميعان» على مقاربة مفهوم الشعر وفق علم الدلالة القرآني منطلقا من مصطلحين
رئيسين: الوحي والشعر بالتركيز على المعنى الذي يوظف عددا من الحقول المعرفية التي
تساعد على سبر النص القرآني واستنطاقه مع الأخذ بمقاصده العليا، وبهذا يكون هدف
البحث السعي لتأصيل مفهوم الشعرية كما يعرضها القرآن ضمن مواصفات بيئته الثقافية
والمعرفية والدينية التي نزل فيها، بعيدا عن فكرة خوض معركة مع
الشعراء أو المفاضلة بينهم على أساس من الكفر والإيمان
بالرسالة الجديدة، بل الاكتفاء بعرض المسألة بقدر اتصالها بفكرة الوحي والنبوة
والرسالة ، بمعنى أن القضية موضوع عقدي وليس معالجة لجانب فني، حيث أن غاية القرآن
من عرض المسألة الشعرية ذهب لترسيخ مبدأ أن القرآن تنزيل عزيز رحيم يدرأ شبهات
وُجدت في المجتمع المكي الذي نسب التنزيل الإلهي للشياطين ووساوس الجن ولأساطير
الأولين وقصص الكهان، وهذا ما لم يتعرض لمناقشته أحد من المعاصرين ولا السابقين
عند الحديث عن موقف القرآن من الشعر والشعراء وبالتالي لم يتم ربط حياة العرب في
الجاهلية وبيئتهم الثقافية والمعرفية والدينية بالأصول التي نشأ عليها الشعر كصورة
معرفية شكّلت تصوراتهم واعتقاداتهم عبر مسيرتهم التاريخية.
من
هنا تتبدى ضرورة إرجاع الشعر الجاهلي لجذوره ضمن بيئته الثقافية المعرفية الدينية
كطقس ديني حامل لأكبر معتقداتهم في النظر للخالق والكون والحياة حتى يتسنى لنا
إدراك أبعاد مفهوم الشعر كما طرح في كتاب الله العظيم الذي تجلت فيه وحدة الرسالة
ووحدة المنهج والتعبير المحكم ومصداقية الخبر، وكشف علاقاته والتباساته بالكهانة
والسحر والجنون وأساطير الأولين، والوعي على الدور الذي نهضت به شخصية تسلحت
بمعارف كثيرة لمواجهة الرسالة المحمدية – شخصية النضر بن الحارث – وكشف خطابها.
يقع الكتاب في فصول خمسة ، تتداخل مضامينها لغزارة المادة وسعتها وعمقها، ولذلك فإن القارئ له يحتاج لصبر ودقة وتمهل حتى يلم بتفاصيله والوصول إلى كنوزه، ولعل الناظر لقائمة المصادر والمراجع التي اعتمد عليها الباحث لتدل على أن جهده الخيّر الجاد وقضى في سبيله سنوات يعكس اهتماما وعمقا في تناول مسألة واسعة ودقيقة تغاير في أسلوبها ومنهجها نمط الأبحاث التي تغزونا تحت عنوان الحصول على شهادة أكاديمية ولا فضل لكاتبها غير تجميع الأقوال وترتيبها دون أن نلمس في الغالب الأعم رأي الباحث الذي يضيع وقته في النقل والقص واللصق ولا نلمس له أي أثر فكر ولا رأي نقدي.
إرسال تعليق