نحن محاطون بالعالم، والكلمات تم
نحنا الفرصة لفهمه واستيعابه، ولكن تبقى العلاقة بين ما نرى وما نعرف
لم تحسم بعد. في دورة الحياة اليومية نرى الكثير من المظاهر تتكرر وتضيف إلى
ذاكرتنا معارف جديدة، ونسعى دوما إلى توصيف ما نراه، وهذا يعني أن هناك الهوة بين
الرؤية كفعل والمعرفة، باعتبارها خبرة متراكمة ما زالت قائمة، وتحتاج إلى أن تردم
بالكلمات والألوان والأنغام، وبكل الصور التي تنتهجها مخيلة المبدعين. وهنا يشير
جون بيرجر مؤلف كتاب «طرق الرؤية» الصادر عام 2018 عن دار المدى إلى أن الطريقة
التي نرى بها الأشياء تتأثر بما نعرفه ونؤمن به، بمعنى أن الرؤية تنهل من المعرفة
مساراتها، ولن تكون منفصلة عما نحمله من أفكار مسبقة، ويضرب مثالا على ذلك، عندما
يؤمن إنسان العصور الوسطى بالوجود الفيزيولوجي لجهنم، فإن رؤية النار ستعني
بالتأكيد شيئا مختلفا عما تعنيه اليوم، ومع ذلك فإن فكرته عن جهنم تدين بالكثير
لرؤيته النار النهمة، وبقايا الرماد إضافة لتجربته آلام الحروق.
الصورة طريقة رؤية
هنالك أشياء معينة ننظر
إليها يوميا في البيت، وفي مسارنا الروتيني إلى العمل، ولا نمل من النظر إليها
مئات المرات، فهل نحن في هذه الحالة ننظر إلى شيء واحد؟ هنا يرى بيرجر أن فعل
النظر في جوهره يعني النظر إلى العلاقة بين أنفسنا والأشياء، لأن الرؤية ليست
خاملة بفعل التكرار، إنما فاعلة على الدوام ودائمة الحركة، تحتفظ على نحو متواصل
بعلاقة مع الأشياء في دائرة حولها، وهذا التفسير يصل به إلى أننا نحاول أن نصوغ
حاضرنا، وفور تمكننا من الرؤية فإننا ندرك أننا مرئيون أيضا، تندمج عين الآخر مع
أعيننا بما يضفي مصداقية كاملة على كوننا جزءا من عالم مرئي، وهذا تأكيد على
تبادلية العلاقة في الرؤية وأنها أكثر أصالة مما هي عليه في الحوار الناطق، فعلى
سبيل المثال إن قبلنا أن بمقدورنا رؤية تلك التلة هناك، فإننا نقدم إمكانية أن
نُرى من تلك التلة، والحوار من وجهة نظره غالبا ما هو إلاّ توصيف، ومحاولة لشرح
الكيفية، سواء مجازيا أو حرفيا، فأنت ترى الأشياء ومحاولة اكتشاف كيف يرى هو
الأشياء، ليصل المؤلف في جهده إلى أن المعنى الذي تستخدم فيها الكلمة في هذا
الكتاب يقول لنا أن كل الصور من صنيع الإنسان، فكل صورة هي نظرة أعيد خلقها أو
إنتاجها، إنها ظهور أو مجموعة من التمظهرات اقتطعت من المكان والزمان، وقد ظهرت
وحُفظت فيهما لبضع دقائق أو بضعة قرون، كل صورة تجسد طريقة في الرؤية، بما في ذلك
الفوتوغراف، ذلك أنه ليس تسجيلا ميكانيكيا، كما يعتقد غالبا، ففي كل مرة ننظر فيها
إلى صورة فوتوغرافية فإننا نعي مهما كان ذلك ضئيلا، أن المصور اختار المنظر من بين
عدد لا متناه من المناظر الأخرى المتاحة، وهذا حقيقي أيضا بالنسبة لأكثر الصور
العائلية عادية، ويضيف في إطار رؤيته لعمل المصور الفوتوغراف أن طريقته في الرؤية
تنعكس في اختياره الموضوع، وعلى العكس منه الرسام، لأنه يعيد تكوين طريقته في الرؤية
بواسطة العلامات التي يصنعها على القماش أو الورق. ورغم أن كل صورة تجسد طريقة
رؤية، إلا أن إدراكنا أو قبولنا لها يعتمد أيضا على طريقتنا في الرؤية، فعلى سبيل
المثال قد تكون المرأة «س» شخصا واحدا من بين عشرين، ولأسبابنا الخاصة فإن أنظارنا
معلقة بها تحديدا.
يعلق جون بيرجر أهمية
كبيرة على الصورة، أكثر بكثير من النص، وأي أثر آخر في تقديم شهادة عن العالم
المحيط بنا، وعن الماضي وعن أناس آخرين عاشوا في أزمنة أخرى، ويجد في الصورة دقة
وغنى أكثر من الأدب، وفي الوقت نفسه هذا لا يعني من وجهة نظره إلغاء السمة
التخيلية للفن، والإبقاء على النظرة التوثيقية، بل يجد أن التخييل يوفر فرصة ثمينة
لكي نتشارك بعمق مع الفنان في تجربته. وبناء على ذلك يطرح تساؤلا عن السبب الذي
لأجله صنعت الصورة؟ ويرى الإجابة يمكن العثور عليها في محاولة الإنسان استحضار شيء
كان غائبا، وبالتدريج بدا واضحا أن بمقدور الصورة أن تديم ما تمثله، كما أنها تظهر
الهيئة التي كان عليها شيء ما أو أحد ما، بالتالي فقد تضمنت الصورة في حيثياتها
الكيفية التي رأى فيها الآخرون الموضوع ذات مرة، على اعتبار رؤية صانع الصورة جزءا
من التسجيل، أي أن الصورة بوصفها تسجيلا للكيفية التي رأى فيها المصور الشيء، ويرى
أن ذلك نتيجة لتزايد الوعي بالتاريخ.استحضار شيء كان غائبا
فرضيات التلقي
في تأمله لموضوع
الصورة، عندما يتم التعامل معها من قبل المتلقي باعتبارها عملا فنيا يصل إلى نتيجة
مفادها أن نظرة المتلقين ليس مبعثها التلقي الآني، بما تحمله من مشاعر وانطباعات
آنية، بقدر ما يؤكد على أن هناك سلسلة من الفرضيات المكتسبة عن الفن، هي التي تؤثر
في تحديد انطباعات المتلقي مثل: الجَمَال، الحقيقة، الشكل، إلخ. وهذه الفرضيات
حسبما يرى لم تعد تتناغم مع العالم الموضوعي، ويجدها تحجب الماضي بدون ارتباط دقيق
مع الحاضر، بمعنى أنها تؤدي إلى زيادة الغموض أكثر من الوضوح، فالماضي من وجهة
نظره لم يكن يوما متواجدا ليتم اكتشافه أو إدراك ماهيته تماما، بالتالي يصل في
رؤيته لهذه الفكرة إلى أن الخوف من الحاضر يؤدي إلى غموض الماضي، الذي لم يَنوَجِد
لنعيش فيه، لكنه وكما يصفه بئر الوعي التي نسحب منها لنفعل.
الصورة واللوحة علاقة
تقاطع
وفي سعيه إلى فك
الاشتباك الجمالي لدى المتلقي بين صورة فوتوغرافية ولوحة فنية، يرى بيرجر أن رؤية
صورة أو منظر من الحياة فإن المتلقي يموضع نفسه فيه، بينما في اللوحة الفنية يموضع
نفسه في التاريخ، ويمضي في هذا السياق معلقا على الأعمال الفنية التي تم إنتاجها
في الماضي، ويسجل ملاحظة حول فن الماضي، إذ يجد أن هالة من الغموض قد جرت إحاطته
به، وأسباب ذلك، كما يعتقد، تعود إلى أن أقلية مختارة تسعى لابتكار تاريخ بمقدوره
خلق مبررات استعادية لدور الطبقات الحاكمة، ويرى أن هذا التبرير لم يعد قادرا على
أن يحتفظ بمعناه في اللغة الحديثة، بالتالي فإن تلك الأقلية ستسعى للغموض لا
محالة، ويأخذ مثالا على ذلك لوحة «القائمات أو القائمين على مأوى الفقراء» للرسام
البلجيكي فرانس هال (1583- 1666) حيث كُلِّف رسميا بأن يَرسم القائمين على مأوى
العجزة الفقراء في القرن السابع عشر في مدينة هارلم الألمانية، ورسمهم في لوحتين،
وهنا يعلق بيرجر على اللوحتين وكانت رؤيته تتلخص في أن من المتعذر الخلوص إلى دليل
ظرفي يؤسس لما كانت عليه العلاقة بين الرسام والقائمين على المأوى، لأن المعلومات
قليلة جدا عن الرسام والقائمين، لكنه يقودنا إلى استنتاج آت من اللوحتين، وهو
استنتاج ماثل بالكيفية التي يرى فيها رجل مجموعة من الرجال والنساء، وهذا الرجل هو
الرسام، وهنا ينصح بيرجر القارئ بأن يدرس الاستنتاج ليحكم بنفسه بعد أن يرى
اللوحتين. واستنتاجه يعبر فيه عن خشيته كمؤرخ فني من إطلاق حكم مباشر على اللوحة،
من بعد أن تغوينا مزاياها الفنية الثاقبة، فنعتقد متوهمين أننا نعرف خصال الشخصية
وعادات من جرى تصويرهم من الرجال والنساء. ويفسر لنا هذه الغواية أنها تتمثل في
أثر اللوحتين علينا، لأننا قبلنا الطريقة التي يرى فيها الرسام الجالسين أمامه.
الكاميرا والوعي بطُرقٍ
مختلفة
التساؤلات التي يطرحها
جون بيرجر في هذا الكتاب تدفعنا إلى أن نعيد نحن طرح الأسئلة بغية تجنب إضفاء
الغموض على الماضي، ومعاينة العلاقة بين الماضي والحاضر بالحد الذي تفرضه الصورة
من ضرورات، وإذا كان بمقدورنا رؤية الحاضر بالوضوح الكافي، فإننا سوف نطرح الأسئلة
الصحيحة المتعلقة بالماضي. وهنا يشير إلى أننا في أيامنا هذه نرى الفن كما لم يره
أحد من قبل، فنحن نعيه بطريقة مختلفة، فما تراه يعتمد على أين كنت ومتى، بمعنى أن
ذلك مرتبط بتموضعك في الزمان والمكان، وهنا يؤكد بيرجر على أن هذا الاختلاف في
الرؤية قد أصبح واقعا بعد اختراع الكاميرا التي أثبتت بطلان فكرة أن كل رسمة أو
لوحة تستخدم المنظور، تقترح على الناظر أن يكون مركز العالم، وهذا ما كانت قد
أرسته النهضة الأوروبية، عندما أطلقت مصطلح المنظور، حيث يتم مركزة كل شيء في عين
الناظر، بالتالي فإن المنظور يجعل من العين الواحدة مركز العالم المرئي، في مقابل
ذلك يرى بيرجر أن الكاميرا غيرت الطريقة التي يرى فيها البشر، وأصبح المرئي يعني
شيئا مختلفا بالنسبة إليهم إذا ما انعكس في الحال على الرسم. كتاب»طرق الرؤية «
يتألف من سبع مقالات، اربع منها تَستخِدم الكلمات والصور لإيصال الفكرة، وثلاث
تستخدم الصور فقط، والهدف الأساس من ذلك حسبما جاء على لسان المؤلف في المقدمة
كامن في إطلاق عملية المساءلة.
«طرق الرؤية»: جون
بيرجر . ترجمة زياد عبدالله
الناشر:دار المدى ـ
الطبعة الأولى 2018.عدد الصفحات 166
المصدر: القدس العربي
إرسال تعليق