كتبت بديعة زيدان:
"محمود درويش قال لي ذات مرة: إنه كتب رواية، وإنه لن يترك الساحة لنا كروائيين.. قال لي: إنه كتب رواية اسمها البيوت عن كافة المنازل التي عاش فيها داخل فلسطين أو خارجها، سواء في تونس أو القاهرة أو غيرهما، لا أدري إن كانت خطة، أم أنها فقدت بعد أن كتبها".. هذا ما قاله لي قبل قرابة العامين، الروائي المصري يوسف القعيد خلال حوار موسع خصني به.
هو لم يحسم أنّ محمود درويش كتب الرواية أم لا، كما أنه لا يعرف إن كانت فقدت حال كتابها.. وهنا تطرح "أيام الثقافة" تساؤلاً حول رواية "البيوت".. أينها؟
حول رواية "البيوت"
وفي مقال له بعنوان "الصعود إلى المنفى"، نشر في مجلة "الفيصل" الثقافية السعودية، قال الناقد فيصل درّاج: هجس الراحل محمود درويش، ذات مرة، بوضع كتاب نثري عن البيوت التي عاش فيها، وتخلى عن فكرته بعد أن أنجز جمال الغيطاني رواية "نوافذ النوافذ"، سجّل فيها حكايات غرف اختلف إليها.
ونشر الكاتب والإعلامي المصري محمد شعير في جريدة "أخبار الأدب" المصرية، مقالاً جاء فيه: ظل حلم محمود درويش مؤجلاً. الرواية، حلمه الذي طارده منذ بداياته، وحتي الرحيل.. كان موضوع الرواية المؤجلة: البيوت.
البيوت التي سكنها الشاعر، وتنقل بينها، ربما باعتبارها وطنه الأصغر في المنافي المتعددة التي مر عليها. بيته الأول في البروة هدمه الاحتلال، غرفة صغيرة في حيفا حيث فرضت عليه الإقامة الجبرية فيها، ولم يكن يغادرها بعد غروب الشمس.
وأضاف: غرفة أخرى بمدينة جامعية في موسكو، في القاهرة سكن في غاردن سيتي، وفي بيروت سكن شارع جان دراك في "الحمرا"، وفي باريس سكن "7 ميدان الولايات المتحدة"، وفي الطرف الثاني للميدان يقع بيت السفير المصري. وعندما تركها اختار عمّان العاصمة الأردنية لأنها كما يقول في واحد من حواراته: مدينة هادئة، شعبها طيب، وقريبة من فلسطين وفيها أستطيع أن أعيش حياتي. وعندما أريد أن أكتب أخرج من رام الله لأستفيد من عزلتي في عمّان.
وحسب شعير: في عمّان لم يستأجر الشاعر، كما فعل في المدن التي سكنها من قبل، وإنما امتلك بيتاً للمرة الأولي. أراد أحد المقاولين - عندما علم أن محمود درويش يبحث عن بيت يستأجره - أن يهديه له، ولكن الشاعر رفض الأمر بقوة، ومع تدخلات الأصدقاء، اشترى محمود البيت بسعر التكلفة. البيت في الطابق الرابع لشارع هادئ بمنطقة عبدون في وسط المدينة، وكان محمود يسكن في شقة، لا كما يتردد عنه في قصر فاخر في مناطق الأثرياء .. حارس العقار مصري، قرر أن يغادر البيت بعد موت محمود، كما قال للمقربين منه: لم يعد لي أحد هنا، وسأرحل.
وكتب الشاعر يوسف أبو لوز في مقال له: كان محمود درويش قارئ رواية من طراز رفيع عربياً وعالمياً، وحياته كانت رواية متنقلة من عاصمة إلى عاصمة.. من حيفا إلى القاهرة إلى بيروت إلى تونس، إلى العاصمة الأردنية عمّان، وأخيراً إلى رام الله، وهو قال ذات مرة: إنه كان يأمل بأن يكتب رواية أو يكتب مدنه والبيوت التي عاش فيها في هذه المدن.
ما قاله أصدقاؤه
توجهت بالسؤال عمّا إذا
كان درويش كتب رواية من عدمه.. وإذا كان كتبها: فهل كانت هي التي حملت عنوان
"البيوت"؟ وإن كانت مخطوطة فأينها؟
الروائي إلياس خوري، وهو صديق مقرّب من محمود درويش، أجاب باختصار لـ"أيام الثقافة": لا أعرف شيئاً عن الموضوع، ولا أظن أنه صحيح.
الناقد صبحي حديدي، وهو من أصدقاء درويش المقربين أيضاً، أجاب: بحكم صداقة وثيقة، تجاوزت الصلة المعتادة بين شاعر كبير ودارس أدب، تكرّم الراحل محمود درويش فأطلعني على جميع مخطوطات أعماله منذ "أحد عشر كوكباً" (1992)، وحتى رحيله، سواء تلك التي اكتملت ونشرها، أو التي لم تكتمل فتأجل نشرها أو أحيلت إلى أرشيفه. وفي حدود هذا الاطلاع، لست على معرفة بأن الراحل أنجز رواية، أو عملاً نثرياً متكاملاً على غرار "ذاكرة للنسيان" مثلاً، وامتنع عن نشره. وبالتالي لم أسمع منه يوماً أي إشارة إلى رواية من تأليفه بعنوان "البيوت"، يحتفظ بها أو كتبها وأتلفها، أو أنه بصدد كتابة عمل روائي.
وأضاف حديدي لـ"أيام الثقافة": في المقابل، قد يكون مفيداً استذكار أن الراحل كان قارئاً نهماً للرواية العربية والأجنبية، وقد ردّد أمامي مراراً أنه يقرأ سرداً أكثر ممّا يقرأ شعراً. كذلك كانت عناصر الفنّ في الرواية، مثل اللغة وتقنيات السرد وتطوير الشخصيات في سياقات زمانية ومكانية وبناء الحسّ الملحمي، تجتذبه أكثر من حشد النصّ الروائي بمضامين القضايا الكبرى.
الكاتب والمترجم فادي جودة، والذي ترجم شعر درويش، قال لـ"أيام الثقافة": فكرة أن محمود درويش حاول كتابة رواية في صغره مقولة صحيحة، ولكن لا أدري إن كان وضع لها اسماً بالأساس .. أتذكر أنه في أحد الحوارات الصحافية تحدث عن أنه كان "يخربش" رواية ما، ولكنه لم يتحدث عن ماهية ما وصلت إليه هذه "الخربشات".. لا أعتقد أن الأمر انتهى برواية أو مخطوط على مستوى الإنجاز.
وأضاف جودة: من يعرف درويش يدرك تماماً أنه لا يرمي الكلام جزافاً، وربما كان تحدث عن نوايا لكتابة رواية ما، لكني أعتقد أنه قد يكون هناك شيء من الصحة في أنه كان لدرويش محاولات نثرية، إن جاز التعبير، لكن يمكنني القول: إن دحض هذه المقولات أهم من التماهي معها، والانسياق وراءها، خاصة أن هناك من قد يتحدث على لسان درويش، وينسب أعمالاً له، خاصة أن درويش غير موجود لينفي أو يؤكد، وهذا لا ينطبق على تصريحات بعينها، بل حديث بالعموم.. في نهاية المطاف لا شيء يؤكد لي أن ثمة طرحاً واقعياً كهذا، إلا إذا كان من تحدث عن الرواية المفترضة لديه أدلة على ذلك.
أما الشاعر طاهر رياض، فقال لـ"أيام الثقافة"، في ذات السياق: لا أذكر أن محمود صرّح يوماً برغبته في كتابة رواية بالمعنى الفني.. ولا أظن أنه كتب أي رواية.. كان يحب السرد لكن على طريقته في كتابه "ذاكرة للنسيان".. على الرغم من شغفه بقراءة الروايات وذوقه العالي في نقدها.
درويش والأدب النثري
في حوار مع جريدة الحياة اللندنية العام 2005، قال درويش: مع حبي غير المحدود للرواية لم أفكر يوماً في كتابتها. لكنني أغبط الروائيين لأن عالمهم أوسع. والرواية تستطيع أن تستوعب كل أشكال المعرفة والثقافة والمشاكل والهموم والتجارب الحياتية. وتستطيع أن تمتص الشعر وسائر الأجناس الأدبية وتستفيد منها إلى أقصى الحدود.. كتبت الكثير من النثر، لكنني ظلمت نثري لأنني لم أمنحه صفة المشروع.. أكتب نثراً على هامش الشعر أو أكتب فائضاً كتابياً أسميه نثراً. ولكن لم أُولِ النثر الأهمية التي يستحقها،. علماً أنني من شديدي الانحياز إلى الكتابة النثرية. والنثر لا يقل أهمية عن الشعر. بل على العكس، قد يكون في النثر مساحة من الحرية أكثر من النثر. فإذا جفّ نصّي الشعري فقد ألجأ إلى النثر وأمنحه وقتاً أكثر وأولية جدية أكثر.
وأضاف في الحوار ذاته: عندما كنت أكتب نثراً كنت أشعر أن النثر يسرق مني الشعر. فالنثر جذاب وسريع الانتشار، ويتحمّل أجناساً أدبية أكثر من الشعر. ويستطيع أن يهضم الشعر ويعطيه مساحة وحركة أكبر. وكنت عندما أكتب النثر انتبه إلى أنني نسيت القصيدة وأن عليّ أن أعود آليها. هكذا أكون بين النثر والشعر، لكنني معروف بأنني شاعر ولا أسمّى ناثراً.
وتابع: ما دمت أكتب نثراً فأنا أكتب النثر، من دون أن أسميه قصيدة. لماذا ننظر إلى النثر نظرة دونية ونقول إنه أقل من الشعر؟ صحيح أن النثر يطمح إلى الشعر والشعر يطمح إلى النثر... يعجبني قول للشاعر باسترناك: أجمل ما في القصيدة ذلك السطر الذي يبدو نثرياً.. لا أريد أن أفرّق كثيراً بين الشعر والنثر، ولكن انطلاقاً من التجنيس الأدبي ما زلت أعطي للنثر اسمه وللشعر اسمه. لكن السؤال هو: كيف تتحقق الشعرية في قوام قصيدة؟ وأعتقد أن علينا أن نوقف النقاش حول الفارق أو الاختلاف أو الائتلاف أو الابتعاد أو الاقتراب بين قصيدة النثر والقصيدة. هذا السجال تجاوزه العالم. أما إذا سألتني عن رغبتي في كتابة قصيدة نثر، فأرجو أن أكتب نصاً نثرياً من دون أن أسميه قصيدة نثر.
وفي حوار مع مجلة "نزوى" العُمانية في العام 2002، نفى أن يكون هناك روائي ما يعتبره رافداً من روافده الشعرية، وشدد درويش على أنه في وقت سابق من ذلك التاريخ كان يقرأ الرواية، "لكن لم يعد لدي الكثير من الوقت.. تحتاج إلى وقت لتستمتع بشرط الرواية، أي المتعة.
وفي حوار مع محمود درويش يعتبره البعض الأول في الصحافة العربية، أجراه معه الناقد اللبناني محمد دكروب، ونشرته مجلة الطريق العام 1968 في موسكو، أول عاصمة يزورها، قال: لم أحاول كتابة القصة أو الرواية، ولا يبدو لي أني سأحاول رغم شغفي الشديد بقراءتهما. ولكنني مشبع بالرغبة في محاولة كتابة مسرحية شعرية.. أحب كتابة الأدب الصحافي، والريبورتاج، وتسجيل انطباعات عن الكتب والأحداث والأمكنة، وقد كتبت مئات المقالات من هذا النوع. ولكنني في السنة الأخيرة لا أكتب إلا المقال السياسي أو التعليق، وأتمتع بكتابة الأخبار السياسية.
وفي حوار مع صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في العام 2007، تطرق للحديث عن "البيوت"، فقال: لا أملك بيتاً. غيّرت بيوتاً كثيرة جداً، لا أملك بيتاً بالمعنى العميق للكلمة. البيت هو المكان الذي أنام وأقرأ وأكتب فيه. وهذا من الممكن أن يكون في كل مكان. عشت في أكثر من عشرين بيتاً ودوماً ما كنت أترك أدوية وكتباً وثياباً وخطابات، وأهرب.. ليس لديّ حنين خاص لبيت بعينه. البيت ليس فقط الأغراض التي تركتها. البيت هو مكان وبيئة. لا أملك بيتاً. كل شيء متشابه. رام الله مثل عمّان مثل باريس. ربما لأنني تربيت على الحنين فلم يعد مناسباً لي أن أشعر بالحنين أكثر، وربما بهتت مشاعري، ربما انتصر الإيقاع على المشاعر وتعاظمت السخرية. أنا لم أعد نفس الشخص.
وكان درويش كتب كثيراً عن "البيوت" في
قصائده، ومنها "البيت قتيلاً"، وجاء فيها: بدقيقة واحدة، تنتهي حياةُ
بيتٍ كاملة. البيتُ قتيلاً هو أيضاً قَتْلٌ جماعيّ حتى لو خلا من سُكَّانه. مقبرة
جماعية للموادّ الأولية الـمُعَدَّةِ لبناء مبني للمعنى، أو قصيدةٍ غير ذات شأن في
زمن الحرب. البيت قتيلاً هو بَتْرُ الأشياء عن علاقاتها وعن أسماء المشاعر. وحاجةُ
التراجيديا إلي تصويب البلاغة نحو التَّبَصُّر في حياة الشيء. في كل شيء كائنٌ
يتوجَّع... ذكرى أَصابع، وذكرى رائحة وذكرى صورة. والبيوت تُقْتَلُ كما يُقْتَلُ
سكانها. وتُقْتَلُ ذاكرةُ الأشياء: الحجر، والخشب، والزجاج، والحديد والاستثمار
أشلاء كالكائنات والقطن والحرير والكتّان والدفاتر والكتب تتمزّق كالكلمات التي لم
يتسَنَّ لأصحابها أن يقولوها. وتتكسَّر الصحون والملاعق والألعاب والأسطوانات
والحنفيّات والأنابيب ومقابض الأبواب والثلاّجة والغسَّالة والمزهريات ومرطبانات
الزيتون والمخللات والمعلبات، كما انكسر أصحابها.
_______
الأيام
إرسال تعليق