هذه الرواية هي إحدى الأعمال الكلاسيكية الرائعة
للأدب الدنماركي، ترجمتها عن الدنماركية الكاتبة دُنى غالي.
ففضلاً عن التفاصيل الدقيقة التي تُقدّمها الرواية عن حالة البطل، فهي تتناول بتحليل عميق الشك الذي يُصيب الإنسان في بحثه عن الحقيقة، معنى وجوده وأهمِّيته. ما معنى الدِّين ودوره؟ هل تختلف الكاثوليكية في نظرتها إلى الإنسان؟ ومن الذي يقرّبُ الإنسان من المسيح؟ هل هو انسحابهُ؟ أم إيمانهُ الدِّيني؟ هذا ما دفعَ صاحب نوبل للآداب (1930) كنوت هامسن لكتابةِ رسالةٍ يوم 6-12-1930 إلى كريستينسن، بعد أن فرغ من قراءة الرواية، وجاء فيها: «لقد عشتُ ليومٍ وليلةٍ مع ياستراو والآخرين، لكن رفقتي لهم انتهت الآن، وها أنا أجلس مريضاً بشوقي للمزيد منهم. أشعرُ بفراغٍ كبيرٍ حقاً بانتهائها. لا أدري إن كنت قد أُخِذْتُ يوماً بكتابٍ ما في حياتي، وزوجتي شهدت كيف كنتُ أقرأ – أقرأ وأستشهد – وهي قد شرعت بقراءتها الآن. عملٌ عبقري عظيم. أرجو منك أن تتقبَّل مني خالص التهنئة. لديَّ كتبي، ولا ينقص العالم كتبٌ، ولكن عليَّ الآن أن أتواضع، فلا كتاب مثل كتابك».
إنَّ البطل الذي يُديرُ أسئلته، ويتفحَّصُها، يواصلها نحو الحدود الوجودية كالأبدية، والخلود، بيد أنَّه يعود بها إلى الواقع الإنساني الفعلي، متسائلاً إن كان اتّباع الرّغبات، بممارسة الجنس وشرب الكحول والانغماس بالملذّات هو الطريقُ نحو الأبدية؟ وما القيم الأخلاقية؟ هذه المشاغلُ الذهنية التي اهتمَّ بها الروائي توم كريستينسن في روايته هذه لم تكن غريبة عن اهتمامات الجيل الذي عاش الدَّمار، ولازمه الشكّ في المثل العليا بعد حدوث انحرافٍ أخلاقي، خلّفته الحرب العالمية الأولى. ومن الواضح أنَّ ما وصفه في رحلة آلام بطله كان موضوعة حية عصرية وجوهرية في الأدب العالمي.
وبصراحةِ كاتبٍ حرٍّ يعترف توم كريستينسن أنه رسم صورته الشخصية بقوله: «كتبتُ عن صورتي الشخصية من دون اعتبارات، بمقاسي الطبيعي قدر الإمكان... كانت هناك لحظات في أثناء كتابتي للرواية، تناولتُ فيها شخصي كحيوان من الرخويات، لأني جمعتُ في البطل نقاط ضعفي الشخصي كلها... أمّا الريش الفولاذي... أو اللولب الذي أدّى إلى توقّفي عن تعاطي الكحول، وحوّلني إلى رجلٍ ممتنع عن المُسكِرات، فقد أبعدتُهُ عن الشخصية تماماً، فأنا لم أشأ أن أكتب رواية عن «كيف تمتنع عن الكحول»، لا يمكن الاقتناع بهؤلاء إلا في الواقع، وليس في الكُتُب»
من أجواء الرواية: «كم كانت السماء زرقاء فوق السقوف والمداخن المظلّلة! لونٌ كثيف مفعم بالروحي! ولكنْ، لا، لمْ يستطع التوقّف عن التفكير بالقصيدة، كيف قرَأها ستيفان، يا ترى؟ كيف التَحَمَ صوتُه الخشن المزدري بتلك الكلمات؟ هناك ولا شكّ شعراء لا يقرؤون شِعرهم بصوت عالٍ إطلاقاً، يكتفون بمَدّ ورقةٍ بخطّ اليد، نوعٌ غريب أخرس ذو نظرة متمرّدة ووجه متجهّم. كان ياستراو يعرف تلك الوجوه حقّ المعرفة. ولكنْ، هل كان ستيفان كذلك؟».
كان كريستينسن من بين أكثر كُتّاب جيله مقاومةً
وعناداً وتأثّراً بالأفكار التي استجدَّت، والحركات الفنيّة والأدبية الجديدة، عدا
عن طبيعته المتمرِّدة الصدامية التي تجلّت في شبابه الأول سعياً لاكتشاف نفسه. في
عام 1967 قدَّم استقالته من وظيفته في جريدة البوليتيكن وانتقل إلى شمال جزيرة
شيلاند لينصرف لكتابةِ «هَدْم» والتي استغرقته ثلاثة أعوامٍ بعد توقّفه تماماً عن
تعاطي الكحول. دُفن توم كريستينسن في جزيرة ثورو جنوب الدنمارك، وهو المكان الصغير
المنعزل الذي قضى فيه مُعظم حياته وعلى حجارة قبره الضخمة تمَّ حفرُ بيت شعر، كتبه
كريستينسن في العام 1967:
أنحني قدر استطاعتي/ ليبدو العالمُ كبيراً».
___
الحياة
إرسال تعليق