الشعر في الأردن: مسارات ورؤى ومشارب/ جعفر العقيلي
المتأمّل في المشهد الشعري العربي في شكل
يجده واحدًا في واقعهِ، وفي التحديات التي يواجهها، وفي الأسئلة الأكثر إلحاحًا
المطروحة على الشاعر، وكذلك في المأزق الكبير الذي يعيشه الشعر العربي اليوم. لكن
الأمر لا يخلو من فروقات وتباينات في التفصيلات بين بلدٍ وآخر، تبعًا لطبيعة
التجربة في كل بلد، وامتداداتها التاريخية والمعاصرة، والسياق العام الذي يتحرك
الشعراء –وبقية المبدعين- في إطاره، وبخاصة في ظل التحولات الكبرى التي شهدتها
السنوات الأخيرة، على الصعد كافة.
وفيما
يتعلق بخصوصية التجربة الأردنية، شهد العقد الأوّل من الألفية الثالثة فورةً شعرية
نوعية في الأردن ببروز ثلّةٍ من الشعراء الشباب من الجنسين أكثرهم من طلبة
الجامعات، غير أن تلك الفورة أخذت تخفت بحسب الشاعر والناقد والأكاديمي خالد
الجبر، في ظل «التغيّرات الهائلة في الحياة الاجتماعية، وتراجع الاهتمام بقطاع
الشباب، وانحسار الاهتمام المجتمعيّ بالشعر نتيجةً لتركيز النقّاد والمؤسّسات الثقافية
على الرّواية، وذبول الوجدان الجمعيّ حيال القضايا الكبرى».
خالد الجبر
ومع
ذلك، فإنّ عددًا من كتّاب الشعر تمكّن من تحقيق منزلةٍ واضحةٍ في العالم العربيّ؛
ومنهم بحسب الجبر: نبيلة الخطيب، ومها العتوم، وراشد عيسى، وناصر شبانة، وسعيد
يعقوب، وعماد نصّار، ومحمد مقدادي. ويرى الجبر أن شعراء القصيدة الكلاسيكية وشعراء
التفعيلة تمكّنوا من تجاوز العقبات التي فرضتها «مصادرات الوسط الثقافيّ المنحاز
إلى قصيدة النثر منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين، ممتدّين بالقصيدة تشكيلًا
وبنيةً وصورةً ولغةً إلى آفاقٍ بدتْ ذات حينٍ في العصيّ البعيد. وهو ما يجعله يؤكد
أن بإمكاننا النظر اليوم إلى التنوّع البادي في الحالة الشعرية في الأردنّ بكثيرٍ
من التفاؤل، مطمئنّين إلى استعادة الشعر مكانته اللائقة في الحياة الأدبية على
مستوى الأمّة».
نبيلة الخطيب
أما
الشاعرة نبيلة الخطيب، فتقول: إن «حديث الواقع يختلف عن حديث التاريخ، وإن كانت
العلاقة بينهما جذرًا وساقًا، أو ساقًا وفرعًا، أو فرعًا وثمرًا». وتضيف أن هذا
يصْدُقُ على الأردن؛ «ذلك أن هذا البلد مرّ بخطّ لا عوج فيه، ولا مفارقات كبيرة،
بحكم «دكتاتورية» موقعه الجغرافي الذي فرض
عليه نمطًا متشابهًا من الأحداث والمواقف، فإذا نظرنا إلى مصطفى وهبي التل (عرار)
نراه امتدادًا لشعراء النهضة في ديار الشام في وجه الاستعمار، حتى شكّل مدرسة ما
زالت مؤثِّرة في الواقع الحديث، وإن دخل على الشعر بعض الاستحداث الفني».
ولأن
الــشعــــر الأردنـــــــي هو ابنُ واقعه بالضرورة، كما تؤكد الخطيب، فإنه لا
يستطيع أن ينسلخ من لحم عروبته وفلسطينه وقدسه وأقصاه، «فكانت هذه الجمرة
المتقدة التي قبض عليها الشاعر الأردني، وبخاصة بعد هزيمة 1967م، فعاش الهمّ
القومي والإقليمي والوطني مشبعًا بمضامين الوحدة والتحرر والتحرير، وعذابات الأخ
الشقيق، حتى وصل اليوم إلى مآسي الإخوة الأشقاء». والخطيب تردّ عدم اهتمام الناس
بالشعر في زمننا إلى عاملين: «أولوية المعيشة، والبحث عن مستوى من الكرامة مفقود،
وعدم وصول الشاعر إلى مستوى تطلعات وحاجيات الفرد العادي ولا حتى المثقف، فكانت
المسافة بين الشاعر والناس بائنة، بل هي تزداد بينونة! هذا هو المأزق الحقيقي الذي
يواجه الشعر ويجعله ينحسر حتى يكاد يغلق على نفسه الأبواب، رغبًا ورهبًا؛ إذ لا
ينفصل واقع الشعر العربي اليوم عن الواقع المتشظي».
مئات الشعراء وآلاف الأدعياء
ناصر شبانة
أما
الشاعر والناقد والأكاديمي ناصر شبانة فلا يتردّد في القول: إن الساحة الأدبية في
الأردن «تغصُّ الآن بعشرات الشعراء ومئات الأدعياء، الذين يطلق عليهم «شعراء
الفجأة» ويظهرون كالفطر على المواقع الإلكترونية، كما تمتلئُ الساحة بالمجاميعِ
الشعرية، وتشهد إقامة الأمسيات والفعاليات سنويًّا، لكن النقد يبدو غائبًا أو شبه
غائبٍ عن الساحة، فـبات أبطال العلاقاتِ العامّة والصفحاتِ الإلكترونيةِ، يتسيّدون
المشهد، وانزوى الشعراءُ الحقيقيون المنشغلون بمشاريعِهم الشعريةِ الحقيقية إلى
الظلِّ ترفُّعًا ونشدانًا للسلام، في حالةٍ غرائبية لا نعرفُ كيف ولا متى ستنتهي».
ويعود
شبانة إلى الوراء ليبين أن عنوان المرحلة هو «عقود متتالية من الشعر والهزائم»،
فلو عدنا بذاكرتنا خمسين عامًا إلى الوراء، وتأملنا المشهد الشعري في الأردن،
لوجدناه بكائيًّا بامتياز، يقفُ على أطلالِ الأمجادِ الغابرة، يتأملُ اللحظةَ
الراهنة، يعقدُ مقارناتِه المكرورة، ويـــــــعــــــيـــــدُ تقيــــــيمَ
رهـــــــانتِــــه الخاسرة، كلما ارتفعَ مــــــنـــــســـــــوبُ الأملِ
لــــديـــــــه حاصرتْـــــــه الخيـــــبـــةُ مـــع كـــلِّ هزيمةٍ جديدة».
ويستنتج شبانة من ذلك أن قدرَ الشعرِ في الأردن «أنْ يظلَّ سياسيًّا بامتياز، وأنْ
يظلَّ يرنو بعيونِه إلى غربِ النهر، حيث البوصلة؛ ليعيدَ إنتاجَ الواقع، بقليلٍ من
اليقين، وكثيرٍ من الألم». ويربط شبانة بين سقوطِ ما تبقّى من فلسطينَ في أيدي
عصاباتِ اليهود، وسقوطِ الجولانِ وسيناء، وبين عجز العربِ –ومنهم الأردنيون- عن
التحرُّر سوى على مستوى القصيدةِ والشعر، «فراح الشعراءُ يوسِّعون جنباتِ القصيدة،
ويغيِّرون شكلَها، ويتخلَّصون من قوافيها، وأنظمتِها القديمة، في ردةِ فعلٍ غيرِ
واعيةٍ على هزائمِ السياسيين والعسكريين على السواء». ويلفت إلى أن الشعر الأردنيّ
صوّر انكساراتِ الشاعرِ الذاتية والجمعية، فقد «نشأ الشاعرُ العربيُّ على الخيبة
والانكسار والهزيمة، وما كان بقادرٍ على تزييف وعيه، أو الخروج من عباءة الواقع،
حتى غدا تيسير سبول بوضْع حدٍّ لحياتِه نموذجًا لحالةِ الرفضِ والهزيمةِ التي
يعيشُها الشاعر».
وتمثل
حقبة الثمانينياتِ أغنى الحقبِ الشعرية في الأردن؛ لأنّها شهدتْ ولادةَ جيلٍ
شعريٍّ متعلمٍ ومثقّفٍ من جهة، وبات لديه وعي سياسيٌّ وحصانة ضدّ أنواع الوهم التي
سقط فيها الشعراء السابقون، فلم يعد ينخدعُ بالأملِ الكاذب، وبات أقربَ إلى فهم
الواقعِ على سوداويَّته وكآبته، ومن هؤلاء مثلًا: زهير أبو شايب، وعبدالله رضوان،
وطاهر رياض، ويوسف عبدالعزيز، وحبيب الزيودي، وعمر شبانة، وجريس سماوي، وراشد
عيسى، وأحمد الخطيب، وعمر أبو الهيجاء، ومحمد سلام جميعان.
وفي
التسعينيات بزغ نجمُ جيلٍ جديدٍ من الشعراءِ الشبابِ أُطلق عليهم «شعراء
التسعينيات» مالوا إلى تشكيلِ جماعاتٍ أدبية تحملُ طابعًا شلليًّا؛ كجماعة
النوارس، وجماعة «سين» الأدبية وغيرهما، كما جنحوا في طابعٍ لافتٍ إلى «الصعلكة
والتسكُّع»، فكان لهذا أثرٌ في شعرِهم الذي مال إلى الحزن والعبثية واللوذِ بالمرأة،
والشكوى والتذمر.
أفخاخ الثنائيات
خلدون امنيعم
ووفقًا
لما يراه الشاعر والأكاديمي خلدون إمنيعِم، فإنّ ثمة مسارات ورؤى ومشارب متنوعة
تحكم ذهنية منتج النص الشعري، لم تنجُ من «أفخاخ الثنائيات» التي حكمت الشعر
العربي الحديث، بين مسرب التقليد والاتباع مثلما هو في نصوص زهير أبو شايب ومحمد
سمحان وحيدر محمود – مع اختلاف الرؤى- وغيرهم من جهة، والتجريب والإبداع مثلما هو
في نصوص زياد العناني ومحمد العامري وراشد عيسى من جهة أخرى. غير أن ما رسخه منتج
النص الشعري في الأردن دار في «فلك الاتباعية»، فنأى الشعرُ كما يقول إمنيعِم، عن
كونه نصًّا إبداعيًّا تجاوزيًّا في الرؤى، «وإن كانت مشاربه متنوعة بين التقاليد
الموروثة وفق معجميات الأمكنة والأزمنة للنص المنتَج على مقاس السلطة الأدبية
والنقدية، وتوجيه الذائقة القرائية الملهمة والمثقّفة لتطور تقاليد القصيدة
الغربية». ويتوقف إمنيعِم عند تجارب انماز أصحابُها في تقديم مشاريع متفردة،
«مخضعةً الموروثَ لسلطة التساؤل والتجاوز والمغايرة»؛ لتكون بعض المجموعات الشعرية
مشاريع رؤيوية لأصحابها، من مثل «شمس قليلة» لزياد العناني، و«ممحاة العطر» لمحمد
العامري، و«ما أقل حبيبتي» لراشد عيسى.
وهو
يرى أن الشعر في الأردن استطاع أن يحظى بمكانة لائقة -على قلّة جمهوره- ذلك أن
الرواية تحديدًا «تحتل المساحة الأوفر حضورًا ومقروئية»، إضافة إلى دور الحراك
المسرحي في تراجع حالة التلقي الشعري، خلافًا لما كان عليه الأمر في عقود سابقة،
غير أن الشعر ما زال يشكل مرجعية الذائقة الأدبية، وثمة جمهور للشعر «قادر على تمييز
ما يُطرح بعيدًا من شكلانية التواصل وأدواته».
وبشأن
الأسئلة والتساؤلات الـــجـــــــذريــــــة الـمـلـقــــاة عـلـــــــى
عــــــــاتـــــق الشـــاعر، التي يَجْهَد ويُجْهَد في تقصّيها وتتبّعها، فمن
أبرزها بحـــــــســــــــــب إمنيعِم، مـا يتعلـــــــق بالراهن الثقافيّ
والشعريّ العربيّ ومآلاته، وانعكاسات «الربيع العـــربــــي» الدمــــوي
عــلـــــى الإنســـان والأرض من جهـــة، وأسئلة الحرية والهوية والذات والكينونة
من جهـــــة أخرى، غيـــــر أن أكثر هذه الأسئلة إلحـــــاحًــــا -مــــــــــا
يـــشكـــل حالــــــــةً تعــــالقية- سؤال المدنية والمواطنة، ومحاولات تأسيس
جذر ديمقراطي ناهض يطمح إلى النجوز من خلال حوارات فكرية رصينة مع الموروث العربي
وراهنه من تحديات معاصرة من دون إغفال حالة الاشتباك مع الثقافات الوافدة. ويؤكد
إمنيعِم أن تبوّؤ الشعر في الأردن مكانة لائقة لا ينفي كونه عالقًا في مآزق تتعلق
ببنية النص وآليات تشكيله وتشكّله؛ لهيمنة التقليد وافتقاد الخبرة الشعرية لدى
الأجيال الشعرية المتأخرة، إضافة إلى افتقار كثير من المجموعات الشعرية الصادرة
حديثًا للمحمولات الثقافية والفكرية والفلسفية؛ إذ «يتوهم كثيرون أن النص الشعري
رهن المفردة والصورة المبتورتين عن سياقاتهما، لتقرأ نصًّا يفتقد لأدنى مقومات
شعريته».
رنا أبو خالد
وتقول
الشاعرة الشابة رنا أبو خالد: إن الأردن خرّج جيلًا من الشعراء المميزين، «ما زلنا
نذكرهم حتى يومنا هذا، وتربّينا على قصائدهم ودرسناها في المناهج؛ أمثال الشاعر
مصطفى وهبي التل (عرار). أما الآن، فيعيش الشعر واقعًا وتحديات صعبة، فعلى الرغم
من بروز كثير من الشعراء الشباب الذين يمتازون بروحهم الثقافية العالية، وسلاسة
اللغة وجمالية المعنى، فإن هناك كثيرًا من التحديات التي تقف عائقًا في طريقهم،
وأهمها غياب الفعاليات الثقافية، وعدم تشجيعهم أو الاهتمام بهم؛ بسبب قلة الموارد
المالية المخصصة لدعم الساحة الثقافية».
وتلخّص
أبو خالد الأسئلة التي تواجه الشاعر الأردني بقولها: إنها «تنبع من منطلقات
قصائده، وأهم المحاور التي تتحدث عنها، وطبيعة ونوعية الكتب التي يفضّلها،
والشعراء الذين يتأثر بهم». وتقرّ أن غياب الاهتمام قاد بعض الشعراء إلى اتباع طرق
«تحقق لهم انتشارًا أوسع وتمكّنهم من إيصال كتاباتهم بطرق حديثة؛ إذ أصبحت مواقع
التواصل الاجتماعي ملاذًا لهم، لتفيض أقلامهم بمواهب مدفونة نتعرف عليها من خلال شاشة
صغيرة».
إصرار على تبخيس الشعر وتحطيمه
موسى حوامدة
أوضح
الشاعرُ موسى حوامدة أن الشعر في الأردن «لا يمكن عزله عن محيطه العربي»، وأن حاله
في الأردن كحاله في بقية أقطار الوطن العربي، فـ«ما زالت الثقافة العربية رغم
محاولات التفتيت والتقسيم والتجزئة متماسكة جدًّا، وما زالت كذلك تعاني الأمراض
والمشاكل نفسها».
ويضيف
حوامدة أن هناك تجارب متعددة وأصواتًا متفاوتة، «سواء في قصيدة النثر أو التفعيلة
أو العمودي، وحتى في الشعر النبطي، وبالرغم من ذلك تتكاتف الظروف والسياسات؛ لـقتل
الشعر أو وأده ووضعه في مخزن اللامبالاة، حتى إن النقاد لا يتورعون عن تكرار مقولة
جابر عصفور: «هذا زمن الرواية»، فتشعر كأن هناك «سياسة عربية» لمسح الشعر من
الاهتمام، محاصِرةً القصيدة لتحويلها إلى نثر وسرد، والتخلّي حتى عن ضرورة الشعر
وأهميته وقيمته التي لا ترتقي لها بقية الفنون».
ونتيجة
لذلك، بحسب حوامدة، بدأ عدد كبير من الشعراء «يستجيبون للضغوط، فيكتبون السرد،
وصار عدد من النقاد يتنصلون من مهام النقد، ويقولون: إنهم «نقاد رواية فقط»، وباتت
دور النشر لا تطبع الشعر، حتى القراء صاروا يعزفون عنه لذرائع مختلفة، فصار الشاعر
أشبه بـ«اليتيم على موائد اللئام»، ومَن يكتب الشعر اليوم كمن يحب بلا أمل»!
ويعتقد حوامدة أن هناك إصرارًا على «تبخيس الشعر وتحطيمه، وإقامة مسابقات تافهة
تجعل الشاعر يلهث خلف جوائز وبرامج تهين الشعر أكثر مما تخدمه. وعلى الرغم من ذلك
ما زلنا نكتب كأننا غرقى، نتشبث بالحياة ولا نريد موت القصيدة».
___
مجلة الفيصل
إرسال تعليق