العابرون كثر، لكن الراسخين في الذاكرة الإنسانية ثلة ممن أسعفتهم الشكيمة والإرادة الفولاذية في بذر بصماتهم عميقا في سجلات الخلود، على قدر الضجة والصدى الناجم عن فعل إرساء قناعاتهم وأفكارهم وتثبيت منجزاتهم ،ومدى توفقهم في تقديم خدمات متقنة ومعينة بدافع الوازع الإنساني، كحد أقصى. نماذج خارقة استطاعت صناعة خلودها وترك موروث يمزج بين المعرفة والفن ،ويسجل حضوره داخل وخارج حدود الزمكان ،ويلقي بظلاله الهلامية على جيل تلو آخر.
فكيف إذا أمكن هذه الأسماء الكبيرة الحظوة بشرف أعياد التكريم الرمزي والاحتفاء بها إبداعيا، بعد أمّة، من لدن الخلف الذي لا يتسربل أو يتقنّع بعقوق الجذور الطيبة والأصول الإيجابية والمؤثرة في الصيرورة التاريخية ،والممتدة في الحاضر والمستقبل على حد سواء. هي قيمة مضافة دون شك ، تماما كما هو الشأن هنا، ونحن بصدد مقاربة تطال زوايا محدودة جدا ، من نص حجة التقوى للشاعر الريادي المتألق والمجدد أحمد الخطيب، فتضيئها للقارئ لئلا تتقاذفه سبل التأويل وتزج به في متاهات مراوغة مُتعبة لا يخرج من عشوائية الخبط فيها، بشيء يطفئ الفضول المعرفي ويغذي الذائقة .
فلنتأمل رسالة الخطيب ،وهو يمارس طقوسا شعرية حداثوية أشبه بتوجيه صدمات كهربائية لمداعبة وإيقاظ ذاكرة يقبع فيها اسم من ذهب مثل ويمثل رحيله خسارة كبرى أفرغت أدب الالتزام من بعض محتواه، وشكلت وتشكل رزءا جللا صادما للمشهد الإبداعي العربي والعالمي عموما، أن يغيّب الموت قبل ما يربو على ثمان سنوات بقليل، اسما وازنا من طينة محمد القيسي تغمده الله برحمته.
كانت هذه توطئة إلى ولوج عوالم سحرية مغرقة في تفاصيل مرثاة تنسجها تجربة واعية عميقة، ناهيك عن التشبع بمنظومة مناقب تؤثث مشاهد صداقة حقيقية نقية ، على نحو سرمدي مؤثر. لعل أبرز إيحاءات العنونة/حجة التقوى ، كامنة في ما يشحن المتلقي ويؤهله لحيازة أنفاس المكابدة ومجاراة شعرية متملصة متلاعبة بالذهنية حد إبكاء الحرف، دالة على حتمية إعمال العقل في شتى المناحي الدينية، عبر تفجير أسئلة وجودية ملتهبة ، بما فيها ثيمة الموت كلغز محير.
كلما حاولت تنقية الهواء من الشوائب
جاء ظل الماء
من سرب عتيق طائر في الماوراء
من خلال افتتاح مشاهد الكتلة الشعرية بلازمة “كلما” ،يتضح جليا الرابط الضمني بين الجمل الشرطية وأسباب الحياة كما تقترحها الصورة المجازية لا كما هو مألوف ومتعارف عليه بين كافة بني البشر . ليولد مكتملا ومشرعا على جملة من الاحتمالات، هذا الاحتفاء الوجداني البسيط شكلانيا، العميق برؤاه وأنسنة مضامينه.
الاحتفاء بذكرى إحدى تجليات أوجه الحياة الثانية فينا وبيننا .
نلاحظ استحضار عنصر الهواء قبل الماء، هنا، كنوع من مراعاة التسلسل المنطقي لإيقاع النص، ضمن تراتبية تفيد أهميتهما معا ووظيفتهما الحيوية في استمرار الحياة ومنحها طابع الخصوصية .هو استحضار دال على انتشاء نفسي داخلي وقوده الاحتفاء الراديكالي برمز إنساني أثر في واقعه ووجّه ونظّر وجدّد وأضاف وناضل كشاعر طالما ترنم ملء حنجرة الغضب ، بما يكتب له الأبدية والخلود في الذاكرة . وما برزخيته /الماوراء، إلا تجسيدها لحضوره القوي والمهيمن واختراق ظلاله للراهن المكسو بسكرة الخدر، ومطاطية تلك الظلال في الزمن المستقبلي أيضا/من سرب عتيق طائر في الماوراء .
كلما أيقظتُ نسياني
لأذكرَ “رايةً في الريحِ”
خرّ على الرصيفِ فنارُ مملكةٍ
وأيقظَ منزلي
لأرى السماء
كحمامةٍ بيضاءَ أغراها دمي
إذ بيّتَ الشعراءُ أحلام المنابرِ
صاغرينَ لحجةِ التقوى
وهمْ يمضونَ كالريحِ إلى بيتِ الخلاء
حرفية تضمين القصيدة بعناوين دواوين موحية، للراحل/الحاضر ، أضفت على الكتلة الشعرية نكهة جمالية خاصة، وأسهمت في إثراء النص دلاليا ومعرفيا، على اعتبار كهذا تناص يلقي بمخيال المتلقي في بحبوحة كواليس كلامية تشدّ إلى شعرية مشتركة بين الخطيب وصديقه المرثي، عبر أسلوبية تزركش دون فبركة، الإحساس بالفاجعة وتطعن الذائقة برمزية باذخة تتيح الرسوخ والتجذر في الذاكرة.
يستدعي شاعرنا ديوان” راية في الريح” كأول القطر البرود النافذ إلينا من شقوق الموروث والمخزون العتيق، لتنبيه الذاكرة المعطلة، ويغرينا بمشهد الوجع وقد قابل فيه البياض بالاحمرار إمعانا في زلزلة فهمنا، وتفنن بريشة الدربة والمراس والتجريب، تفنن في رسم فوقية فكرته الأم ، حمولة العنونة، وتساميها على ما وراء ألوان الطابو و المسكوت عنه في هذه اللازمة.
فكان بديهيا أن تتمتع أطياف صديقه بسلطة طاغية على التصور الذهني، لدرجة الاعتقاد حدّ الجزم، بأنه، أي الشاعر الراحل/الخالد، الاستثناء الوحيد الذي لا مرايا له وإن بغرض المحاكاة . إنها هيستيريا الحميمية وأخلاق الشاعر الإنسان العبقري العميق.
كلّما أبصرتُ روحكَ في رفوفِ الشعرِ
أوْصَلنا إلى “سارا” نبيٌّ كان يرعانا
عرايا في بلاطِ “الأرخبيل”
وكنتَ تمشي يا نبيَّ الشعرِ
وحدكَ في ميادينِ الحياةِ
تزفُّ “عبد الله” نحو أمومةٍ للغيمِ
ترضعُنا لنعكفَ مثل نبع الماءِ
بعد رنين غربتها على سبخ البكاء
بذات اللازمة ”كلما” والتي تفيد الشرط، يستأنف شاعرنا تعبيريته السردية مقحما في المشهد البكاء، بقية دواوين الفقد، ليزرع في جيل ضياع الكلمة وتشوه الهوية وتشوش على الذاكرة المضطربة والشكاكة أصلا ، منظومة مسلمات متواترة، متشبعة بتعاليم نبوءة صاحب” سارا” والأرخبيل” و” عبد الله. منظومة قيم على النشء أن يرضع حليبها إن هو أراد التلطيف على الأنفاس واستعادة الأمجاد الضائعة وترميم الهوية وإبطال تجاعيد الملامح، ومباهاة الآخر بماضوية أدبية جمة الكنوز متنوعتها.
كلما قفزت عصافير القصيدة
نحو تقوانا
رجعنا للغبار إلى سواء
هو الشاعر مطوع اللغة ، أحمد الخطيب، لا يبرز إلا في رداء التواضع كالمعتاد، ملء سنابل القلب الكبير المزدان بطيبته وشعريته وانفتاحه وتبنيه للأقلام الطموحة الواعدة. يتجرد من نرجسيته المشروعة إخلاصا لرمز إنساني أفل مورثا ثروة معرفية وجمالية، احتواهما عشق الإبداع وإدمانه وحرفية تعاطيه، والاكتواء بهم القضية وانشغالات الأمة.
هي صبغة من إخلاص في ذروته، لا شيء يضاهيه، ووفاء صارخ للذاكرة المنتصفة للإنسان ابتداء وانتهاء ، بغضّ النظر عن المعتقد أو العرق أو الإيديولوجية أو اللون. أحمد الخطيب، حسب مسرح اعترافاته ، لم يمرق بذاته عن السرب المعني، في نصه حجة التقوى، برغم سطوع نجمه في سماء الراهن الإبداعي العربي والعالمي. هو بدوره ذلكم العصفور المغرد داخل السرب الموجوع والمغترب، مقابل الهامة والنبوءة الشعرية للغائب الحاضر محمد القيسي رحمه الله.
___
شاعر وناقد مغربي
إرسال تعليق