النحات العراقي جلال علوان ..
صائد الأفكار ومطوع الأشكال الفنية/ عدنان حسين أحمد
نظم المقهى الثقافي في لندن أمسية بَصَرية للفنان التشكيلي جلال علوان، تحدث فيها عن جانب من تجربته الفنية التي تتميز بالتنوع، والثراء، وغزارة الإنتاج. ويمكن اعتبار هذه الأمسية بمثابة معرض استعادي لبعض الأعمال المفاهيمية التي أنجزها الفنان جلال علوان أثناء إقامته في هولندا. وقد تضمن برنامج الأمسية ستة محاور أساسية وهي «البقرات»، «مشروع الأثاث»، «الفتومونتاج»، «الفيديو آرت»، «مشروع العباءة» و»المهاجرون».
وبما أن الأمسية تجمع بين التنظير والعروض البصرية فقد ارتأيتُ، وأنا المكلف
بتقديم الفنان وإدارة الندوة، أن نكسر الإيقاع ببعض الأسئلة الجوهرية التي تسلط
الضوء على تجربته الفنية، فسألناه عن السبب الذي دفعه لاختيار دراسة السيراميك في
أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد؟ فأجاب:»عندما قُبِلت في أكاديمية الفنون
الجميلة في بغداد كنت أنوي دراسة النحت، لأن علاقتي بالطين هي الأساس وكانت
تستهويني أكثر من غيرها، فالموضوع كان محسومًا منذ البداية أن أدرس النحت، لكن في
الأشهر الأولى انتبه الأستاذ عزام البزاز إلى طبيعة عملي، وقال: «أنا سأصنع منك
فنانًا جيدًا»، والتفت إلى طالب آخر وقال: «وحمزاوي سيجعل منك بعثيًا جيدًا». لذلك
غادر جلال النحت إلى قسم السيراميك الذي يتيح له الاشتغال على النحت الفخاري الذي
أثراه خلال سنوات الدراسة وترك بصماته عليه، وينأى بنفسه عن الأدلجة الحزبية
يتكئ الفنان جلال علوان على مخيلة الطفولة كثيرًا وينهل منها بعض الصور والذكريات،
فحينما وافقت بلدية بْريدا على تنفيذه لمشروع «البقرات» استرجع جلال صورة الحصان
الذي كان يرِد في حكايات والده التي يرويها له قبل النوم، ونفذه في أكثر من عمل
فني بحسب المعطيات التخييلية، التي لا تخلو من لمساتٍ فنية واضحة. ووفق هذه الرؤية
أنجز جلال مشروع «البقرات» الذي أحبه الأطفال، وتفاعلوا معه لأنه يحاكي مخيلاتهم
أيضًا. نُفذ المشروع بمادة البوليستر، وهي مادة قوية وناعمة وتحول العمل إلى ملعب
للأطفال يتوفر على كل اشتراطات السلامة والأمان، كما يتعانق مع بيئة الجنوب التي
تزدان بالمراعي والأبقار الهولندية ذائعة الصيت.
يميل جلال علوان إلى تمثل الفكرة وفلسفتها، ففي مشروعه الثاني
«الأثاث» اكتشف أن هناك علاقة ثابتة ورصينة بين شخصية الأب أو الجد وأثاثهما
المنزلي.
يميل جلال علوان إلى تمثل الفكرة وفلسفتها، ففي مشروعه الثاني «الأثاث» اكتشف أن هناك علاقة ثابتة ورصينة بين شخصية الأب أو الجد وأثاثهما المنزلي الذي يبدأ من غرفة النوم، وخِزانات الملابس، ويمر بلوازم غرفة الاستقبال، وينتهي بالصناديق السرية الخاصة التي لا يعرفها إلا الزوج وزوجته، غير أن هذه العلاقة المتينة بين جلال وأثاثه باتت مفقودة لسبب بسيط وهو الهجرة، وكثرة الترحال من بلد إلى آخر، فعندما غادر العراق إلى الأردن ترك أثاثه في بغداد، وعندما غادر الأردن إلى بْريدا الهولندية ترك أثاثه في عمان، وهكذا دواليك ليكتشف في خاتمة المطاف أن علاقته الحميمة بالأثاث المنزلي مفقودة، ولعلها توحي له بحس التشرد والضياع، ولكي ينتصر على هذه الخسارات المتواصلة لجأ إلى تحويل أثاثه إلى منجز فني يعبر الزمن، ويبقى راسخًا في الذهن، وعالقًا بالنظر، فلا غرابة أن نرى أرائكه، وسرير نومه، ومائدة طعامه قد تحولت إلى أعمال فنية صامدة أمام تقادم الأعوام.
لم يخطر ببال جلال أن يتعلم الفوتو مونتاج ويتخصص فيه، لكن دراسته في الأكاديمية
الملكية في مدينة لاهاي الهولندية هي التي أمدتهُ بهذه المعطيات الفنية، فبدلاً من
أن يدون أفكاره بسكيتشات سريعة خشية أن تتسرب من ذاكرته، لجأ إلى تقنية
الفوتومونتاج التي يركب بواسطتها الصورة فتتحول من السكيتش إلى الفوتوشوب مباشرة،
فالفكرة بالنسبة إليه هي هبة ربانية، وعليه أن يمسك بتلابيبها ما إن تشطح في ذهنه،
وألا يتركها عُرضة للضياع. وقد عرض الفنان نماذج متعددة من أعماله أبرزها «آدم»
و»القربان» و»الإعدام».
أما الفيديوآرت فقد وصفه بالصورة الحسية المكثفة لحالات معينة ينفذها الفنان بأشكال مختلفة تتداخل فيها عناصر أخرى مثل الصوت والحركة، كما عرض نماذج متعددة من هذه الأفكار التي حولها إلى أفلام تجريبية مهمة من بينها فيلم «موجة» الذي شارك في مهرجان دنهاخ السينمائي. وبغية التأكيد على أهمية الثيمة في الفن المفاهيمي سألناه إن كانت فكرة «غرفة الانتظار» واقعية أم خيالية؟ فأجاب: بأن مصدرها الواقع، وسرد لنا حكاية انتظاره الطويل والممل في «غرفة الانتظار» التابعة لإحدى دوائر وزارة الخارجية العراقية، التي تحتوي على 50 كرسيًا، نصفها محطم والبقية غير مريح حيث قال:» تخيلت الغرفة ملأى بالأراجيح ونحن نتأرجح فيها بدلاً من تذمرنا من المقاعد المعطوبة التي أرهقتنا على مدى سبع ساعات طويلة هي أقرب إلى السجن منها إلى غرفة انتظار».
وفي ما يتعلق بمشروع العباءة الذي تحدث عنه بشكل مختصر، لكنه عرض نماذج
متعددة للنساء المتلفعات بالسواد لكنهن يُظهرن أجزاءً محددة من أجسادهن وخاصة
أذرعهن العارية التي بدت أكثر إغراءً مما لو كن سافرات بلا حُجُب تغطي هذه
الكائنات الأنثوية الرقيقة.
لم يتوقف جلال عند محور
«المهاجرين» الذين ينؤونَ بصُررهم وحقائبهم، وهم يبحثون عن بلدان توفر لهم الأمان
والعيش الكريم، وإذا لم نرَ المُهاجر نفسه فإننا رأينا آثاره ومخلفاته التي يتركها
هنا وهناك، مثل «قارب تجريدي» وما ينطوي عليه من بُعد رمزي شديد الدلالة، حين حول
المهاجرين الذين يركبون المخاطر والأهوال إلى مسامير تخترق أرضية القارب وتعرضهم
إلى الغرق في عرض البحار الهائجة التي التهمت منهم الكثير ومازالت تنتظر ضحاياها
بأشداق مفتوحة عن آخرها.
ما يلفت النظر في هذه
الأمسية هو صعوبة تلقيها وهضمها من قِبل المُشاهِد العادي، الذي لا يمتلك معرفة
جيدة بالفن المفاهيمي، ولا يتوفر على خبرات بصرية تتيح له فهم العمل المفهومي
واستساغته، لذلك سأستعير من سول لويت مقولته المهمة التي أوجز فيها الفن المفهومي
حينما قال: «إن الفكرة هي الآلة المُنتجة للفن»، وأن الفن المفاهيمي Conceptual art قد نشأ في أواسط
الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، غير أن جذوره الحقيقية تعود إلى عام 1913
حين ثبت مارسيل دو شامب «عجلة دراجة هوائية» على كرسي بلا مساند «ستُول»، ثم
أردفها بعمل ثانٍ أسماه «أمام اليد المكسورة، أو مجرفة» عام 1915، ثم جاء عمله
الثالث «النافورة» وقدمها إلى جمعية الفنانين المستقلين عام 1917. وهذا يعني
من الناحية التاريخية أن عمر الفن المفاهيمي هو 106 سنوات، لكنه كحركة فنية استمر
لعشر سنوات، ولكنه ما يزال موجودًا حتى يومنا هذا، وأن أبرز ممثليه هما الفنانَان
البريطانيان مارتن كرِيد وسيمون ستارلنك. كما تألق عدد من الفنانين المفاهيميين
العرب نذكر منهم الإماراتي حسن شريف، والسعودي بكر شيخون، وجلال علوان، العراقي
المقيم في المملكة المتحدة، وعشرات الأسماء الفنية الأخرى التي لا يمكن حصرها في
هذا المجال.
____
القدس العربي
إرسال تعليق