-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

الخلود في رواية "تفاصيل الحلم الدافئ" سعادة أبو عراق / الناقد رائد محمد الحواري

 

الأعمال الجميلة هي التي نقرأها بشغف، تجذبنا وتمنحنا المتعة، رواية "تفاصل الحلم الدافئ" تتميز بأكثر من فضيلة، لغتها سلسة، تجمع بين الحوار المسرحي والسرد الروائي، كما أنها أقرب إلى أدب الخيال العالمي الذي نفتقده في المنطقة العربية، تتجاهل تحديد المكان، وهذا يجعلها مشاع لكل قارئ، وتعيدنا إلى أمجادنا وإنجازاتنا الأدبية والفكرية السابقة، إلى ملحمة جلجامش وفكرة الخلود.
أحداث الرواية
تتناول الرواية حدثا خارقا يتمثل بإيجاد علاج لكل أمراض المزمنة، العجز الجنسي، الشلل الجسدي، الأمراض النفسية، فقدان الذاكرة، الموت الإكلينيكي، بمعنى أن الدكتور "فؤاد المالح" يمتلك "عشبة الخلود" التي تعيد الشيخ إلى صباه، ويمتلك القدارة على القيام بمعجزات السيد المسيح، فأول أعماله الخارقة علاج "أبو حديدة" (البلطجي) من شلل نصفي، وجعله سليما، ثم جعل أبو حامد وأم حامد العجوزين يستعيدان شبابهما رغم أنهما في الشيخوخة، بعدها جعل شيخان يستعيدان شبابهما حتى أن العجوز تحمل، فتضع مولودها مع حفيدتها في الوقت نفسه وفي المستشفى ذاته: "يا إلهي امرأة وحفيدتها تلدان معا..!" ص74، يستمر "فؤاد المالح" في أعماله الخارقة فيعالج "محمود" فاقد الذاكرة، وذروته أعمله تجسدت في معالجة "يوسف" من موت الدماغ "موت إكلينيكي"
بعد هذه الإنجازات العظيمة تحدث (بلبلة) في البلد بحيث يجتمع مجلس النواب/ الشعب لمناقشة أعمال "فؤاد المالح" وهل يجوز استمراره في معالجة الناس الذين أصبحوا في سن الشباب، بحيث خلت البلد من الشيوخ والعجزة، طارحين أفكارا متعددة ومتنوعة، منها: "عجائز وشيوخ تحولوا إلى شباب، وصاروا يطالبون بالعودة إلى العمل...لا ندري كم سيطول بهم العمر، مئة؟ مئتين؟ ثلاث؟ لقد أصبحنا مجتمع بلا شيوخ" ص118، وبعدها نائب يتقدم نائب ويتحدث عن نظرية مالتوس، وكيف أن العلم الحديث فندها ونقضها، إن كان على صعيد الطعام/ الغذاء، أم على صعيد الآلة والتكنولوجيا، ويتحدث نائب آخر عن دور العلم الذي يتمثل في: "جعل الإنسان اكثر سعادة ولكنه لا يجعله أكثر عمرا، يجب أن لا يمتد العمر بالإنسان إلى ما لا نهاية" ص123، ويدخل نائب أخر ويطرح سؤالا وجوديا: "العمر المديد للإنسان، هل يكون في صالح الإنسانية أم وبالا عليها" ص123، وأخر يسأل: "من يمتلك تحديد عمر الإنسان" ص124، مما جعل أحد النواب يقترح: "عند إجراء العملية يوقع المعني على وثيقة تبيح للدولة إعدامه إذا ما بلغ مئة وعشرين سنة" ص124.
بعدها يتناولون من هم الأفراد والشخصيات التي يجب أن تجري لها عمليات التنشيط، السياسيون، المثقفون/ العباقرة، وهل يمكن معالجة الجنوح الأخلاقي عند الأفراد، ويتوقفون عند شخصية المعالج "فؤاد المالح" وكيف أنه عاجز عن علاج نفسه: "فهل يوجد بيننا من لا تعترف بأن الدكتور فؤاد المالح عبقري ويستحق الخلود؟
ـ إنه الشخص الذي لم تجر له عملية تنشيط، لأنه لا يستطيع أن يجريها لنفسه
ـ أنها لسخرية كبيرة ومفارقة عجيبة أن يكون مانح الصحة عاجزا عن منحها لنفسه، فهو معرض أكثر من غيره للمرض والموت" 126، إذن الرواية تقدم أحداثا وأفكارا جديدة، وتطرح أسئلة فلسفية متعلقة بالوجود البشري على الأرض، كما تجعل القارئ يتوقف عند حقيقة الموت والحياة، وعلى أن الموت ضرورة إنسانية، فلو استمر أشخاص محددين في الحياة، كيف سيكون عليه حال البشر!؟.
ملحمة جلجامش والرواية
وإذا ما توقفنا عند شخصية "فؤاد المالح" الذي يشفي الآخرين ويعيدهم إلى شاببهم، ولا يقدر أن يفعل ذلك لنفسه، نصل إلى فكرة عجز الإنسان في الوصول إلى الألوهية التي حاول جلجامش الوصول إليها، فقد يتمكن الإنسان من أحداث تغييرا جوهريا في الآخرين، لكنه يبقى عاجزا عن تطوير/ تعديل نفسه، مما يجعله (إله) ناقصا/ غير مكتمل.
وهناك ربط بين فكرة الرواية، الحياة المديدة والشباب المتجدد، مع فكرة "عشبة الخلود، عودة الشيخ إلى صباه" التي جاءت في ملحمة جلجامش حيث فقد جلجامش عشبة الخلود، وختم الرواية بفكرة القبول بالموت/ الفناء الذي يمكن أن يعوض من خلال الأعمال/ الأفعال/ الإنجازات التي يحققها الإنسان، نصل إلى التكامل بين ما جاء في الملحمة، وما جاء في الرواية، فأعمال الإنسان هي من تخلده "أوراك وأسورها" في الملحمة، وفي الرواية الإنجازات العلمية والأخلاقية: "المشروع العظيم يخلد صاحبه" ص129، ونلاحظ تقارب أسم بطل الرواية "فؤاد المالح" مع الملاح أورشنابي رفيق جلجامش في رحلة البحث عن الخلود، كل هذا يجعلنا نقول إن الرواية تقدم فكرة الخلود التي أرقت الإنسان قديما، بطريقة حديثة معاصرة.
ونلاحظ تماثل شكل وطريقة تقديم الرواية مع الملحمة، فكلاهما اعتمد على الحوار إلى جانب سرد الأحداث، فالحوار كان جزءا أساسيا في العملين، وهنا نتوقف عند الحوار الذي تم في الرواية مجلس النواب، وبين الحوار الذي تم في مجلس الشباب والشيوخ في أوراك حينما غزا "أجا" ملك كيش" أوراك، كما نلاحظ توقف العملين عند الجنس في موضعين بارزين، جلجامش قبل أن يرافق أنكيدو، وكيف كان يأخذ العروس من زوجها، وأنكيدو الذي ضاجع البغي سبعة أيام، وفي الرواية هناك "أبو حامد وأم حامد" وسليمان وزينب" الشيوخ الذين أصبحوا شبابا ويمارسون حيوية الشباب، كل هذا يجعلنا نقول إن فكرة وشكل تقديم الرواية ما هو إلا صورة معاصرة/ حديثة عن ملحمة جلجامش.
الرواية من منشورات وزارة الثقافية الأردنية، الطبعة الأولى 2025

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016