المصطلحات النقدية اقتصرت على الغربيين أكثر من غيرهم، فهم المتفوقون/ العارفون/ المبدعون/ المتألقون، وكل ما يصدر عنهم (مهم/ عظيم/ مدهش/ مثير) وعلي الآخرين اللحاق بهم وبركابهم، وأخذ ما يصدر عنهم وباهتمام، والعمل به فورا دون تأخير، لأن (التريث/ التفكير فيه) يعد مضيعة للوقت والجهد.
هكذا تعامل العقل النقدي العربي مع المصلحات النقدية الغربية، فبدا
عاجزا/ تابعا/ لاحقا لتلك المصطلحات، كحاله في الاختراعات العلمية والتكنولوجية
والعسكرية والطبية، حتى أصبح كل ما هو ألماني/ إيطالي/ أبريطاني/ أمريكي... علامة
ثقة، لما فيه من تقنية ودقة وإبداع، وكل ما سواه ناقص/ تقليد، غير أصلي.
ولا يكتف الناقد بتناول النصوص الأدبية فحسب، بل تعمق أكثر وتحدث عن علامات الترقيم، موضحا أهميتها ودورها في جمالية الأدب
وإذا ما تتبعنا المصطلحات والمدارس النقدية سنجدها تتطور باستمرار
واضطراد، حتى أصبح الناقد (يركض) خلفها وكأنه في سباق المسافات الطويلة، لا يستطيع
(التوقف) لكثرتها وتلاحقها، وأصبح استخدام المصطلح الجديد (إشارة/ علامة/ دلالة)
على ثقافة المُستخدِم وسعة اطلاعه ومعرفته.
عمليا/ أدبيا (خلْق) مصطلح نقدي جديد، يعد فاتحة لمعرفة جمالية
النص، وفتح آفاق أمام القارئ للوصول إلى مكامن إبداع الكاتب/ الأديب، لكن المدهش/
الجديد هو أن يأتي المصطلح من فلسطيني عربي، فهذا يعد حسنة إضافة، تدفعنا للتوقف
عند هذا المصطلح الذي يعطينا الثقة بأنفسنا، وشعرنا أننا قادرون على تقديم ما هو
جديد في المصطلحات الأدبية، فهذا الأمر لا يقتصر على الغرب الذي (أتخمنا)
بالمصطلحات، حتى أن القارئ/ الناقد/ الدراس العربي أصبح يشعر بالعجز/ بالتذيل إذا
لم يستخدم تلك المصطلحات الجديدة والكثيرة، وأكثر من هذا فقد بدت لتلك المصطلحات
علامة/ دلالة/ إشارة إلى ثقافة من يستخدمها وسعة اطلاعه، ومن لا يتعاطى معها يبقى
ـ في نظر بعضهم ـ مجرد (هاوٍ) ضعيف، يعيش على هامش الأدب.
من هنا تأتي أهمية كتاب "الإنقاص البلاغي: المفهوم
والتطبيق" للناقد فراس حج محمد الذي أوجد/ خلق/ كوّن مصطلحا نقديا/ أدبيا كنا
نشير إليه بسرعة من خلال: التكثيف/ والاختزال، دون الغوص في تفاصيله، وحتى دون
القدرة على التعبير عنه، أو إيجاد لفظ يتوافق معه.
العقل العربي يتعامل على أسس فكرة الكامل/ الشامل/ المطلق، فنجد
فكرة الدين الكامل/ الشامل الذي يصلح لكل زمان ومكان، وأصبحنا ننظر إلى الأشخاص
ونحكم عليهم من خلال الشمولية المطلقة، فنحن نريدهم كالنبي محمد (ص) أقوياء،
حكماء/ صبورين/ مجاهدين/ مؤمنين/ ليس فيهم أي عيب/ ولا يقترفون الأخطاء، ولا
يقدمون على جريرة.
وقد توغل العقل العربي أكثر في فكرة الشامل/ الكامل/ المطلق،
فوجدنا الأحزاب الشمولية المطلقة التي لا يأتيها الباطن من بين يديها ولا من
خلفها، فأصبحنا ننظر إلى الأحزاب الأخرى على أنها ناقصة/ عميلة/ كافرة/ خائنة.
من هنا تأتي أهمية كتاب "الإنقاص البلاغي" فالعنوان
مثير/ مستفز/ يقلب فكر المتلقي العربي عن الكامل والشامل، فكيف يكون (النقص)
بليغا؟ هذا العنوان/ السؤال بحد ذاته يحسب للناقد "فراس حج محمد" الذي
يؤكد (عربية) المصطلح، فنحن الذين تربينا على فكرة الكامل والشامل، يأتي من
يذكرنا/ يقول لنا إن (النقص) إبداعا وتألقا، فكيف يكون هذا؟ وكيف يحصل؟ وما دلائل
"فراس حج محمد" على ذلك؟
نجيب، الثقافة العربية مرتبطة بالدين، حتى بدا كل حديث/ موضوع/
حوار يفرض على صاحبه استخدام آية قرآنية أو حديث أو قول لأحد (السلف الصالح)، من
هذا الباب يدخلنا الناقد إلى كتابه، معتمدا على القرآن الكريم وعلى الطريقة التي
قدمت بها القصص القرآنية، فيعطينا نموذجا من خلال قصة النبي موسى عليه السلام مع
العبد الصالح الذي خرق السفينة وبنى الجدار وقتل الغلام، وهنا اقتبس/ تناول الناقد
لهذا القصة: "من اللفتات البلاغية في الحذف ما جاء في سورة الكهف في الآية
الثانية والسبعين: "قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا" بعد المرة
الأولى التي اعترض فيها موسى على خرق السفينة، وأما في الآية الخامسة والسبعين
فقال تعالى: "قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا" فحذف في المرة الثانية
"لك" تأدبا مع موسى، لكنه عندما كرر الاعتراض، ولم يستطع الصبر في المرة
الثانية جاء بشبه الجملة "لك" لما تحمله من تنبيه، وزيادة جرعته لنبيه
موسى إلى أنه بالفعل خرق الاتفاق مرة أخرى، أما في الاعتراض
الثالث، فقد حذفت الجملة كاملة، فلم يقل له: "ألم أقل لك إنك
لن تستطيع معي صبرا" وإنما تنازل عنها لأن العبد الصالح يعلم أن موسى لم يكن
باستطاعته فعلا الصبر، فلا داعي لجملة ترسخ معناها في الذهن، وأنه لا مجال أيضا
لفرصة أخرى، معلنا انتهاء الصحبة، فجاء بالنتيجة مباشرة "هذا فراق بيني وبيك".
هذا هو- إذا- الحذف البلاغي الذي يتعمد فيه منشئ النص أن يحذف
أمورا للفت الانتباه للمحذوف" (ص 15و16)، إذن ليس الكمال دائما كاملا/
إيجابيا، وليس النقص ناقصا/ سلبيا، وعلينا إعادة تفكيرنا في مفهوم الكمال والناقص،
لأن النقص/ الحذف فيه بلاغة، وعلى المتلقي الوصول إليها بنفسه، وليس من خلال
الآخرين.
بعدها يقودنا الناقد إلى نماذج أدبية من شعر وقصة ورواية، واضعا/
ملحقا ذيل الكتاب بنماذج أدبية كشواهد على أهمية ودور النقص بلاغيا.
يستشهد الناقد ببعض أقول النقاد منهم "غسان كنفاني" الذي
يقول عن كتابة القصة: "عمل أدبي ينجز الكاتب نصفه، ويترك النصف الآخر
للقارئ" (ص 41)، ويؤكد أهمية وقت القارئ، وضرورة المحافظة على جمالية النص
الأدبي من خلال الابتعاد عن الخوض في تفاصيل غير مهمة: "الغرق في التفاصيل لا
يفيد تحقيق الهدف التربوي الذي تتبعه القصة،" (ص 54)، فالناقد هنا يحرص على
حداثة الأدب، آخذا طبيعة عصر السرعة والنت والفضاء المفتوح، بحيث لا مجال أمام
القارئ لتناول أعمالا أدبية طويلة، تغرق في تفاصيل لا تخدم أدبية العمل.
ولا يكتف الناقد بتناول النصوص الأدبية فحسب، بل تعمق أكثر وتحدث
عن علامات الترقيم، موضحا أهميتها ودورها في جمالية الأدب، وفي دقة إيصال الفكرة/
المضمون للقارئ، فكتاب "الإنقاص البلاغي: المفهوم والتطبيق" يعد ضرورة
لكل أديب/ كاتب يريد تقديم ما هو جديد ومعاصر وممتع.
[*] الكتاب من منشورات مكتبة كل شيء،
حيفا، ناشرون، الطبعة الأولى 2025.
إرسال تعليق