-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية
الأربعاء 23 أبريل 2025 م / 24 شوال 1446 هـ  

الناقد مصطفى القرنه يقرأ " دلالات العنوان في ديوان مرايا النار" لجميعان


 

في عالم الأدب، لا تقتصر أهمية العنوان على كونه مجرد تسمية تمهّد للقراءة؛ بل يتعدى ذلك ليكون الأداة الأولى التي تعكس جوهر النص، وتنقل القارئ إلى فضاء أعمق من المعاني. وديوان "مرايا النار" للشاعر محمد سلّام جميعان هو مثال حي على هذا التفاعل بين الظاهر والباطن، بين الشكل والمضمون.

يحمل العنوان في طياته دلالات عميقة، يجسد من خلالها صراع الذات، والحيرة الداخلية، والتحولات النفسية التي تطرأ على الفرد في ظل تناقضات الواقع المعيش. في هذا المقال، سنسعى إلى استكشاف هذه الدلالات، مع التركيز على الرمزية التي يتضمنها العنوان، وكيفية تجسيدها للصراع الداخلي الذي يواجهه الإنسان في رحلته البحثية عن ذاته.

"المرايا" كرمز للتشظي والتأمل اللامتناهي
هذه القصائد المتنوعة تجسد الصراع الذي يعيشه الشاعر داخل نفسه وفي علاقاته مع محيطه، وكل قصيدة تعكس جانباً مختلفاً من هذا الصراع: بين الذات والعالم، بين الطموحات والألم، وبين الأمل واليأس
في قلب هذا العنوان، نجد كلمة "مرايا"، التي ليست مجرد سطح عاكس للصور، بل هي أداة رمزية للتأمل الداخلي والتفحص اللامتناهي. المرايا، في جوهرها، هي أداة تكشف عن الصورة، ولكن تلك الصورة ليست ثابتة أو واضحة كما قد يتصور البعض؛ فهي مشوهة في بعض الأحيان، وقد تلتقط جوانب متعددة لا تتناغم مع بعضها البعض. وهكذا، تصبح المرايا رمزًا لعملية البحث المستمرة عن الذات، تلك الرحلة التي لا تنتهي إلا في حالة واحدة: فشل الفهم الكامل للذات. إذا كانت المرايا تشير إلى الصورة الخارجية، فإن "النار" التي تعكسها قد تفضي إلى تشوهات داخلية، مما يخلق حالة من الغموض والاضطراب النفسي.

"النار" كرمز للألم والتحول العميق

أما النار، فهي ليست مجرد لهيب أو دمار خارجي، بل هي تلك النار العاطفية والنفسية التي تحرق الروح وتحيلها إلى رماد. في هذا الديوان، نجد أن "النار" تحمل أبعادًا فلسفية أعمق، حيث لا تقتصر على كونها رمزًا للمعاناة فقط، بل تمثل أيضًا التطهير والتحول. النار هي ذلك العنصر الذي يسعى الشاعر لإيجاد معنى لحياته من خلاله، فقد تكون الحروق التي تتركها هذه النار علامات على الفقدان، أو الألم، أو حتى الندم، لكنها أيضاً قد تمثل رغبة في إعادة التكوين والتغيير. في هذا السياق، تصبح النار بمثابة أداة للكشف، إذ تضيء الظلال التي قد تحجب عن الذات حقيقتها الكامنة.

التوتر بين الصورة المثالية والواقع المحترق

التزامن بين "المرايا" و"النار" في العنوان يعكس التوتر الذي يعاني منه الإنسان بين الصورة المثالية التي يحاول تشكيلها عن نفسه، وبين الواقع المؤلم الذي يعيشه. "المرايا" تعكس في البداية صورة ذاتية قد تكون جميلة أو ناعمة، لكن "النار" التي تطال هذه الصورة تؤدي إلى محوها أو تحريفها، فتظهر الصورة المشوهة أو المحترقة. هذا التفاعل بين الصورة والواقع يعكس الصراع الداخلي بين الطموحات البشرية التي يسعى الفرد لتحقيقها، وبين المعيقات والألم الذي يعترض طريقه. لذا، فإن العنوان يُجسد التناقض بين الأمل واليأس، بين البحث عن معنى والوجود في عالم مشوّه.

مرايا النار في السياق الاجتماعي والثقافي
لكن ديوان "مرايا النار" لا يعكس فقط التوترات الداخلية للفرد، بل يطرح أيضًا رؤية فلسفية تتعلق بالعلاقات الاجتماعية والواقع الثقافي الذي يعيش فيه الشاعر. في مجتمعات مليئة بالصراعات والتحولات الاجتماعية، يمكن أن تصبح المرايا مجرد أداة تمويه، حيث لا يُمكن للإنسان أن يرى فيها صورته الحقيقية بوضوح، بل يرى فقط ما يعكسه الواقع المحيط به. من هنا، قد تكون "النار" في العنوان أيضًا دعوة إلى مواجهة الحقيقة المرة لهذا الواقع، والمتمثلة في الأزمات الاجتماعية التي تلتهم معاني الإنسانية والتقدم. النار هنا قد تكون مصدرًا للثورات أو التغيير الاجتماعي، حيث تصبح الأوجاع الفردية انعكاسًا للجروح الجماعية.

الصراع الداخلي بين التناقضات

يتضح من العنوان "مرايا النار" أن هناك صراعًا داخليًا عميقًا بين التناقضات: بين الحب والكراهية، بين النور والظلام، بين الفرح والحزن. هذه التناقضات لا تقتصر على مشاعر فردية فحسب، بل تمثل أيضًا الفجوات الوجودية التي يواجهها الإنسان في العالم المعاصر. النار، هنا، لا تمثل مجرد ألم عابر، بل هي أيضًا أداة نقدية. يمكن أن تكون النار هي ما يكشف عن الهويات الزائفة، أو ما يفضح الحروب الداخلية التي يخوضها الإنسان مع نفسه. وفي كل مرة يقترب فيها الفرد من فهم ذاته، تجلبه النار مرة أخرى إلى دائرة الشك والقلق.
وسنلاحظ من خلال استحضار بعض الأبيات من قصيدة "رسيس" و"رهان"، أن الشاعر محمد سلّام جميعان يسلط الضوء على المعاني العميقة التي تعكسها صورة الذات عبر الألفاظ الرمزية. في قصيدة "رسيس"، يُظهر الشاعر كيف أن الصورة الذاتية تتداخل مع الضوء والنار، مع الحرف والخيال، ليخلق بذلك مشهداً داخلياً يعكس حالة من التماهي والتداخل بين الذات والعالم المحيط بها. يقول الشاعر:
"هي ضوؤه هي نارُه وحسيسُها
هو حرفُها وخيالُه قاموسُها"
هنا، نجد أن الشاعر لا يفصل بين ذاته وبين ما يحيط بها، بل يحاول أن يدمج ذاته مع هذه الصور الكبرى، ضوءاً كان أم ناراً. الضوء يعكس الجانب المشرق والإلهامي في الإنسان، بينما النار تمثل التوتر الداخلي والصراع مع الذات والعالم، وتظهر كيف أن الصورة الذاتية تتأثر بهذه العناصر الكونية المتضادة.
أما في قصيدة "رهان"، فينقل لنا الشاعر صورة فلسفية عن الرهان على الحياة، واختيارات الإنسان التي قد لا تكون واضحة تماماً في بداية الطريق. في هذه القصيدة، نجد الحوار بين الشاعر والحمام، الذي يقول له:
"راهنتُ
قال لي الحمام : ستربح
ما كل ورد في الحديقة يُلمَحُ"
هذه الكلمات تحمل معنى فلسفياً عميقاً حول الاختيارات والتحديات التي يواجهها الإنسان في حياته. يشير الحمام هنا إلى أن المكسب لا يأتي دائماً بسهولة، بل يتطلب رؤية دقيقة ووعياً بالحقيقة التي قد لا تكون ظاهرة بوضوح في البداية. هكذا، يصبح الرهان على الذات والقدرة على الفهم والتعامل مع تحديات الحياة هو السبيل إلى النجاح.
في ضوء هذه الأبيات، يمكننا أن نفهم "مرايا النار" كدليل على التفاعل المستمر بين الذات والعالم، حيث تحمل الصور الداخلية للمرايا والنار إشارات إلى الأبعاد النفسية المعقدة التي يعيشها الإنسان. الشاعر في هذه القصائد لا يقدم لنا إجابات جاهزة، بل يضعنا أمام أسئلة فلسفية عميقة حول كيفية فهم الذات وسط هذه التناقضات الداخلية والخارجية.
قصائد أخرى مثل "اكتفاء"، "أطياف جريحة"، "لولا وليت"، "الزهرة والعصفور"، "وقت"، و"ليل يتيم" تُواصل استكشاف هذا التوتر بين الذات والوجود. في "اكتفاء"، قد نلمح حالة من البحث الدائم عن الإشباع الروحي والنفسي الذي لا يتحقق أبداً بشكل كامل، بينما "أطياف جريحة" تطرح سؤال الألم والتجارب الحياتية التي تترك بصماتها العميقة على الفرد. وفي "لولا وليت"، يتأمل الشاعر في متغيرات الحياة، في تلك اللحظات التي يتمنى فيها لو أن الأمور سارت بشكل مختلف.
أما "الزهرة والعصفور"، فتقودنا إلى التوازن بين الجمال والضعف، بينما "وقت" يثير تساؤلات حول الزمن واختياراته. وأخيراً، في "ليل يتيم"، نجد الشاعر يواجه وحدته في عالم مظلم، ليعكس حالة الاغتراب الداخلي التي تهيمن عليه في لحظات العزلة.
هذه القصائد المتنوعة تجسد الصراع الذي يعيشه الشاعر داخل نفسه وفي علاقاته مع محيطه، وكل قصيدة تعكس جانباً مختلفاً من هذا الصراع: بين الذات والعالم، بين الطموحات والألم، وبين الأمل واليأس. إن العنوان "مرايا النار" لا يتوقف عند تصوير هذا الصراع فحسب، بل يعبر عن لحظات التموُّج والتذبذب بين الضوء والظلام، بين الحقيقة والخرافة، وبين القوة والضعف، ليطرح على القارئ رحلة تأملية في عمق الوجود الإنساني.
تُظهر قصائد "رسيس" و"رهان" وبعض القصائد الأخرى في الديوان كيف أن الشاعر يتعامل مع هذه التوترات الداخلية من خلال الأسئلة الوجودية التي طرحها، والتي تتطلب من القارئ أن يواجه ذاته ويعترف بتناقضاتها في سبيل الفهم والتطور.
وفي النهاية، يبقى العنوان "مرايا النار" دعوة مفتوحة للتأمل العميق في الذات والعالم المحيط، محاولًا تجسيد حالة من التوتر الوجودي الذي لا يمكن الهروب منه، بل يجب أن يتم مواجهته والاعتراف به، ربما ليس للوصول إلى الإجابات النهائية، بل للسعي المستمر نحو فهم أفضل للحقيقة التي تعيش داخل كل منا.

التعليقات

إرسال تعليق



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016