” إستمر بالحكي عني علشان أضل موجودة “
هكذا كانت تبادرني صديقتي الغزاوية سماء كلما سألت عنها
” لسه بتحكوا عني ” ؟.
ودائما أجيبها بنعم .
لم أكن اتحدث عن سماء دائما مع أصدقائي ، البعض منهم كان يتهرب من أي حديث عن غزة هربا من الألم ، والبعض منهم ما كنت اراه قريبا مني بحيث اشاركه سماء واحلامها ، في الواقع كنت أتحدث عنها قليلا وفي فترات متقطعة ولكنني كنت اكذب عليها قائلا :
” بنحكي عنك كل يوم ” .
عرفت سماء لسنوات قبل الحرب ، لا اعرف عنها سوى أن اسمها سماء ، لا ادري ان كان اسما حقيقيا او مستعارا ، كنا نتشارك الكتب والروايات الالكترونية ، وكلها كانت تحكي قصصا لناس مجانين ونساء متمردات يخضن حروبا داخلية في عوالم بعيدة عن الحروب الكبيرة .
قبل الحرب بفترة اختفت سماء
لم اكترث لغيابها كثيرا ، ظننتها تزوجت أو سافرت ولم تعد بحاجة الى صداقتنا الافتراضية ، وكنت قد وصلت مرحلة من حياتي صرت اتقبل فيها غياب الناس ولا ارغب بنقاشهم كثيرا او التوسل لهم للبقاء .
مع بداية الحرب تساءلتُ عن مصيرها وتمنيت ان تكون بخير ، ثم نسيت الموضوع تماما حتى وصلتني منها رسالة في منتصف ليلة شتوية .
” إحكي معي ، أنا خايفه “
حاولت الاتصال بالرقم لكن تم رفض المكالمة ، وصلتني رسالة :
” البطارية ممكن تخلص ، أنا محبوسة تحت الأنقاض ” .
تبادلنا الرسائل لمدة يومين ، ثم اختفت ، وبعد ثلاثة أيام عرفت من رسائلها أنها نَجَت ، صرنا نتبادل الرسائل يوميا .
لم اسمع صوت سماء فنحن لم نتحدث هاتفيا ، لا اعرف ملامح وجهها ولكنني تخيلتها فتاة ضئيلة خائفة ترتجف بردا ، حاولت أن ارفع معنوياتها بكلمات حلوة .
” صباح الخير يا سماء الحلوة “
” كيفك يا ملكة البرتقال “
” صباحك يا مديرتنا “
” مساء الخير يا أميرة البحر “
” أحلام سعيدة يا ساحرة الغابات الحلوة “
كنت ترسل لي وجوها ضاحكة وتكتب :
” ياه ، القاب كبيرة علي ، خايفه أخذلك “
أو ” طيب طيب ، شو ضل عندك القاب “
وفي إحدى المرات كتبتلي :
” سأخصص مفكرة خاصة بالألقاب التي تطلقها علي ” .
مع دخول الشتاء وعدتها بأنني سأحضر لها معي معطفا وكيلوغرام من القهوة وعلبة هائلة من الشوكولاته .
مضى الشتاء كله وأنا أفكر بلون المعطف الشتوي وبمقاسه ، وبحجم علبة الشوكولاته ، هل سوف يسمح لي الجنود بإدخالها ؟ .
هل اعطيها معطفي ليكون الموضوع رومانسيا أكثر ؟.
لكن الحرب استمرت طيلة فصل الشتاء .
اليوم اتخيل الحرب تنتهي في يوم صيف حار
واتخيلني هناك في غزة أساعد الناس في ترميم بيوتهم
لم يعد المعطف الشتوي الثقيل فكرة جيدة
طلبت تي شيرت أبيض مطبوع عليه بألوان زاهية :
سماء ملكة البحر
مديرة الفرح
ساحرة الغابات الحلوة
الظبية التي تتغذى على الحكايات كي تعيش
طلبت من الخيّاطة أن تصنعه بمقاسين
مقاس صالح لامرأة بالغة نحيلة ، فالنساء يخرجن من الحروب باجساد منحوته
ومقاس صالح لطفلة رضيعة
مازلت أتكلم مع سماء
لكنني لم اخبرها عن القميص الصغير
لا اريدها أن تحزن
فهو خياري الاخر في حالة خطف الموت جسد سماء وأسكَن روحها في جسد طفلة وليدة .
إرسال تعليق