من بوسعه أَن يقرأَ الصَّمت؟ ولماذا، ومتى علينا أَن نفعل ذلك؟
قد يحمل الصَّمت في دلالاته في كثير من الأَحيان شبهة ما، خصوصاً حين يتعلَّق الأَمر بالجريمة.
تعرَّف السيميولوجيا بأَنَّها علم الدَّلالات، أَو الإشارات، أَو الصُّور، أَو الدَّوال سواء كانت لغوية، أَم غير لغوية، طبيعيَّة أَم اصطناعيَّة، إنَّها طريقة لقراءة الواقع، ولكن هذه الطَّريقة، في جزء منها، تستنطق الصَّمت، وتذهب فيما تذهب أَيضاً إلى الميتافيزيقيا، وليس الواقع الماديِّ فقط، إذ بوسعنا قراءة الحبِّ، والكره، والنَّذالة، والكذب، والغرور، وغيرها من مفاهيم من خلال صور محدَّدة أَيضاً.
في علم الجريمة، يحتاج المحقِّق إلى قدرات استثنائيَّة يتدرَّب عليها، وحدس، كي يصبح بوسعه استنطاق الصُّور، حيث يبذل الفاعل كلَّ ما في وسعه لإخفاء آثار الجريمة، وعلى المحقِّق أَيضاً أَن يبذل كلَّ ما في وسعه لاستنطاق صور ما بعد الجريمة، كي يصبح قادراً على إعادة ترتيب هذه الصُّور، وما تعنيه من أَحداث، للوصول إلى ما يشبه الحقيقة.
لكنَّ ذلك يعني، فيما يعني أَيضاً، أَنَّ قدرة هذه الصُّور على عكس مضمون ما، قريب من الحقيقة، بحاجة إلى معارف مسبقة، إنَّنا نستنطق الصَّمت، ونمتزج به، بقدراتنا، ومعارفنا، وانعكاس هذه الصُّور داخل وعينا، وإعادة إنتاجها، من أَجل بلوغ الهدف.
لكن، ماذا لو كان قد مضى على الجريمة مئة عام؟
إن القارئ الحصيف لرواية مصائد الرِّياح، سيفهم أَنَّ الرِّواية تحفل بلغة الصَّمت، وما يحمله هذا الصَّمت من دلالات، بل ما تحمله الصُّور من دلالات، ما يعني أَنَّ علينا أَن نكون مسلَّحين بمعرفة مسبقة، وحدس مسبق، وقدرة استثنائيَّة على تفسير هذا الصَّمت.
ستبدأُ هذه الصُّور من العنوان: مصائد الرِّياح، وما يحويه من دلالات معقَّدة، ولن ينتهي بلغة الخيل.
سيذهب إبراهيم نصر الله في لعبة فريدة، ذكيَّة في السَّرد، قائمة على استنطاق الرَّاوي العليم، الكليِّ، الَّذي بوسعه أَن يفكَّ ما التبس علينا بين الحين والآخر من دلالات للصُّور، والصَّمت، واللُّغة، كيف لا، ونحن نتحدَّث عن جريمة عمرها مئة عام، وقد تخوننا قدراتنا أَحياناً في استنطاق دلالات صورها، مع أَنَّ هذا الرَّاوي أَيضاً، يدَّعي فيما يدَّعي، بين الحين والآخر، خيانة الذَّاكرة، ربَّما كي يترك لنا المجال أَوسع من أَجل إعمال ذاكرتنا نحن في الجريمة، واستنطاق أَركانها.
إنَّه شريك في اكتشاف الحقيقة الغامضة، أَو ربَّما نكون نحن الشُّركاء.
ثمَّة قصَّتان متجاورتان، تسند كلٌّ منهما الأُخرى، تولد منها، وتلدها، سيبدو الأَمر أَشبه بالمتتاليات الرِّياضيَّة، أَو بجدول مندلييف الكيميائيِّ، إذا كان أ موجوداً، فعلى ب أَن يكون موجوداً أَيضاً، حتماً، وبالضَّرورة.
إنَّها عمليَّة إعادة خلق للحاضر، للتبُّع الماضي، لأَنَّ الحاضر لا يمكن أَن يكون إلاَّ امتداداً لهذا الماضي.
تشتبك المصائر: مصائر البشر بالخيل، ما يستدعي قراءة مصائر الخيل للوصول إلى مصائر البشر.
إنَّ رواية الرَّاوي الأُولى، الموسومة بعنوان" كما قالت الخيل" الَّتي يصدرها في لندن، الَّتي تتحدَّث عن فلسطين من عام 1929 إلى عام 1948 تعكس صور الواقع، في تلك الفترة، أَثناء الاحتلال الإنجليزيِّ لها، لقد أَصبح الواقع على مرِّ السَّنوات صوراً ثابتة، متآكلة، وأَصبح بحاجة إلى محقِّق جيِّد يعيد تأويلها، بعد كلِّ تلك السَّنوات، لأَنَّ ثمَّة جريمة وقعت، وقاتل حاول بكلِّ ما أُوتي من قوَّة أَن يخفي ملامح الجريمة، بل ذهب إلى أَبعد من ذلك، حين قدَّم تأويله الخاصِّ لهذا الواقع، وحاول أَن يطمس الحقيقة.
ستحرِّك الرِّواية الجريمة الَّتي أُغلقت ملفَّاتها، وستكتشف إميلي، الإنجليزيَّة، الَّتي وصفت الرِّواية بكلمة واحدة لا غير: حقيرة، أَنَّ الرِّواية قلبت موروثها المعرفيَّ رأساً على عقب.
سيقف الطَّرفان الرَّواي من جهة، ومعه راويه العليم، وإميلي من جهة أُخرى على طرفيِّ الصَّمت.
سيرى كلٌّ منهما الصَّمت على طريقته، وسيحاول أَن يفسِّره على طريقته.
هو يحاول أَن يحدِّثها بلغتها الإنجليزيَّة، وهي تصرِّ على أَن يتحدَّث إليها بلغته، العربيَّة.
إنَّها تحاول أَن تعرف ما الَّذي لم يقله في الرِّواية، لا ما قاله.
إنَّها الآن تصدِّق روايته اَكثر ممَّا تصدِّق رواية جدِّها.
تلتقي عيونهما، ويقولان كلاماً لا جمل واضحة فيه، كلمات كثيرة، مبعثرة، لا رابط بينها، والخطوة تصبح كلاماً أَبلغ من كلِّ الكلام، دعته ليتمشَّيا قليلاً في غوردن سكوير، لكنَّه دعاها إلى حديقة أُخرى، قريبة، إلى تافستوك، تعوَّد أَن يصعد مئة وثلاثاً وخمسين درجة، ويهبطها، دعاها كي تجرِّب الطُّرق الطَّويلة، الَّتي تحتاج إلى جهد عظيم، أَن تنخلع من نفسها للحظات، كي يصبح بوسعها أَن ترى الحياة على طريقته هو، الضحيَّة، مرَّا بالحديقة، أَول ما مرَّا به هو اللَّوحة الَّتي وضعت عليها صور وأَسماء المشاهير الَّذين سكنوا منطقة Bloomsbury، صورة فرجينيا وولف، وداروين، ولينين، ووليام هولمان هنت، كانت هذه الحديقة قد تأسَّست من أَجل سلام العالم، فنهرو زرع فيها شجرة، وهناك تمثال لغاندي جالساً، ثمَّ مرَّا بالشَّجرة الَّتي زرعها محافظ المنطقة عام 1967 تحيَّة لأَرواح ضحايا هيروشيما، تعمَّد الوقوف أَمامها، بل أَطال الوقوف، واحترمت هي صمته، كانا قد وصلا إلى باب آخر يؤدِّي إلى شارع آخر، قال لها: لنبحث عن مقعد مناسب لنتحدَّث، قالت له: أَظنُّ أَنَّ عليَّ الذَّهاب، فقد استمعتُ إليك أَكثر ممَّا كنتُ أَظنُّ أَنَّني سأَستمع.
إنَّه حوار الصَّمت، حوار السيميولوجيا، الصُّور، والأَداء، والدلالات، وسيبرز هذا الحوار أَيضاً جليَّاً وواضحاً خلال علاقة أَحلام بالخيل، وسيمياء الخيل، وخصوصاً حسّ، ودلالاتها، وعلاقتها بالرَّاوي، تقول له: فكَّرتُ في أَجمل شيء يمكن أَن نفعله هذا الصَّباح، فقلتُ: أَن أَصمت معك، كثيراً تحدَّثنا في الأَيَّام الماضية، فهمتك في كلامك، وأُريد أَن أَفهمك في صمتك.
يقول لها: هل تقترحين مكاناً هادئاً نصمت فيه؟
تقول له: ها أَنتَ تتكلَّم، ستمضي معي صامتاً، تجلس صامتاً، وتتحدَّث صامتاً، سأُحدِثك صامتة، وربَّما أَطلب منك أَشياء بصمت، وتردَّ بصمت، لكن حتَّى لو طلبتُ منك أَن تغنِّي، فعليك أَن تغنِّي بصمت.
كان يفكِّر، ويتساءل، وكانت تسمع ضجيج أَفكاره، وتساؤلاته.
هي المدمنة لصمت البحر، قادته إلى البحر...ليمارس صمته معها هناك.
هي الَّتي اعتادت منذ طفولتها أَن يقودها أَبوها إلى البحر، ليتواصلا عبر الصَّمت، صارت تسمع موسيقى البحر، وتؤِّلها، وترقص على نغماتها.
بهذه الطَّريقة كان بوسعه أَن يتخلَّلها، وكان بوسعها أَن تتخلَّله.
ستتلاصق جبهتاهما، كما تلاصقت جبهتها ذات يوم مع الحصان حسّ.
ستسيل فيه، ويسيل فيها.
إنَّها لغة الجسد، والإيماءات، والأَفكار، والموسيقى الغامضة الَّتي لا تسمعها سوى الرُّوح، إنَّها لغة أُخرى ميتافيزيقيَّة، أَعلى من المادَّة، من تمثُّل العلويِّ عبر التجسُّد الماديِّ الَّذي يفقده كينونته العلويَّة.
إنَّ ذلك الارتفاع سيتمثَّل في قدرة السَّارد على الرُّؤيا، وحوار السَّارد العليم، إذ كيف يمكن للرِّوائيِّ أَن يحاور السَّارد العليم لولا أَنَّه أَصبح قادراً على الخروج من تمثُّله الماديِّ، إلى التمثُّل الميتافيزيقيِّ، ليصبح قادراً بالتَّالي على رؤية ما خلف الواقع، انزياح هذا الواقع، وتأويلاته الَّتي لا تنتهي.
سيقول الرَّاوي العليم للسَّارد معترفاً له إنَّه أَفضل سارد صامت واجهه في حياته، وستعود إميلي إلى بيت جدِّها، وتنزع صورة المهر عن الجدار، وتلقي بها في حضنه، وتطالبه بالحقيقة.
بعد مرور سبعين عاماً وأَكثر على الجريمة، ستتكاثف الصُّور، ودلالاتها، وسنقفز فوق السَّرديَّات، سنشفُّ، ونسمو، ونعلو، نخرج من حالاتنا الماديَّة البحتة إلى ميتافيزيقا الوجود، ودلالاته، كي يصبح بوسعنا تفسير الماضي، الَّذي دفن تحت أَكوام من الرَّمل، والتَّاريخ، والضَّوضاء، والكذب، والتُّراب، كي نصبح قادرين على تحويل مسار الواقع، والمستقبل، إنَّها قدرتنا على الرؤيا، وتمثُّلها فينا، ليس أَكثر.
إرسال تعليق