(1)
ربما لا تستطيع أن تفرّق بين أن تكون واحداً ممن ينحاز إليهم الوقت، بكلّ مشاحناته، أو أن تكون محمولاً على ورقه الأصفر، ذلك لأنك لا تخرج عن صمتك إلا وتعود إليه، وكأن العقرب يخيّل إليك أنه يدور، وما هو بذلك، فقط كلّ ما تقوم به من نشاط، هو في المحصلة، نتيجة السيولة التي تصيب ما تحتك من قماش أبيض، يميل إلى الصفرة في كثير من الأوقات.
إنّ دماثة الأشياء، هي بالتأكيد، ما يمنعك من الفرار بذاتك، قبل إصابتها بورم الإحباط، أو لنقل بورم الذات، فأنت قاب قوسين من الهلاك، إذا لم تستوعب مجريات الحركة التي يحدثها نقرُ العقرب.
لتكن إذن فاتحة السّرد من هنا، من هذه النقرات التي تصدع في مخيلتك، ولا تفارقها، إلا حين ينقر عليك الباب، من هو قائم بشؤون التورية في مساحات غفلتك وصحوتك.
تغفو كثيراً على حلمٍ ليس يأتي ، وتصحو على
جملةٍ من التأويلات ، تحاول النهوض من مجرة صمتك ، يعيقك مفتاح البدء ، أتفتح
الذاكرة ، أم تفتح بوابة الهذيان ، أم تفتحهما معاً ، وهذا كلّه يحتاج إلى أن تشرع
ذاتك كلّها أمام مرآتك ، ومرآة من يشبهك .
في المساحة الأولى لهذا السرد ، الذي ينطوي في كثير من بنيتهِ ، على تداخل الحوار ، تدخل أنت لتهزم ضعفك الأزليّ ، عبر تسنيد الحوار على إشكالية اللغة ، التي تحفظ لك بعضاً من جوهر المعنى الذي تعيش عليه ، لهذا ستقاوم ورم الإحباط أوّلا، وعندما تفرغ من ذلك ، سيأتي دور ورم الذات .
لأوّل مرة ستنزع عنك عباءة الخلوة التي وضعك في تلافيفها صمتك الأزليّ ، ولأوّل مرة ستفتح عليك الباب ، بعد أن حُجب عنك زيت الشمس ، عشرين يوماً ، ستفتح له ، أو لها ، المهم أن تفتح الباب ، لا لشيء ، فقط ليغادر ورم الإحباط ضميرك المستتر في ضمير المخاطب ، ولو لبضع الوقت .
يدخل عليك لا تراه ، فهو خيالٌ طائف في مقلتيك ، وغائب عن ظلّه المستتر ، وهو يراك ، لأنه يتسلل من شبكية العين ، حاملاً صحوته الأولى ، لفعل المقاومة ، مقاومة ورم الإحباط ، تجلسه على صحن من الزعتر ، ثمّ تمدّ له بحركة خفيّة ، ورقة بيضاء ، لا صفراء ،
_
متى تنضج الفكرة؟
_
عندما تتخلّى عن ذاتك ، وتمشي إلى فراغ العقرب ، وتقيم جسراً لي ولك
_
وكيف لي ذلك ؟، وأنا محشورٌ بيني وبينك
_
ابدأ بإزالة الصدأ عن حديد دمك ، ستجدني في المساحة الخضراء
_
هل تشرب شيئاً ؟
_ كأساً من زيت سراجك المُطفأ ، أو كأساً من زعتر أحلامك التي لا ترى
وقف المستنجد مستنداً على ضمير الغائب ، وقد خلا الصلصال من روحه ، الفراغ المغنطيسي لم يكن طرفاً حيادياً في الوقوف ، دخل إلى غرفة أخرى ، هي ذاتها في تأويل مساحة الفقر ، نفض بعضاً من الغبار العالق في فضاء الغرفة ، التي لم تدخلها الريح من عشرين يوماً ، لم يتحرك عقرب الساعة ، بدا أنه لم يفق من غفوته ، عاد المستنجدُ حاملاً كأساً من الزعتر ، وقد أرخى ثوباً مرمريّاً على السراج المطفأ ، تحرك الضمير الغائب ، باتجاه السراج ، وأشعل عوداً من الثقاب ، وألصقه بالثوب ، وخرج قبل أن يشرب كأس الزعتر ، وقبل أن تندلع النيران في بيت المستنجد .
لم يقو المستجد عل الحراك ، من هول ما
رأى، ناراً تلتهم كلّ شيْ في طريقها ، ومياهاً
تندلق من النوافذ التي كسِّرتْ ، وأصواتاً تخترق حجاب الصمت ، وغلماناً يصعدون إلى
الأعلى ولا ينزلون ، وفواكه تستر عريَ الشارع ، وقوافل من نملٍ تعبر حقول الصدأ .
_ كلُّ هذا وأنت أيها العقرب ما زلت في مكانك ، لا تحرّك ساكناً
انتفض المستنجد، حرّك إصبعه الشاهد ، ونقر على العقرب نقرة واحدة ، فإذا هو يمور ، استرخى قليلاً، شرب من كأس الزعتر الذي لم يشربه الضمير الغائب ، وقذف بكلّ طاقته في النيران التي تلتهم كلّ شيء في طريقها للظفر بما هو قائم في كينونة المواجهة والانتشار .
(2)
ثلاثة أيامٍ فاصلة ومنهكة وقابضة على ما هو متحوّل في ذراع الشارع، مرّت على الحراك الناري في بيت المستنجد، ثلاثة أيام لم تكن كافية، لاختبار المجرّات الجوفيّة التي تدور حول بؤرة تمركزها في البحث عن زيت السراج المطفأ ثلاثة أيام وما زال المستنجد يتقلّب في أعماق الوعي والذهول، وأعماق الزائر الذي قفز على بساط الألوان الزيتية في لوحة الحياة التي صيغت على جذع شجرة.
المياه الجوفيّة التي قذفتها محركات الضمير ، أيضاً لم تكن كافية لإطفاء جذوة النيران الوهمية ، لا لضعف الحقل الأبيض الذي يندلق من فوّهات الخراطيم ، ولكن لمغايرة صفة الاشتعال التي تمتاز بها النيران ، هي إذن نيران غير منظورة في شقّها الفيزيائي ، وليست منظورة في تلاحمها مع هيجان الغيم ، واندفاعه عبر حركة الرياح ، وحوّاماتها ، كلُّ ما هنالك ، أنّ المتخيّل الذي يلفُّ المستجد ، يثير كتلة من الخيالات التي ترتبط في أدنى مقوّماتها ، بالوهم ، هذا بالنسبة للمستنجد ، ولكنّ الذين يرتبطون معه بصلة ما من قريب أو بعيد ، لا يرون هذا الحراك ، إلا كما يرى النائم حلماً مصحوباً بالشفافية التي لا تأويل لها ، سوى أن هذا الكمّ الهائل من الضغط النفسي ، يتشكّل في حقل النعاس النهاري ، على هيئة مادة فيزيولوجية تنطوي على قدر كبير من خفوت الأنسجة ونزفها.
ثلاثة أيام والمستجد يبحث عن طاقة فراغية في حقل النيران ، يمدّ ذراعيه المتوسطتين ، باتجاه النوافذ التي كسِّرتْ ، فلا يلمس إلا الفراغ الأثيري، يحاول التجربة مرة ، ثلاثاً ، ولا يسعفه المكان الذي حوّله الدخان إلى بئرٍ جوفيّة لا ماء فيها ولا حصى ، يمدّ قدميه فتنزلقان على عشب أصفر نما للتوّ في صحن البيت ، يكرر للمرة الثامنة ، ولا حبال للنهوض ، يحاول القفز حبواً على الكرسي المشظّى ، فتتقلّص عضلات القافية ، يمدّ لسانه فيتشقق ، إذ لا ماء في صحرائه ، سوى السراب ، ثلاثة أيام ، ولم يعرق له جبين ، رغم حرارة المحيط ، ولم تحترق ثيابه ، لأنّ القماش المبلل كان رطباً .
هنالك في الدرك الأسفل من المنازلة وجهان للمغامرة ، وجه يسطع في الخطاب المحمول على أجنحة الماضي ، بلغة ذات مفردات تستطيع أن تمرّنها على الدخول إلى حقل القول ، بعيداً عن بيانها النحوي ، الذي تضبطه علامات الرفع والجر والنصب ، ووجه محمول على المستنبت الزمني ، الذي تحركه لغة التسويف ، الذي لا تستطيع أن تتماهى فيه بلا ولاية ذاتية في المقام الأوّل ، كما وأن هذان الوجهان هما في الحقيقة غير قابلين للمماحكة والمناوئة تحت تأثير غياب المكان .
المستنجد بلا أدنى شكّ لحداثة سنه ، لا يعي هذا الدرك الأسفل ، كلُّ ما يعنيه أن يؤثث تربته الخاصة ، بكلّ مستلزمات البقاء ، فهو وإن كان غير قادر على التمييز بين الظلّ والنور ، والحضور والغياب ، والقوة والضعف ، إلا أنه كما يعتقد قادر على نسخ معطيات التربة ، وجرّها إلى عالمه الخاص ، الذي يسيّجه بالوجه المحمول على التسويف ، لأنّ ما آل إليه من شتات نفسي كان باعثاً قويّاً على حصر الزمن في إطار هذا الخطاب .
اثنا عشر عاماً هما حصيلة المستنجد من هذا الشتات ، منذ أن غادر والده سرير المنزل ، وغاب في لجة الزمن المقبوض تحت تأثير الخمر والميسر ، ومنذ أن التقطت أمّه شهوة البحر ، وزرقته ، وذهبت بعيداً في لجة الأمكنة وتشوّهاتها، اثنا عشر عاماً ، ولم ينشف القماش الأصفر ، رغم تلك الأشعة فوق الحمراء التي تلسع صلصال جسده ، ورغم الريح العاتية التي تهدّ كاهل جبروته الطفولي في العراء .
لم يجد المستنجد ملاذاً بعد هذا الشتات ، سوى أن يحفظ تفاصيل المكان المغيّب في حراكه الجوفي ، المكان الذي سيوفّر له ، أدنى مقوّمات البقاء ، واحتفاله بالنسيج الفسيولوجي ، وأقصى حالات العبث ، والانطواء ، المكان الذي لا يشرع نوافذه أمام الضمير الغائب .
إرسال تعليق