د. محمد عبيد الله
رحل أخيرا في العاصمة الأردنية عمّان الشاعر الأردني الكبير زياد العناني (مواليد 1962) بعد نحو 13 سنة من المعاناة مع المرض وآثار الجلطة الدماغية التي أفقدته المقدرة على الكلام وحدّت من حركته وصحّته ونشاطه منذ نهايات آب (أغسطس) 2011 وحتى رحيله يوم السبت 25 أيار (مايو) الذي صادف احتفالات المملكة الأردنية الهاشمية بالذكرى الثامنة والسبعيين للاستقلال ، وكأن الموت أبى إلا أن يربط رحيل الشاعر بحدث بارز، كي لا ينساه المحبون والأهل والأصدقاء، وكي يتذكروا شاعرا تميز بحساسية خاصة في الشعر العربي الحديث، عمادها التحرر من السائد ومعانقة الحرية قدر ما يستطيع الكائن، فكانت قصيدته استجابة لرؤيته ولطموحه، وأقرب إلى صيغة تعبيرية عن سيرته الأخرى الفكرية والنفسية بعيدا عن مواضعات الحياة الملموسة ومكونات الوجود القاهرة.
وقد مثّلت مجموعته (خزانة الأسف) جوهر تجربته وأساسها، من خلال عنوانها الاستعاري الذي يدل على (الحياة) بالمعنى الوجودي
ومع ذلك فإن الغياب القسري طوال السنين الثلاثة عشر السابقة ثم
رحيله النهائي المؤلم لن ينالا من مكانته الشعرية المتميزة والفريدة تلك التي
انتزعها بشاعريته المتدفقة الشرسة، وبقصيدته المختلفة التي طالما قدّمت أمارات
لشاعر استشهادي أراد أن يطابق بين القصيدة والحياة، دون أن يَقنع بأن الحياة أصعب
وأعقد من أن تعاش بوصفها قصيدة متحرّرة.
والعناني الشاعر الراحل واحد من أبرز شعراء التسعينيات في الأردن
والعالم العربي، وقد تميز في مجال تطوير قصيدة النثر بوجه خاص، ونقلها للتعبير عن
أحلام الكائن وخيباته بروح شعرية متمردة حاولت التملص من ثقل الحياة عبر اللعب
باللغة وتحريرها من السائد والمكرور، فكرة وتعبيرا، لصالح روح جديدة تعانق الوجود.
عرف العناني في عقد التسعينيات من خلال الصحافة الأدبية حيث نشر
قصائده وكتاباته وعمل في الصحافة الثقافية لسنين عديدة، وظهرت مجموعاته الشعرية
المتتابعة بعناوينها الدالة، وبمحتواها الشعري الجديد، وإلى جانب ديوانه الأول:
(إرهاصات من ناعور/1988) نشر في العقد الأول من الألفية الثالثة مجموعاته
المتتابعة: خزانة الأسف/2000، في الماء دائما وأرسم الصور/2002، كمائن طويلة
الأجل/2003، مرضى بطول البال/2003، تسمية الدموع/2004، شمس قليلة/2006، زهو
الفاعل/2009. وفي هذه المجموعات قدّم قصائد جديدة تتمتع بحسّ عال في التجديد، وفي
عناق الفكر والشعر الذي جدد من خلاله أرواح الشعراء المفكرين الذين تأملوا الحياة
وواجهوا معضلة المصير.
الشاعر المقيم في (خزانة الأسف):
وقد مثّلت مجموعته (خزانة الأسف) جوهر تجربته وأساسها، من خلال
عنوانها الاستعاري الذي يدل على (الحياة) بالمعنى الوجودي، ويقول في مقطع منها يرد
فيه التعبير نفسه الذي اتخذه عنوانا للمجموعة كلها:
واحد فقط
يخترق البويضة
ويسقط
في خزانة الأسف
تضعنا هذه القصيدة في جوهر الديوان، إذ تحيلنا إلى البؤرة
(البيولوجية) التي تعد إحدى البؤر المغذية للكتاب، بل لتجربة الشاعر كلها، وأثناء
ذلك تشير إلى الدلالة البليغة لخزانة الأسف بما تجمله من دلالة على أن الرحم –
الحياة كلُّها .. من المبتدأ إلى الخبر، لا تشتمل إلا على الأسف.. إنه تعبير
احتجاج وألم، على حياة الكائن، التي تبدأ بنشاط بيولوجي. في مكان ضيق محدود،
وعندما يولد يسقط في الحياة (بالتعبير الوجودي)، ليظل أيضاً في الإطار الضيق نفسه،
فالحياة مجرد (رحم كبير) لكنه ليس رحباً بما يكفي، لأنه ينتهي بنهايات مؤسفة تتمثل
في بؤس المصير.
ظل زياد العناني يلجأ إلى مثل هذه التعبيرات (البيولوجية) ويمهر في
شعرنتها وإحالتها إلى دلالة وجودية في إضافة تعبيرية بيّنة إلى تجارب الشعراء
الشاكين من الوجود، القلقين إزاءه، ولذلك فليس من الصعب الربط بين تعبيراته
وتعبيرات شعراء قدامى تعانقت في تجاربهم الفلسفة والهموم الوجودية بالتعبير الشعري
الأسيان، كأبي العلاء المعري، وعمر الخيام، ممن واجهوا أزمة الوجود بطرائق مختلفة
في ظاهرها ولكنها في جوهرها تعبير عن تمزق الكائن البشري وتهتك بطانته الوجدانية
أمام قوة الدهر ودبيب الزمان.
لقد عبّر العناني في (خزانة الأسف) كما في مجموعاته اللاحقة التي
ظل يخرجها تباعا من الخزانة نفسها، تعبيرا متينا ومؤلما في الوقت نفسه عن دراما
الإنسان في وجوده الناقص الشقي، منتبها بقوة إلى أهمية التقاط المفارقة الثاوية في
مواقف الحياة وتفاصيلها، محيلا دوما صورها وأشكالها الجديدة إلى أصلها الشقي نفسه،
ومن خلال ذلك كرّس ضربا جديدا من شعر "الفكرة" يقوم على تخييل
"المعنى" وليس تخييل "الصورة" وفي ضوء ذلك يفهم القارئ بغض
الشاعر للبلاغة التقليدية ولأنماط الصور التي يفخر بها كثير من الشعراء، أما
شاعرنا الراحل فحسبه من القصيدة أن تكون عصارة لقطات تكشف عن المفارقة الوجودية
وعن تناقضات الوجود، تلك التي لا تظهر بيسر ولكنها لا تخفى عن بصيرة الشاعر الرائي.
حضور الأم في التجربة الشعرية:
نلتفت في تجربة الشاعر إلى الحضور الطاغي للأم، في مختلف مجموعاته
الشعرية، فهو شاعر "أمومي" بتعبير ما، إنه شاعر الرحم التي كلما شقّت
عليه الحياة حلم بالرجوع المطمئن إليها، ومن أمارات حضور الأم تلك القصائد الكثيرة
التي تتردد فيها صورتها وتشتق تعبيرها من معاني الأمومة ودلالاتها، ومنها قصائده
التي ظهر فيها الألم بأجلى صوره عندما اشتد بأمّه مرض السكر فاضطر الأطباء إلى بتر
قدميها، فعبر الشاعر في قصيدة شهيرة له عن هذا الموقف بعد أن حوله إلى موقف وجودي
يتصل لا بمصير الأم وحدها وإنما بمصير الشاعر نفسه:
أمي دوّخها السكّر
بتروا قدميها
أمي
أمي
أمي
ماذا عنّي
كيف سأبحث عن جنّة ما قالوا
تحت الأقدام!!
فهو يحول مرض الأم إلى موقف شعري، مملوء بالمرارة، من خلال تكرار
لفظة (أمي) ثلاث مرات، تذكر بتكرارها في الأثر النبوي الشريف الذي يوصي بالأم،
ويستبطن في نهاية القصيدة الجملة المعروفة (الجنة تحت أقدام الأمهات) ولكنه حين
يطبّقها على أمه ويرى قدميها المبتورتين يمزج بين نشاط الذاكرة وقسوة الواقع،
فتتفجر الصورة بالصيغة الاستفهامية المؤلمة، لتغدو جزءا من رؤية الشاعر إلى ألم
الوجود وحيرة المصير.
وأهدى الشاعر إلى أمه ديوانه المعنون بـ(شمس قليلة) وذكرها بالاسم
الحقيقي (إلى غزيّل السواعير أمّي.. في جيدها حبل من عسل). وهو إهداء شعري لا
يختلف كثيرا عن طريقة الشاعر في اصطياد المفارقة وتعبير العدول أو الانزياح الذي
يفيد من تركيب الجملة القرآنية الكريمة، ولكنه يبدّل نهايتها ودلالتها لتغيّر
الشخصية المخصوصة بها. وعلى هذا النحو ينبغي تتبع مظاهر التعالق النصي في شعر
العناني ذلك أنها لا تدين في دلالتها لما كانته في أصلها وإنما لما صارت إليه في
موقعها الجديد في القصيدة.
تسمية الدموع: اندماج الصورة بالفكرة
وقدّم الشاعر الراحل في ديوانه (تسمية الدموع) تجربة مؤثرة في دمج
الصورة بالفكرة، عبر الاتجاه إلى صقل أفكار ربما سبق له محاورتها وتجريبها
والتعبير عنها، ولكنه في هذا الديوان يقدم لها معاينة تخييلية تجسد البطانة
الوجدانية الخفية، مما يقتضي ضربا من التصوير الذي ظل الشاعر حذرا منه، ومن التورط
في بلاغة لا يريدها بل يرى أن البلاغة الأصدق هي بلاغة التقشف لا الترف التصويري،
فالشعر الحقيقي عنده ليس شعر البديع والصور والإيقاع الصوتي، وإنما هو شعر التعبير
عن المعنى الخفي المستتر، أي أنه رأى الشعر تعبيرا عن المعنى وليس حزمة من الصور.
في هذا الديوان كما في دواوينه الأخرى مظهر البساطة الآسرة، التي
تصل القارئ دون حواجز أو جسور، فالشاعر يبدأ من اليومي والطارئ، لكنه يحوله إلى ما
يستحق التأمل والتوقف، وهكذا يغدو المألوف جديدا، لأنه يكتشف فيه طاقات خفية
مختلفة، أحيانا ينتقل باليومي والواقعي من مستواه الاعتيادي إلى بعد من أبعاده
الوجودية المؤثرة، وأحيانا أخرى يكتفي بتفجير طاقة المفارقة كي يطيح بهذا المظهر
أو الأمارة الماثلة من أمارات الحياة، وهو في كل حال يقدم ما يدفع إلى التأمل
والمراجعة، في تثوير لوظيفة مهمة من وظائف القصيدة التأملية المعاصرة.
العناني وبلاغة العتبات:
إذا كانت "العتبات" مفاتيح لثقافة الشاعر، فإننا واجدون
في كثير من عتبات دواوينه وقصائده ما يؤكد لنا أنه اتخذ من القصيدة أداة بحث وكشف،
ولذلك فإن قول مالارميه يستوقفه فيستعيره متماهيا معه في إحدى عتباته: "أنا
غير مبال لإيجاد أو استعمال لغة صافية، أنا بحاجة إلى لغة تبحث وتكتشف".
ويقوي هذه العتبة بمقتبس من (أدونيس) الذي أحب العناني في بعض مراحل كتابته
القصيدة الأدونيسية التأملية المتسائلة، وتعلق بدعوته إلى تحرير اللغة والكلام:
"إن تحرير الإنسان يقتضي هنا تحرير كلامه أيضا"، هكذا يستعير جملة
أدونيس ويتبناها في كتابته، محاولا أن يجادل اللغة وأن يخرج بها في قصيدته عما
وضعت له إلى ما يريد أن يعبر عنه، ولا شك في أن هذه الوظيفة من أبرز ما يمكن للشعر
أن ينهض به لما يفتحه من طاقات تحرير اللغة عبر فعل المخيلة وتقنيات الشعر التي
تنبئ بما وراءها من أمارات التحرر مبنى ومعنى.
ومن عتباته الدالة إشارة حزينة اقتبسها من (لوتريامون) الذي كان
يديم الشاعر الراحل النظر في كتابه (أناشيد مالدورو) ويتبناه كأنه يعبر عنه تعبيرا
صادقا: "سعيد من يغرق في سبات عميق ساعة يضع رأسه على مخدّته. ها إني منذ يوم
ولادتي المشؤوم أعاني من القلق الذي نذر ان يجرف دائما أعضائي إلى الحفرة التي
تنبعث منها منذ الآن رائحة المقابر".
لم يكن العناني في هذه العتبات مقتبسا أو معجبا بتعبيرات شعراء
آخرين من مشارب شتى، فحسب، بل كان يجد فيها ما يعبر عنه، وما يقرب من القلق
والشتات والألم الذي ظل يفتك به، وظل يعلق أمله الوحيد على القصيدة لتكون حبل
نجاته، ولكن القصيدة - بطبيعتها- ظلت محدودة الإمكانات من هذه الناحية سقفها
التعبير الوجودي اللغوي الممتد، لكنها لا تقدم حلولا ملموسة أو قابلة للتحقق
الواقعي، فكان يواصل التحليق كطائر لا ييأس، وبالرغم من توقفه منذ سنين ورحيله
المبكر الأخير فلقد خلّف تراثا شعريا باقيا، مثل أولئك الشعراء الخالدين الذين
توهجوا مثل شهب لامعة، وعزاؤنا في غيابه ورحيله ما تركه من شعر باق وخالد، سيحفظ
اسمه أبدا مع شعراء العربية الخالدين، فبقاء الشعر وخلوده هو اللون الملائم لخلود
شاعر متميز مؤثر مثل الشاعر الراحل زياد العناني. رحمه الله رحمة واسعة وسلكه في
مسالك المغفور لهم المعفو عن زلاتهم؛ لما شهده من شدائد وآلام في رحلة حياته
الخاطفة.
..............
المصدر: الجزيرة نت
إرسال تعليق