-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

تمثيلات الأب في ديوان الشاعر عصام الأشقر - أمضي على أثر له

 

الشاعر والناقد عبد الرحيم جداية


عتبة النص:


هل يشكل العنوان أثرا إن لم يكن إشكاليا؟


فهذا العنوان استله الشاعر من قصيدة (أبي ودروب الفداء) في قوله: «تمضي على أثر له تتسحّب» فهذا السطر الشعريّ كان خطاباً من الابن لأبيه، لكن الشاعر اختار أن يمضي كما يمضي أبوه فقال: (أمضي على أثر له) واتخذه عنواناً للديوان، الذي يطرح أسئلة عند المُتلقي، من الذي سيمضي؟ وعلى أثر من سيمضي؟


والدّارس لقصيدة (أبي ودروب الفداء) سيجد أن الشاعر ماضٍ على خُطى أبيه، مما يدفع المتمعّن للسؤال، ماذا أنجز الأب حتى يمشي الفتى على خطى أبيه؟ فالجملة الافتتاحية والتي يقول فيها الشاعر: «الى روح شهيد لا تحدّه الكلمات.. أبي» لنجد أن الشاعر ماضٍ بدرب الشهادة على خطى أبيه.


وقد جاء عنوان الديوان (أمضي على أثر له) موزونا إيقاعيا وعروضيا على تفعيلة الكامل، فللعنوان محموله الثقافيّ، الذي يفتح لنا عتبة الولوج إلى قصائد الديوان، فهل تفي قصائد الديوان بمحمولها الثقافي كي تنسجم مع العنوان؟ فالعنوان ليس مجرد جملة، إنه علاقة تكاملية مع قصائد الديوان، تحظى القصيدة الأولى بالمحمول الثقافي الأبرز، لكن عصام الأشقر قدم لنا محمولاً ثقافياً في قصيدتيّ الديوان وهما: (أبي ودروب الفداء)، وقصيدة (على هدأة القلب) ويستمر هذا المحمول في قصائد الديوان مثل قصيدة (جنين الحياة)


وهكذا يتشكل الديوان بنصوصه الشعرية موافقا لعتبة النص في إرث ثقافي، يمثل الشهادة والفداء لفلسطين، لنقرأ صوت المقاومة في هذا الديوان، استمرارا للشاعر هارون هاشم رشيد، وسميح القاسم، وشعراء المقاومة الفلسطينية.
التمثيلات والتمثلات:


هناك خلط مفاهيميّ عند بعض النقاد في التمييز بين مفهومي (التمثل والتمثيل)، فالتمثل بأبسط أشكاله هو الصورة الفنية في ذهن الشاعر، والتمثيل هو الصورة الفنية التي أنتجها الشاعر على صفحات ديوانه، وقد درس الناقد الدكتور سلطان الزغول، التمثيلات في الشعر العربي في كتابه بعنوان: (تمثيلات الأب في الشعر العربي) كما درست الدكتورة ليندا عبيد، التمثيلات في كتابها: (تمثيلات الأم في الرواية العربية) وأما الدكتور عبدالرحيم مراشدة، فقد درس التّمثلات في كتابه: (تمثلات الهايكو في شعر نضال القاسم) الذي قدمت له الدكتورة جودي فارس بطاينة، ليعيش المتلقي جدلية عقلية، وفلسفية، بين التمثل والتمثيل، وبين منشئ النص والمتلقي.


تمثيلات الأب في شعر عصام الأشقر:


هذا العنوان (أمضي على أثر له) يدفع المتلقي للتساؤل عن أي أب يتحدث الشاعر عصام الاشقر؟ ربما يتحدث عن أبيه البيولوجي، فالولد له حظ من أبيه، وله الحق في تتبع خطاه في قوله: أمضي على أثر له، فهذا الأثر قد يكون متراكما، ومتعددا، وشفيفا، بالكاد يتعرف الشاعر على ذاك الأثر، لكنه سيقص الأثر ويمضي ليشكل مسيرة شعرية، فدائية استشهادية، موازية لرحلة أبيه الجهادية في حرب 1967م ومعركة الكرامة 1968م مع الجيش العربي، وكذلك جاهد أبوه فدائيا في لبنان واستشهد هناك في زغرتا طرابلس في لبنان عام 1976م، وإن لم يكن الأب البيولوجي فحتماً إن الشاعر يتحدث عن رمزية الأب الجمعي في العقل الفلسطيني المقاوم، ليستمر الجهاد جيلاً بعد جيل، ولا ضير إن ذكر الشاعر الأب البيولوجي، لكن رمزية الأب الجمعي هي التي تشكل مسيرة الشاعر والجيل الذي عايشه، ليمضي على خطى أبيه، ويمضي على خطى الشاعر أولاده وأحفاده.


وفي كلا الحالين فإن الشاعر يقدم لنا تجربة شعرية، طور فيها أدواته، وتقنياته الشعرية، وإيقاعاته العروضية، وصوره الفنية، ولغته الجمالية، التي امتازت عن ديوانيه السابقين، وهما: (هزي جنوني، كلمات غضبى) فهذا الانشغال في القصيدة، ولغتها، وروحها، هي ضرورة حتمية لتطوير مراحله الشعرية، لنجد ديوانه الأخير (أمضي على أثر له) والذي هو قيد البحث والدرس، حيث قدم لنا الشاعر اسلوبا فنيا راقيا في تمثيلات الأب، وصوره المختلفة، من الحياة إلى الشهادة فداء للوطن

.
التمثيل الأول:


ويأتي التمثيل الأول من تمثيلات الأب، في عنوان الديوان (أمضي على أثر له) حيث صورة الأب صاحب الأثر، وصورة الأب القدوة الذي يُتبع، وهذا يدفع القارئ للبحث عن منجزات الأب، ولماذا يتبعه ابنه؟ والواضح أن الأب الشهيد، هي صورة اجتماعية، وإنسانية، ودينية عالية، فالتضحية والشهادة لا يقدم عليها إلا الخُلص من الرجال، وهم قلة في الضمير الإنسانيّ لما للتضحية من أثرٍ في الدفاع عن الوطن، والبحث عن الحرية، وقهر الاضطهاد والاحتلال، وهذه الصورة التي تمثل بها الأب، شكلت صورة وتمثيلا آخر للابن، الذي يمضي على نهج أبيه، والمحب لصورة أبيه البطولية، مما يدفع الابن الشاعر لتخصيص ديوان يتحدث فيه عن صفات أبيه، ووطنه الذي استشهد من أجله، مما خلده رمزاً في ذاكرة الابن والأحفاد.
التمثيل الثاني:


ويحضر التمثيل الثاني في إهداء الشاعر بقوله: «إلى أمتي ووطني وشعبي» فهذا التمثيل يحمل صوتا عاليا واثقا، ماضيا على نهج أبيه، وهذا يغلب صورة الأب الجمعي في ذهن الشاعر، وفكره، ووجدانه، بالنداء إلى أمته، وشعبه، ووطنه، هذا الشعب الذي لا يعيش في وطنه، لكن الوطن يعيش فيه، فلأجل هذا الشعب والوطن تمثلت صورة الأب المجاهد والشهيد، في ذاكرة الشاعر عصام الأشقر، ليشكل دربا واضحا، وصولا إلى نهاية حتمية ألا وهي حتمية النصر وطرد المحتل، فدماء الشهيد أبيه، ودماء الشهداء لم تنزف هدرا او عبثا.


التمثيل الثالث:


أخذ التمثيل الثالث عنوان القصيدة الأولى في الديوان (أبي ودروب الفداء) فصورة الأب الثالثة، هي صورة الأب الذي يمشي على دروب الفداء، وقد استخدم الشاعر كلمة دروب وليس دربا، لأن الفداء متعدد الدروب، فكلما أغلق دربٌ بحث الأب عن دربٍ آخر، وترك الأب في دروبه الشتى آثارا كثيرة، لهذا جاء عنوان الديوان (أمضي على أثر له) وكأن الشاعر يقول: سأمضي على أي درب من دروب الفداء التي تحقق النصر، فهذا الشعار رفعه أبوه، وأبطال المقاومة، وما زال يرفعه الأبناء والأحفاد، والشاعر الذي يحمل سرّ أبيه في جيناته الموروثة، لابد أن يورثها لأجيال لاحقة، وهكذا تتعاقب الأجيال.


التمثيل الرابع:


ينصص الشاعر عصام الأشقر قصيدته الأولى، أبي ودروب الفداء بقوله: «إلى روح شهيد لا تحده الكلمات» وفي هذا التنصيص استخدم الشاعر التنكير، عندما قال إلى روح شهيد، وهذا التنكير فيه تعميم إلى جميع الشهداء، لكنه يخص أباه بهذا القول، فأبوه لا تحده الكلمات، وهي صورة رمزية جليلة للأب، وهو تمثيل لغوي صوره فيه بأنه فوق الوصف، فإذا كانت هذه صورة الشهيد في ذهن الشاعر الذي يلعب بالكلمات، فقد حمله برمزية إلى مصاف لا يستطيع العقل تخيلها، وتحديد أبعاده، ودربه، ومسيرته، فلا تكفي الكلمات لوصفه، فكيف تصف الكلمات وتحد من أفضى روحه شهيداً في سبيل الوطن؟.
التمثيل الخامس:


صورة الأب في شعر ابنه، وهو يرسم الشوارع متأهبة لأبيه وهو يمشي بِزيّه (العسكري والفدائي)، كما يصف الشوارع بأنها مثل الشاعر، تمضي على أثر له، فالشاعر والشوارع كلاهما يمضيان على أثر أبيه، وكذلك فإن الشوارع تمهد حصوها اشتياقا إلى لقائه، حينما يدوس الأب على العدى، فصورة الأب هي صورة المدافع عن الثرى، والمدافع عن الحمى، وذلك بقوله:


«
لأبي الشوارع


حين كان بِزيّه يمشي بها تتأهبُ


كانت شوارع بلدتي


تمضي على أثر له تتسحّبُ


تحمي خطاه تُجلّهُ


وله تمهّد حصوها.. تتحببُ


تشتاق حين لقائه


قدماً تدوس على العدى تتقلبُ


فهو المدافع عن ثراها


والحمى يدعو له يتقربُ»


التمثيل السادس:


بعد أن صور لنا الشاعر عصام الأشقر، في قصيدة (أبي ودروب الفداء) تمثيلات الأب بعنفوانه، ودفاعه عن ثرى وطنه، فإنه يقدم لنا تمثيلاً سادسا لصورة الأب من خلال أثر الفقد بعد استشهاده، فعزبته وبلدته وقريته مَدرج الطفولة شعرت بهذا الفقد، وكذلك الغور والنهر شعرا بهذا الفقد، وحيث تنقل في وقاص، والقليعات، والكرامة، كان الفقد حاضراً، ونستشهد بمقطع من القصيدة على صورة الأب، وتمثيلات الابن لأبيه حين اهتز المكان، وشعر بالفقد فقال:
 فقدته (عزبته) التي


كانت له فيها مدارج للطفولة


ساقها نحو الشباب


تحط في وجدانه فواحة تتطيبُ


والغور
والنهر الذي تحلو على ضفاته


سحب الغناء وماؤه يتشخبُ         


التمثيل السابع:


الصورة والأصل، فالقصيدة التي أعلنت تمثيلات الأب، تعلن الصورة كما أعلنت الأصل، فالأصل في عزبته والأصل في كل موقع دافع فيه عن وطنه حتى استشهد، فجاء ثرى الأردن صورة موازية، أو صورة مقابلة بين جغرافيا الأردن وجغرافيا فلسطين، تلك الجغرافيا التي يمتد فيها نهر الأردن، فيقول الشاعر معلنا تشابه الصورة والأصل، وربما تطابق الصورة والأصل بقوله:


 فعلى ثرى الأردن


كنت سلاحه في وجه من يدنو إليه..


لتكون أنت الأقربُ


(وقّاص) تشهد


(والقليعات) التي أسدا على أبوابها وقفت جراحك


(والكرامة) في عباءتك ارتقت نحو العلا..


تتصببُ
التمثيل الثامن:


الصورة المقابلة للوطن، لا يمكن أن تكون أي مدينة مثل إربد، أو درعا، أو الجولان، أو أي مكان على الأرض أن يشكل صورة مقابلة لعزبته في فلسطين، ولكن ربما تكون الألفة مع المكان في إربد، ودرعا، والجولان، كما الألفة في الغور والنهر تشكل ما يشبه الصورة المقابلة للوطن، ولكنها لا يمكن أن تكون هي الصورة البديلة، كما يحاول العدو أن يسوّق الوطن البديل، حيث يقول الشاعر:


«(
وبإربد) العز الذي لم تنسه


وبأرض (درعا) سهلها قد خضته


ومددت في (الجولان) دِرعاً ظَلها


حتى إذا ولغ الذئاب بتربها


كنت الرصاصة وليس فيهم طيبُ»


فالصورة الحقيقية للأب، هي صورة الرصاص الذي يقتل دفاعاً عن الوطن، حتى لا يلغ الكلاب، وليس الذئاب بترب الوطن، فالأب الشهيد هو الرصاص، وهو الأب العاشق للوطن بقوله:


«
ومضيت فيها عاشقا


والشهد منك على رباها يُسكبُ


حتى إذا طلب المنون رجاله


أقدمت لا تتهيبُ»


حيث أضاف الشاعر إلى صورة الشهيد المنافح عن وطنه، الضارب كالرصاص والعاشق، فأضاف له صورة الشجاعة، صورة الأب الذي يقدم إذا طلب المنون رجاله ولا يحجم، فهو الواهب قلبه للشهادة، ويرجو الجنان، لأن أجر الشهيد عند ربه.
التمثيل التاسع:


انتماء الصورة للأصل، كل هذه التمثيلات والصور التي أوردها الشاعر عصام الأشقر، في قصيدته: (أبي ودروب الفداء) ما هي إلا صور وتمثيلات، يطلبها الشاعر الابن ليقول لأبيه الأصل إنني مثلك يا أبي ودربك سيبقى جذوة، يصطلي بها الآخرون، كي يأتوا منك بقبس، فكما يوهب الموت، توهب الحياة، واختم بقول الشاعر لأبيه، أي قول الصورة التي تنتمي للأصل:
«
سيظل دربك جذوة


أحيا بها


تعطي الحياة لنسلنا


إن الحياة لتوهبُ»


الخاتمة:
استخدم الشاعر التمثيلات لصورة الأب، ليستشهد بها على صورة الابن والذي هو امتداد لأبيه، يمشي على خطاه، يبحث في الدروب عن أثر له، يمضي حيث مضى أبوه، بشجاعة الفرسان للتخلص من الخائنين والعدى، الذين ترقب عيونهم الفتات، والمال، والمناصب، لكنه: (أي الشاعر) ماضٍ على أثر أبيه، فالابن والأب هما الصورة والأصل، وكل تمثيلات الأب هي تمثيلات للابن، إذ يقول الشاعر

:
«
أنا يا أبي لم أنس يوماً دربنا» فكيف ينسى من يمشي على درب الشهداء، أصحاب البطولة، والشجاعة، والفداء، كيف له أن ينسى مواصلة المسير، على نفس الدرب، ونفس النهج، حتى وإن حكم البغاث، فسيضل الدرب جذوة يستنير بها الابن والأحفاد، وكل منافح عن ثرى فلسطين.


 
المراجع
الزغول، سلطان، تمثيلات الأب في الشعر العربي الحديث، الأردن إربد، عالم الكتاب الحديث للنشر والتوزيع،2012م
الأشقر، عصام، ديوان امضي على أثر له، الأردن إربد، دارمرايا،2023م


الأشقر، عصام، ديوان هزي جنوني، الأردن عمان، دار الأهلية للنشر والتوزيع،2010م


الأشقر، عصام، ديوان كلمات غضبى، الأردن إربد، مكتبة الطلبة،2008م


عبيد، ليندا، تمثيلات الأب في الرواية النسوية العربية المعاصرة، الأردن عمان، دار فضاءات للنشر والتوزيع،2007م


مراشدة، عبدالرحيم، تمثلات قصيدة الهايكو في الشعر العربي مدونة نضال القاسم الشعرية انموذجاً، الأردن عمان، دار

الخليج للنشر والتوزيع، 2020م

___

الدستور

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016