تمثلات المقاومة في ديوان - نخلة للمخاض - النخل والحجر أنموذجا للشاعر عبد الرحمن الفحماوي.
يغص ديوان الشاعر عبد الرحمن الفحماوي (نخلة للمخاض) بمعاني الحس القومي التي تمثلت في حديثه عن النخلة والحجر برمزية واضحة، واستدعى من خلالهما بعض الشخصيات التاريخية التي شكلت رموزاً للبطولة والفروسية والثورة عبر التاريخ العربي. واتخذ من ذلك وسيلة فنية تعكس تعلقه بالوطن وانشغاله بالهم العربي الجمعي، فكرَّس جُلّ ديوانه للشأن العربي بشكل عام وللقضية الفلسطينية بشكل خاص حتى بدا صدق الانتماء في شعره جلياً لا يخفى على قارئ الديوان.
لقد جعل الشاعر من ديوانه (نخلة للمخاض) وعاءً امتلأ بمعاني القومية بكافة تجلياتها حتى أن المتلقي يستشعر الحس القومي عند الشاعر منذ عتبة الديوان الأولى العنوان (نخلة للمخاض)؛ فالنخلة ترتبط بالعربي منذ القدم، وتحتل مكانة بارزة في تاريخ الدولة الإسلامية وحضارتها، وهي في دلالاتها تشكل مصدر شموخ واعتزازٍ وفخر للعربي كما تشير إلى العطاء والتجدد وولادة الأبطال لنيل الحرية من رحم انتفاضات الفلسطينيين .
كما اقترنت النخلة في عنونة الديوان بالمرأة من حيث المخاض من جهة، والتناص مع سورة مريم من جهة ثانية، ولعل اقتران النخلة بالمرأة لم يكن لتداعيات الجمال في الشكل والطول والعطاء، إنّ الاقتران هنا جاء بالمعاناة وألم المخاض والولادة، فبعد الخلاص من المخاض يكون مولود يفرح أهله ومن حوله، وكذلك التحرر والحرية يُفرحان من وصل إليهما بعد نضال ومعاناة كبيرة
شكل الحجر محور الديوان الرئيس في تكرار وروده وفي منح المقاوم حق نيل الحرية، وكونه أداة تمتد بتوالد الفلسطينيين ولا تختفي.
لقد أنسن الشاعر النخلة وجعل منها امرأة؛ فالنخلة رمز للخصب والعطاء وحالها حال المرأة الفلسطينية بعد مخاضها وألمها ومعاناتها تنجب مولودًا تُعده عبر الأيام لمقاومة المحتل بالحجارة، فتصبح العلاقة بين النخلة والحجارة متوافقة تتمثل في بنوة الحجر للنخل كبنوة المرأة لطفل الحجارة.
وعلى قلة ورود النخلة في الديوان فإنّها ممتدة من خلال تشكيلها ثنائية متكاملة مع الحجر؛ إذ شكل الحجر محور الديوان الرئيس في تكرار وروده وفي منح المقاوم حق نيل الحرية، وكونه أداة تمتد بتوالد الفلسطينيين ولا تختفي، وهو أداة المقاوم الفلسطيني يستخدمها في مقاومة المحتل والوسيلة لإعادة الحق المسلوب، ولعل ذلك يشي بالعلاقة الدائرية التكاملية بين النخلة والحجر.
لقد شكَّلت النخلة والحجر ثنائية العطاء والصمود في قصيدة " المستحيلات الثلاثة " إذ إنهما يشتركان بهذه الصفة- كما سبق- ويشكلان قاعدة للامتداد العروبي. ويظهر النخيل مقترناً ببغداد فهي سيدة النخيل، وثالثة الأثافي بعد غزة والخليل على حد قول الشاعر:
" بغداد سيدة النخيل
بغداد ثالثة الأثافي
بعد غزة والخليل
بغداد يا دمنا على دمنا يسيل "
لقد جعل الشاعر من بغداد سيدة النخيل في صبرها وتحملها؛ ذلك أنها قاومت بشدة وشراسة الغزو الأمريكي، والمقاربة هنا بمقاومة سيدة النخيل (الشجرة) التي عُرفت بقدرتها الفائقة على تحمل كل تقلبات الأحوال والظروف كالبرد والحر والعطش كما تحملت بغداد كل ما واجهته من تحديات جسام، وما حلّ بها من ويلات الحرب وما جلبه تحالف قوى الشر عليها، كما أكّد الشاعر أن بغداد كانت أول رمز للعطاء والصمود والشموخ في قوله " بغداد أول نخلة " ليدلّ على عراقة بغداد وأصالتها.
ويحضر النخيل ببغداده وعِراقه مرتبطا بأمجاد الأمة العربية فيبدو - وهو الشامخ العريق في قدمه الضارب جذوره في الأرض والممتد سعفه في السماء - محاصراً بالظلم والقهر وبطش الغرب وعدوانه، ومع أنسنة الشاعر للنخيل وللبلاد المغتصبة واستذكار أمجاد الأمة يخاطب بغداد بحديث ذي شجون متأملاً منها ألاَّ تنحني ومحولاً إياها إلى رمز القداسة، فيصورها بمريم عليها السلام متناصاً بذلك مع سورة مريم في مخاطبة بغداد، إذ يقول:
هزي إليك بجذع نخلك عاليا
واسّاقطي شهبا وأنت ضرام
لتصبح بغداد هي مريم البتول الطاهرة فتهز نخلها بنفسها لا لتسقط الرطب بل لتسقط الشهب والنيران على الغزاة، وهي أي بغداد مشتعلة بالثأر وتحقيق الحق.
وتتحول صورة النخيل إلى شهيد إذ يتحول الشهيد إلى جذع النخيل ليمنح الأم المنزلة العليا بشهادة ابنها، ويمنحها أجر الصبر، وهو بشهادته إنما يكتب لأمته العزة والرفعة، ويناشد الشاعر في ندائه أم الشهيد لما لها من مكانة في صقل شخصية الشهيد، ولعطائها الذي لا ينضب في قصيدة "إمام الشهداء" مطالباً إياها أن تهز بثبات جسم الشهيد ليساقط عليها العلو والتَّبجيل والتَّعظيم، فبدماء الشهداء تحمى الأوطان وتُصان، يقول الشاعر:
" وليس بغير الدماء تصان البيوت
فيا أمُّ هزي إليك بجذع الشهيد النخيل "
لقد جعل الشاعر من الشهادة في سبيل فلسطين أرقى معاني العطاء والثبات خاصة إذا ما ارتبطت الصورة بالنخيل، فالشهيد يرتقي إلى الجنة شامخا، وبه تنال الأمة الحرية، وكما أن جذع النخلة أساس ثباتها فإن الشهيد أساس نهوض الأمة وارتقائها في سلم المجد. لقد قارب الشاعر بين مكانة النخلة بين الأشجار في التاريخ ومكانة الشهيد بين الأموات عند الله عز وجل، وهو يشير بعد ذلك إلى الخنوع العربي، فالأمة تستمع إلى صوت الرصاص بشدته وقسوته فيرتفع الرصاص ويلتصق العربي المستسلم بخزيه ومهانته بالتراب، وليس للعرب عندئذ " نخلة للمخاض تُهزّ " أي لا عطاء يذكر، ولا شهداء يقدمون أرواحهم فداء للعقيدة والوطن والأمة.
............يتبع الجزء الثاني
د. إنعام القيسي
29- 3- 2024م
إرسال تعليق