حتّى وهُمْ يضربونَ على الأرضِ بأقدامِهم، لا يجدونَ ضيراً من الركونِ إلى أقربِ منعطفٍ مظلمٍ في سبيل تأجيلِ الصباح، ربّما من أجلِ أن ينزعَ أحدُهم سترتَهُ ويغطّي بها جثّةً يتيمةً، إنّهم قتلاكِ الذين يتجوَّلونَ دونَ رقيبٍ في صفحةِ الوفياتِ من جرائدِ الأعوامِ الماضيةِ، ولعلَّكِ تُدركينَ معنى أن يتحادثَ الأمواتُ للتباحثِ في شؤونِهم ليلاً، فَهُمْ يرفعونَ أصواتَهمْ بغيةَ اشتقاقِ برزخٍ بينَ الحناجرِ، ويمدّونَ سماطاً طويلاً في الشارعِ كي يولموا للعابرينَ من الأحياءِ، ويقرعونَ الطبولَ بعظامِ سيقانِهم كي يوقظوا الحسناتِ النائمةَ في خزائن الشياطين.
*****
جعلتُ فداكِ
ذلكَ أقلُّ ما يمكن لعاشقٍ أن يقولهُ لكِ،
وأكثر ما أستطيعُ أن أزجي لكِ من الهدايا، ثمّ ما الذي يمكنُ لمثلي أنْ يهديَ
لمثلِكِ وأنتِ تنعمينَ بكُلِّ ما يُقصِّرُ يدي عن النيلِ من ثمارِكِ؟ وتلقينَ كل
ليلةٍ بقميصِكِ على عينيَّ كي أعودَ إلى الظُلمةِ، كفيفاً يفتِّشُ عن شعرِكِ في
المرايا، جائعاً يتشمَّمُ رائحتَكِ في الخُبزِ اليابسِ، و غريباً يسألُ عنكِ
اللافتاتِ التي أضاعَتْ حروفَها في تقادُمِ الغياب .
*****
أَتعبَني التكرارُ
لساني وحيدٌ
والأغاني نساءٌ حزينات
عارياتٌ
يتناوبنَ على ثوبٍ واحد
***
ومضى بنسائِهِ إلى الصحراء، حيثُ لا كهرباء ولا بشر ولا تماثيل، إنّهُ الآن هناك، يتوسَّلُ العازفين كي يذعنوا لِعصاه،
في الموسيقى أثَرٌ من ذيلِ حصانٍ أصبحَ وتراً، في الموسيقى ندبةٌ من وجهِ عازفٍ أخطأَ الطريقَ إلى الحنين وأومأَ إلى الراقصةِ أن تتمايلَ على جرحِ المسافرِ، كان المايسترو يخطِّطُ لسَفرٍ بعيدٍ في أنينِ النايِ، فأحضرَ الإبلَ والهوادجَ، ومضى بنسائِهِ إلى الصحراء، حيثُ لا كهرباء ولا بشر ولا تماثيل، إنّهُ الآن هناك، يتوسَّلُ العازفين كي يذعنوا لِعصاه،
المايسترو الذي يموتُ فيما تبقّى من الحُداء
*****
يموتُ الصّدى في بيوتٍ تصدَّعتْ جدرانُها
ذلك يعني أنّ من يصرخُ
شقيقُ الصّامتِ في دفاترِ الحجارة
وأنَّ الحناجرَ ليستْ سوى مدافنَ للصَّفيحِ
فبينما يعلِّقُ الراعي جرساً في رقابِ خرافِهِ
تكونُ هناك أمٌّ صمّاء
تعلِّقُ تميمةً في عنقِ ولدِها
ويعلِّق رجلٌ حزينٌ دمعةً صاخبةً في ترابِ
أبيهِ
ألا يمكنُ لنا أن نتبادلَ الأصواتَ؟
فأعطيكِ حزمةً من الأغاني
أو قميصاً من الآهاتِ الشائكةِ
وآخذَ منكِ أسبابَ عنايتِكِ بمشاجراتٍ عابرةٍ
بين الخَلِّ وماءِ الوردِ
ألا يمكنُ أن أكونَ في متجرٍ للأماني
وأتظاهر بكوني مغالياً في الإخلاصِ لِفقْري؟
وكما ترينَ
فإنّ الدمَ يبدو أخضرَ على طينِ جلودِنا
لكنّنا لم نكنْ حدائقَ
ولم تكن أوردتُنا أغصاناً
فهل لديكِ تسميةٌ لبكاءِ السواقي
قربَ منازلنا كلَّ يومٍ؟
هل لديكِ من الحبِّ
مايجعلُ الدمَ يسيلُ من الشرايين
دون أن يتركَ أثراً على القميصِ؟
هل لديكِ من الصُّراخِ
ما هو أعلى من الصمتِ المطبقِ
في كتابِ الرغباتِ التي تحتضر؟
*****
حدّثيني عمّا فعلتِ في غيابي
هل أسعفتكِ صورتي في التذكّرِ؟
هل وقفتِ عاريةً أمام المرآة
كي تخبريني أنّك في حلٍّ
من النار التي تأكُل السرير؟
هل نامت ستائرُ نوافذكِ نكايةً
بالشمسِ؟
وهل كان عليَّ أن أغيب كلَّ هذا الوقتِ
لأكتشف أنّك تصنعين من الغياب
كلَّ هذه التماثيل
لتعاودي تكسيرَها
كلّما طلعتِ الشمسُ على طينِ وحدتكِ ؟
*****
في مثل هذا الوقتِ قبل أربعينَ عاماً، في مثلِ
هذه الساعةِ تماماً، كنتُ أخطِّط أن أكون صيّاداً، كنتُ أخطّطُ لذلك من أجل أن
أغنّي كما يحلو لي، أغنّي ولا أسمعُ صوتي، فالماءُ يبتلعُ الصدى، لكنّي غرقتُ في
ترابِ القصائد، كان شبيهاً بالرمالِ المتحرّكةِ، وكنتُ أعملُ مثل جرّافةٍ، أقضي
الوقتَ في إزاحة الرملِ كي يعبرَ الناسُ إلى أغانيهِم، قبلَ أن يسمعوا لي ولو
أغنيةً واحدة
_______________
إرسال تعليق