الثنائيات وتكاملها في رواية
"أزواد"
أحمد أبو سليم
قليلة جدا تلك الروايات التي
تحدثت عن علاقة الإنسان بالحيوان في الأدب العربي، أعتقد بعد رواية "حين
تركنا الجسر" لعبد الرحمن منيف الذي كان فيها الكلب "وردن" شخصية حاضرة
وبقوة إلى جانب "زكي النداوي" ورواية "زمن الخيول البيضاء"
لإبراهيم نصرالله التي كانت فيها "الحمامة" بجانب بطلها
"خالد" تأتي هذه الرواية لتتحدث عن علاقة بطلها "ثائر الحماد"
بفرسه "الخضراء".
الخضراء والأرض
اللافت في رواية
"أزواد" أنها تعظم "الخضراء" حتى أنها تقدمها على الأرض،
فالجد "القاهر" الذي رأى تعلق حفيده "ثائر" بها يقرر شرائها
بمبلغ باهض، خمسين الف دينار، وبما أنه لا يملك هذا المبلغ قرر مبادلتها بقطعة أرض
ليسدد ثمنها، وهذا (يتعارض) مع رؤية الفلسطيني للأرض وأهميتها، فرغم أن الخيل/الفرس/"الخضراء"
مهمة إلا أن الأرض أغلى وأهم، وبهذا يكون السارد قد قدم صورة جديدة لطبيعة الصراع
مع المحتل، "فالخضراء" كانت السلاح/الوسيلة التي أنجز فيها
"ثائر" تألقه في مواجهة الاحتلال وإيقاع خسائر كبيرة في صفوفه
"تسعة وتسعون" قتيلا.
ولا يكتفي السارد بهذا التبرير
بل يُمنطق هذا السلوك من خلال رد الجد على طرح الأب: "ـ أفرض أنك أفقت في
الصباح فوجدتها ميته، أفرض لأن أحدا سرقها، أفرض أن جنديا أطلق النار على رأسها.
ـ الأرض أيضا يمكن أن تموت..
وندفنها.
قال ذلك قبل أن يشق شارع الستين
بسنوات، ويأكل جزءا كبيرا من أرضه، وأرض أخرى لسلواد، ويبقى جزء آخر منطقة حرام،
على جانبي الشارع، لا يحق لأحد أن يتصرف بها لأسباب أمنية" ص40، إذا ما
توقفنا عند هذه الحقيقة، الشوارع الالتفافية التي يقيمها الاحتلال على الأراضي
الفلسطينية، سنجدها أكلت الأرض ولم تبق منها إلا القليل، نصل إلى فكرة أن السارد
يعي/يعرف/يعلم حقيقة ما يجري على الأرض، لهذا تم توظيف هذه المعرفة في البناء
الروائي، وإعطاء المتلقي تفسيرا/تبريرا لخطوة الجد (الغريبة والجديدة) وتحفزه على
إيجاد أفكار جديدة تساعده على التقدم في مواجهة المحتل.
التماهي بين "الخضراء
وثائر"
يتدرج السارد في تقديم العلاقة
الحميمة بين الخضراء و"ثائر" حتى يوصلها الذروة، التماهي وحتى الحلول
بينهما، بداية هذه العلاقة كانت عندما شاهدها "ثائر" في بيت أبي قاسم،
حيث كان يتفقدها، وعندما قرر بيعها مرض مما جعل الجد يشتريها له، وهنا تتطور
العلاقة بينهما بصورة روحية: "أشعر بفرح جارف لا يمكن وصفه، كلما تحركت في
البيت شعرت أن ثمة خيطا يربطني بالخضراء، فأعود إليها" ص64، هذه صورة عن
بداية العلاقة بينهما، وإذا علمنا أنها كانت تغار على "ثائر" من حبيبته
"الجليلة" وأنها تعاملت معها على أنها (ضرتها) نصل إلى فكرة أن "الخضراء
وثائر" أكثر من شخص وحيوان، وأبعد من علاقة فرس بفارسها، وأعمق من أن تفسر أو
تُمنطق هذه العلاقة.
اللافت في الرواية أنها لم تقدم
(فكرة) عن الحميمية التي تجمع "ثائر بالخضراء" فحسب، بل قدمتها من خلال
لغة عشق صوفية تؤكد الحميمية التي جمعت "الخضراء بثائر": "أعود في
المساء متلهفا لرؤية الخضراء، تحضنني وأحضنها، تقبلني وأقبلها، تدخل فيّ، وأدخل
فيها، أشرع أبواب روحها وأدخل... نركض في الجبال، نجوب سلواد طولا وعرضا، نصعد
العاصور، نهبط إلى الوديان، ألتف نحو المزرعة الشرقية، عبر الطرق الوعرة، حول
المعسكر، ثم أتجه إلى كفر مالك، أدور حول القرية، نركض والريح تداعب روحي، تحملني،
أطير، أصرخ، أضحك، أعشق، أعبث، ألعب، أجن.
يقسم إنها لو كانت عروسي في
ليلة دخلتي لما ارتبكت بتلك الطريقة واستعجلت الذهاب إليها" ص75، إذا ما
توقفنا عند اللغة التي استخدمها السارد سنجدها لغة تماثل/تكامل: "تحضنني
وأحضنها، تقبلني وأقبلها، تدخل فيّ، وأدخل فيها، أشرع أبواب روحها وأدخل"
وحتى أنها اقرب إلى اللغة الصوفية، حيث تتكثف علاقة الجسد بالجسد، ليزول الثقل
ويمسى الفضاء هو المعبر نحو انطلاق الروح، وهذا ما وجدناه في الحركة التي بدأت
أرضية: "نركض، نجوب، نصعد، نهبط، ألتف" وانتهت بالكامل والوصول إلى
السماء/الروح: "والريح تداعب روحي، تحملني، أطير، أصرخ، أضحك، أعشق، أعبث،
ألعب، أجن" التدرج في هذا المشهد يقودنا إلى طريقة تقديم أحداث الرواية،
وعلاقة الشخصيات فيما بينها، فهناك تماثل وتكامل بين الشخصيات وهذا ما سنتوقف عنده
لاحقا.
إذن هناك تداخل/توحد بين
"الخضراء وثائر"، حتى أنها كانت تتقدم عليه في معرفة مكامن الخطر وتنذره
بها، "دافيد" القناص الصهيوني الذي جاء خصيصا لقتل "ثائر"
والذي يمتلك بندقية قنص قادرة على كشف حرارة الجسد والتعرف على مكان وجود الخصم،
وتستطيع القتل على مسافة 2000متر، جعلت المواجهة بينهما صعبة، من هنا وجدنا
"الخضراء" تتشارك مع "ثائر" الخطر وتنذره باقترابه: "صرت
اعرف دافيد بن هارون من صوت رصاصاته، كأنه صوت النار حين تطفأ فجأة في الماء، أشبه
بالشهيق العميق، الخاطف، ثم صرت أشعر فجأة بحضوره، ولا أدري كيف كان بوسع ذلك
الشعور أن يأتيني، ثم فهمت بعد شهور طويلة أن الأمر متعلق بالخضراء، وأنها تصهل
صهيلا متقطعا ساعة حضوره... كانت تستشيط غضبا كلما شعرت به على الجهة الأخرى، خلف
منظار بندقيته" ص198و204، وهذا ما يجعلها اكثر من مجرد "فرس"
يمتطيها فارسها، فقد كانت تحمل سمات إنسانية وحتى كرامات خصها الله لصفوة خلقه،
فتفاعلها وتأثرها وشعورها وإحساسها بالخطر يتماثل مع شعور "ثائر" مما
جعله ينجح في مواجهة عدوه والانتصار عليه.
من مشاهد الثقة بإحساس
"الخضراء" لحظة اعتقال "ثائر" من قبل الاحتلال، فقد بدا
مستسلما لقدره بعد أن وجد "الخضراء" مستسلمة، ولم تبد أي ردة فعل، يبين
لها هذا الحدث بقوله: "ألقي القبض عليّ وأنا لا أصدق نفسي، ولا الخضراء....
لكنني مع ذلك كنت أثق برؤيا الخضراء، لذلك لم أمانع، ولم أقاوم اعتقالي، قلت لنفسي
ثمة ما تراه الخضراء ولا أراه، حتى لو كان في اعتقالي موتي" ص305، هذه
المشاعر/العلاقة تؤكد أن "الخضراء" كانت روح وليس فرس، لهذا كان
"ثائر" يستمد منها الفعل، فهي من ترشده ليفعل، وهي من تنذره عند الخطر،
وهي من ستقوده بعد أن يهرب من سلواد لمواجهة جديدة: "تصهل الخضراء.. فأصهل
معها.. مثلها وأبكي، وتبكي معي، رأيت دموعها تسحج على وجهها مثلي، تصهل من جديد،
وأصهل مثلها، أعتليها، وننطلق معا، إلى المعسكر الغامض الذي يعلو العاصور، ذي
الطابات البيضاء، وصوت جدي يلاحقني، وصداه يتردد في الوادي
ـ إياك أن تموت يا بني.. إياك
أن تموت" ص318، إذا ما قارنا هذا الخاتمة مع ما جاء في الفاتحة التي جمعته
بالخضراء واللغة التي قدمت بها، سنجدها تتماثل معها، من خلال "تصهل فأصهل،
وأبكي وتبكي" ومن خلال الانطلاق من الأرض إلى السماء: "يعلو
العاصور" وهذا يشير إلى أن التماهي بين السارد وأحداث الرواية التي قدمت
بتناسق وتكامل وانسجام، بحيث كان كل حدث/شخصية تُكمل الأخرى وتُرفدها بمزيد من
الروافد لتكون أبهى وأكثر جاذبية.
الخضراء والجليلة
لم تكن علاقتهما على وفاق، رغم
أنهما تتشاركان في حب "ثائر" "فالخضراء" كانت تغار من
"الجليلة" حتى أنها عادتها وأظهرت غضبها من اقتراب "الجليلة"
من السارد: ما إن اقتربت من حتى راحت الخضراء تشخر بغضب وترتجف" ص83، وهذا
انعكس على السارد الذي تجنب أن يجتمع بالجلية أمام ال"خضراء" ومع هذا
كانت تعرف أنهما يتلاقا من خلال: "تشم رائحتها عن ثيابي، وتحاربني لأيام، أرى
الغضب في كل ملامحها، تدير ظهرها، ترفض الطعام، كنت أرى جسدها وهو يزيد هزالا يوما
بعد يوما" ص88، وهذا يؤكد أن العلاقة بين "الخضراء وثائر" تتجاوز
المنطق/العقل، فقد كانت أقرب إلى امرأة حقيقية منها إلى فرس.
ولم تقتصر الغيرة على الخضراء فقط، بل طالت "الجليلة" أيضا: "ـ ولماذا لم تأت لرؤيتي؟
ولم تقتصر الغيرة على الخضراء
فقط، بل طالت "الجليلة" أيضا: "ـ ولماذا لم تأت لرؤيتي؟ كنت مشغولا
بالخضراء، كانت تملأ فراغ حياتك؟ الخضراء ضرتي؟" ص96، ورغم هذه الأجواء إلا
أنهما "الخضراء وجليلة" عملا على أمداد السارد بما يحتاجه من حب، فهما
بالنسبة له النبع الذي يروي ظمأه ولا يستطيع أن يشعر بالسعادة إلا بوجودهما:
"لماذا كلما تذكر الخضراء تذكرت الجليلة" ص201، من هنا يمكننا الاستنتاج
انهما كانا جزءا من تكوين شخصية "ثائر" وما الإنجازات التي حقاقها إلا
بفضلهما معا، فوصول "ثائر" إلى جنين ومشاركته المقاومين في التصدي لقوات
الاحتلال كان بسبب توصيل "الجليلة" إلى بيت عمتها "لبيبة" في
مخيم جنين، وبفضل "الخضراء" التي اجتازت الجبال والهضاب والوديان إلى أن
أوصلته المخيم: "في الحقيقة الخضراء هي من قادتني إلى مخيم جنين، وسط دهشتي،
وتساؤلاتي عن كانت قد عفت عن الجليلة، وقررت التعايش معها" ص218، وهكذا بدأت
الخلافات بينهما تزول، حتى أن "الخضراء" رقصت في فرحهما: "في العرس
رقصت الخضراء، فأيقنت أن ذلك الجليد بينها وبين الجليلة قد ذاب" ص304، مما
يؤكد أن خوفهما على "ثائر" كان من أقرب إلى جنون الحب الذي يجعل المحب
يستحوذ على حبيبه لوحده دون مشاركة احد.
العياض والدهماء
علاقة "ثائر
بالخضراء" تتماثل مع علاقة "الفياض" بفرس "الدهماء" التي
تماهت مع العياض وغارت عليه من النساء كما غارت "الخضراء" على
"ثائر" من "الجليلة": "كل نساء فلسطين كن يحلمن بالعياض
وكانت الدهماء تغار عليه منهن" ص88، هذا التماثل لم يأتي من فراغ، بل، لأن
هناك حلقة وصل بين "العياض وثائر" وبين "الخضراء والدهماء"
فهم يتشاركون في مواجهة الاحتلال، ويتشاركون في الحميمية التي تجمع الرجلين من جهة
والفرسين من جهة أخرى: "الدهماء تعشق العياض بتلك الطريقة المذهلة، وتقرأ كل
ما يجول في رأسه" ص123، وهذا ما جعل شخصيات الرواية تتلاقى فيما بينها،
وتتكامل في الفعل وفي المشاعر/التماهي.
إذن هناك جامع بين "ثائر
والعياض" حتى إن "ثائر" تحدث عن تكامله مع ما بدأه
"العياض" من مواجهة للاحتلال، وحتى الحلول بينهما من خلال هذا المشهد:
"أين أنت يا عياض، أين أنت؟ أنهض من نومك لتشهد ما يجري في الوادي الذي سالت
دماؤك ودماء الدهماء فيه.
لا بد أنه ينهض داخلي... أقول
لنفسي، كنت أشعر به هناك، أراه أحسه، أعيشه، كان أنا، وكنت العياض" ص259، هذه
الثنائية بين "العياض وثائر" وبين وفاء "الدهماء والخضراء"
يشير إلى استمرارية الروحانية بين الفلسطينيين أنفسهم، وبينهم وبين خيولهم التي لم
تكن مجرد حيوانات أو أدوات، بل كانت تمدهم بالقوة والطاقة، وتتفاعل مع مشاعرهم
وأحاسيسهم، وتستشعر الخطر القادم وتحذرهم منه، وكأن الرواية من خلال هذا التماهي
بين الفلسطيني والخيل تريد القول إن كل ما في وعلى الأرض الفلسطينية يتآلف ويتوحد
لمحاربة العدو، إن كان إنجليزيا أم صهيونيا.
رغم هذا التلاقي والتماثل إلا
أن نهاية "العياض والدهماء" تتباين مع نهاية "ثائر والجليلة"
"فالعياض والدهماء" انتهوا إلى الموت: "لكن الحقيقة أن الجيش
الإنجليزي قد استولى على جثته، وجثة الدهماء التي بقيت ملازمة له حتى موتها، قبل
وصول النجدات، وعقد الهدنة، ودفنوهما داخل أحد معسكراتهم في القدس" ص137،
بينما "ثائر" استمر محافظا على وصية جده "إياك أن تموت" التي
تكررت أكثر من مرة وفي اكثر من فصل وموضع في الرواية.
الجد
الجد يمتاز بالحكمة والبصيرة
والصبر والإرادة والإصرار والإيمان ووفاء، فهو (الروح) في الرواية، لهذا وجدناه
صاحب رؤية صائبة عندما قرر استبدال الأرض "بالخضراء" ونجد فراسته بعد أن
يطلق سراح "ثائر" حيث يخبره بأن هناك مكيدة من الاحتلال الذي سيقوم
بتصفيته، لهذا يحذره ويدله على فوهة النفق الذي سيخرجه من البيت ليكون بعيدا عن
أعين جنود الاحتلال، ووجدنا متمسك بدفن زالده "المنجد" في القدس كما
أوصاه، فهو حمال الهموم العائلة والوطنية والأخلاقية: "أريد جثة جدك المنجد
كي أدفنها كما يليق بها، كما أوصاني، في لقدس، إل جانب العياض، أتفهم الآن أي
مصيبة أحملها على كتفي منذ عام 1948" ص99، مثل هذه الأخلاق تنم على أننا أمام
جمل المحامل، فهناك جانب العائلي، والوطني، وأخلاقي، كلها (تضغط) عليه ليوفي/ينفذ
وصية والده "المنجد".
موشيه
موشية القناص اليهودي الذي
انتصر على "القاهر" وقتل "المنجد" وأخفى جثته ليعذب
"لقاهر" جد "ثائر": " لأتلذذ بعذابه... وأرى صورة نصري
في هزيمته" ص51، وهذا ما يجعله رجلا ساديا متوحشا، حيث قام بأكل أصبعي الجد "القاهر"
بعد أن قطعهما أثناء رهانهما على معرفة مكان دفن "المنجد":
"ـ
كيف أكله؟
ـ كما يأكل لحم الضأن...وضع
عليه الفلفل الأسود والملح وتناوله بتلذذ، بالشوكة والسكين، مع كأس من
الفودكا" ص215، وهذا ما يجعله حيوان بهيئة بشري.
كما أنه يرفض ويحارب أن يكون
هناك قناص آخر يتجاوزه في الشهرة، لهذا وجد في "دافيد بن هارون" خصما
لدود له، وطلب من "ثائر" أن يقوم بقنصه والحصول على بندقيته مقابل أن
يدله على جثة جده "المنجد" ليريح جده "القاهر" من هم دفنه،
وما تشكل الجثة من ثقل عليه: "أتعرف معنى أن يدخل التاريخ أحد ويطردني من
مكاني؟... أتعرف معنى ذلك؟ معناه أنني أموت وأنا لا أزال على قيد الحياة"
ص158، إذا ما توقفنا عند هذا القول سنجد العلاقة التنافرية في المجتمع الصهيوني،
فالأفراد فيه لا يكملون أدوار بعضهم، ويرد كل فردا منهم أن يكون الإنجاز باسمه هو،
وله دون سواه، بينما في الحالة الفلسطينية وجدنا التكامل والتماثل والتماهي بين
الأشخاص وأدوارهم، هذه المفارقة مهمة في الصراع، لأن "موشيه" يبحثون عن
انتصار شخصي بينهما "ثائر والعياض والمنجد والقاهر" يريدون انتصارا
قوميا/وطنيا يتجاوز الأفراد، وما وصية الجد "القاهر": "إياك أن
تموت/لا تمت" إلا تأكيدا للرؤية التكاملية الفلسطينية.
ونجد "موشيه" يتلذذ
بتعذيب ضحاياه نفسيا كما يتلذذ بأكل لحمها: "لأتلذذ بعذاباته... وأرى صورة
نصري في هزيمته" ص51، هذا ما قاله "لثائر" عندما قابله، لكن بعد أن
يستلم بندقية "دافيد بن هارون" ووجب عليه أن يخبر الجد
"القاهر" بمكان جثة "المنجد" نجده يمارس ساديته بهذه الطريقة:
"لا بد أن قلبك الآن يخفق بعنف، أليس كذلك؟ بعد أربعة وخمسين عاما يا قاهر...
تخيل
ـ موشيه، لا تراوغ، مالك ومال
قلبي؟
ـ الجثة في أول مكان كان عليك
أن تبحث عنها فيه، طوال أربعة وخمسين عاما وهي تحت قدميك.
أين؟ـ بعد مئتي متر من هنا...
قال وهو يشير بسبابته باتجاه زوادي الحرامية" ص248، نلاحظ المماطلة وتطويل
الوقت في أفشاء مكان جثة "المنجد" فكان على "موشيه" حسب
الاتفاق أن يدله مباشرة على مكان الجثة ويحدده بسرعة، لكن ساديته ووحشيته تجعله
قاسي حتى بعد أن تم القضاء على خصمه "دافيد" الذي كان يمكن له أن يزيله
من مكانه كأفضل قناص في (إسرائيل).
الجد وموشيه
هناك علاقة بين الجد
"القاهر" وبين "موشيه" الذي قتل أبيه "المنجد"
وأخفى جثته، ليزيد من عذاب "القاهر الذي أوهم أن هناك رصاصة أصابته في رأسه
ولا يمكن إزالتها، لأن ذلك يعني موته، وهذا ما جعله رأسه دائم الوجع، رغم أن موشيه
ـ لاحقا ـ أخبره بعدم وجود رصاصة في رأسه، وعندما أراد "القاهر" معرفة
مكان جثة "المنجد"، اشترط موشيه عليه أن يقوم بطرح مكان معين، وإذا لم
يكن المكان صحيح فإنه سيقوم بقطع أحد أصابع يد الجد، وهذا ما كان حيث تم قطع
أصبعين من أصابع "القاهر" بعد أن فشل مرتين في تحديد مكان جثة
"المنجد"، منهما أصبع السبابة اليمنى حتى لا يستخدمه في القنص.
إذن العلاقة (السلام) بين
القناص الفلسطيني "القاهر" والقناص الصهيوني "موشيه" بسبب
إنقاذ "القاهر" من الموت بعد أن أوصله "موشيه" إلى المستشفى
حيث عالجه جسديا، وبسبب إخفاء "موشيه" مكان جثة "المنجد" عن
"القاهر، وبمعرفته مكان الجثة تنتهي مأساة "القاهر" وينتهي دوره،
ليكون "ثائر والخضراء" هما من سيكملا الطريق، طريق "العياض، ومنجد،
والقاهر".
التكامل
قلنا إن "ثائر
والخضراء" كملا دور "العياض والدهماء" كما أنه "ثائر"
أكمل دور جده "القاهر" القناص، وما قنصه لتسعة وتسعين جنديا وببندقية
(ميم1) وهي نفس نوعية البندقية التي استخدمها جده "القاهر" في منازلته
لموشيه، إلا من باب مسار الرواية التكاملي، لكن عندما توقف رقم عدد الجنود القتلى
عند تسعة وتسعون ولم يكمل العدد إلى مئة، حيث كان من المفترض أن يكون
"موشيه" هو التكملة، لكن موته في منزله جعل التكملة محيرة لثائر ولجده
"القاهر" الذي تعذب لمدة أربعة وخمسين سنة ليدفن والده
"المنجد" فقد كان يفضل ويريد أن يكون المئة هو عدوه اللدود
"موشيه"، لكن بعد موته اكتشف "ثائر" هذه الحقيقة: "من هو
المئة.. فكرت طويلا ولم أهتد للجواب... قال هو يمسك بكفي، فأشعر بدفء كفه.
ـ المئة هي إسرائيل يا جدي
بذاتها... ما كان يمكن للجدول أن يكتمل دونها، ولا للوزن الذري أن يصل حد التمام
دون تقويضها" ص316و317، هذا الاستنتاج يدفع بأحداث الرواية إلى الأمام، فلم
يعد هاجس "ثائر" تكملة العدد إلى مئة مهما، بعد إلى أن توصل جده إلى هذه
الحقيقة، إن نهاية إسرائيل هي الانتصار الحقيقي للفلسطيني "ولثائر
وللقاهر" وبهذا يفتح "ثائر" مساحة أخرى للآخرين ليكملوا العمل
ويحققوا الانتصار.
الرمزية
رغم أن الرواية تتناول حدثا
(واقعيا) إلا أن هناك رمزية جاء في أكثر من موضع، منها الرصاصة التي في رأس الجد
"القاهر": "إن ثمة رصاصة في رأسه، بقيت داخله، هناك، منذ حرب 1948،
وإن الأطباء أخبروه أن انتزاعها سيؤدي إلى موته، وأنها تؤلمه بين الحين والآخر"
ص34، مثل هذه الفقرة يمكن أخذها إلى ما هو أبعد وأعمق من رأس "القاهر"
فهي متعلق برأس كل فلسطيني فقد وطنه وأهله في حرب ال48.
وهناك مشهد آخر تحدث فيه عن
شارون القابع في غيبوبة: "أن شارون أيضا ذهب لرؤية الله، لكن الله رفضه، تركه
بين الحياة والموت، يرقد على سرير في المستشفى... يومذاك أحسست بخيبة لا توازيها
خيبة، كيف فعل شارون كل ما فعله بنا وذهب في طريق موته، هكذا، على فراشه كالبعير،
دون أن يحاسبه أحد عن كل خطاياه؟" ص102و103، في هذا الفقرة نجد رؤية
"ثائر" لحال المجرم والقاتل شارون، فالله الرحيم الغفور رفضه، فكيف بنا
نحن الفلسطينيين أن نغفر له أو نسامحه على أفعاله!؟ كما أن تساؤله عن عدم محاسبته
على الأرض يحمل بين ثناياه فكرة ضرورة تحقيق العدالة الأرضية قبل العدالة
السماوية، وهذا يستدعي منا نحن المتلقي العمل على إيجاد قوة تحقق العدالة المنشودة.
وعندما حكمت محكمة الاحتلال على
"الخضراء" بالإعدام لمشاركتها مع "ثائر" في أعماله القتالية،
ثم خفف الحكم إلى البقاء في اصطبلات الجيش، وألا يطلق سراجها أبدا حتى الموت،
يفسر/يرى السارد هذا الأمر بمنظور آخر: " ربما جعلوا حصانا "إسرائيليا"
يعاشرها، لتنجب منه مهرا "إسرائيليا" أصيلا لا يمكن
"لإسرائيل" أن تنجب مثله" ص127، وهذه كناية عن أصالة الفلسطيني
ووضاعة الإسرائيلي.
الحكم
"القاهر"
المقاتل، النبيل، المنتمي لعائلته ولوطنه، قدم رؤيته لطبيعة الصراع، كما أن
"ثائر" أدلى بدلوه أيضا، مما جعل الرواية مترعة بالحكم والأقوال
البليغة، فهناك مجموعة حقائق يجب الأخذ بها كحقيقة مثل هذه الأقوال: "أمة لا
تصنع سلاحها ورصاصها بأيديها أمه مهزومة لا محالة" ص22، "ثمة بطولات
فردية خارقة في زمن الهزيمة لا أحد يلتفت إليها أو يعيرها انتباها لأن الهزيمة
تغطي على كل شيء" ص80، "حين تريد إسكات البشرية عليك أن تلجأ إلى المقدس
فهو وحده من يعطيك ما لا يمكن أن يعطى لغيرك" ص90، "الحب يجعلنا خبراء
بمن نحبهم" ص95، "الموسيقى أكثر خطرا على البشر من اللغة لأنها تخاطب
اللاوعي...وتترسخ هناك، فيه، وتغيرنا ببطء وهدوء" ص125، "حين تصبح داخل
دائرة الفعل تشعر بصغر الأشياء التي كنت تراها كبيرة قبل ذاك" ص141، "لم
تكن القضية أبدا قضية البندقية ذاتها، بقدر قضية من يحمل البندقية...من أجل ماذا
يحملها" ص278، "حينما تصبح الأوطان كالأحذية الضيقة لا يمكن لها أن
تنتصر" ص290، إذا ما توقفنا عند هذا الاقتباسات سنجدها تخدم فكرة وأحداث
وشخصيات الرواية، حتى أن القارئ لها ـ ودون أن يقرأها ـ سيجد فيها شيء من مضمون
الرواية، فهناك حرب وسلاح، وهناك حب وعشق، وهناك معارك، وأمه مهزومة، وهناك مقدس
يُستخدم لتفريغ المجتمع والأمة من عناصر قوتها، وهناك موسيقى ملوثة وأخر نقية
وعلينا اختيار النقي منها، وهذا ما جعل هذا الاقتباسات مهمة لفنية للرواية
وللمتلقي الذي سيجد فيها خلاصة تجربة السارد في الحياة وفي صراعنا مع العدو الذي
لم ينتهي رغم مرور أكثر من سبعين عاما عليه.
المرأة
الرواية لم تغفل دور المرأة
فهناك "الجليلة" التي قامت بقتل شقيقها وشقيقتها لعمالتهما للاحتلال،
كما نجد "لبيبة" خالة "لبيبة" التي استشهد زوجها فحملت المسدس
لتقاتل به، وعندما سألها "ثائر": "هل يمكن أن تقتلي عسكريا؟
ـ ولماذا لا أقتل من قتل زوجي
وأولادي" ص219و220، وهذا ما يجعل المرأة فاعلة ومُأثرة في الأحداث فقد شاركت
الرجال المقاومة الاحتلال وتصفية العملاء.
العنوان "أزواد"
يبين السارد ما أراده من خلال
العنوان "أزواد" من خلال وصية الجد القار" "لثائر" بعد
أن هربه من فوهة النفق: "لا تمت.. قال وأنا أودعه.. وأمضي في طريقي... وصية
الوصايا... زاد الطريق الطويل.. بل أزوادها جميعا، الأزواد التي يحملها المقاتل
على كتفه، وفي قلبه.. إياك أن تمون" ص317، فزوادة المقاتل ليست العتاد
والذخيرة والتمون فحسب، بل الأفكار/المبادئ/التعليمات/الوصايا الأخلاقية والوطنية
والقومية التي يتحلى بها المقاتل.
الرواية من منشورات الاتحاد العام لكتاب والأدباء
الفلسطينيين، رام الله، فلسطين، الطبعة الأول 2024.
إرسال تعليق