الغربة والاغتراب في
"أغنيات لنهار آخر"
يونس عطاري
الوطن بالنسبة لفلسطيني يمثل الهواء
الذي يتنفسه، دونه يمسى مضطربا/حزينا/مكتئبا حتى لو عاش في أفضل بلاد العالم،
"يونس عطاري" رغم أنه (مستقر) في كندا، ويعمل فيها، وعنده أسرة يحبها
ومنسجم معها، ورغم أنه ناشط ثقافي ويقوم بترجمة الأعمال الأدبية من العربية إلى الإنجليزية
ويدير دار نشر وتوزيع، إلا إن حالة كحال قيس بن الملوح
"ألست واعدتني يا
قلب أني إذا ما تبت عن ليلى تتوب؟
فها أنا تائب عن حب ليلى فما لك
كلما ذكرت تذوب؟"
لكنه لا يعشق ليلى بل يعشق وطنه
وأرضه فلسطين، لهذا نجد غير مستقر (نفسيا) وهذا ينعكس على ما يقدمه من أدب، سأحاول
التوقف عند هذا الاضطراب/الاغتراب/الغربة الذي يقمه في "أغنيات لنهار آخر"
"1
كذا هي الوردة
أصبحت اختلف مع الهواء
أميل على غصن فيقطف المردة كل
وردة
اختلفنا على الفساد والرذاذ والتوجس
والنرجس
أخذتُ منجلاً و صاحبتُ ذئباً
صار يفترس
صرت أجزُّ خصلات النسمة
كلما حام نسر
وكلما احضر الذئب غزالًا
كنت ارمي الوجع بالنرد
والحبال"
بداية نلاحظ أن هناك ثنائية في
الألفاظ: "الوردة/وردة، أختلف/اختلفا، صار/صرت، ذئبا/الذئب، كلما/وكلما"
وهذه له علاقة بفكرة الاغتراب/الغربة/الاضطراب التي يتناولها الشاعر: "أختلف،
اختلفنا" فهو يحاول الانسجام مع واقعه من خلال هذه الثنائية، لكنه مشدود لشيء
آخر، لشيء (يعكر) عليه (صفوة) الحياة، لهذا نجده يستخدم ألفاظا متماثلة الأحرف
ومختلفة المعنى: "الفساد، الرذاذ، التوجس، النرجس" فالفساد
والتوجس" متعلقان بالحالة النفسية للشاعر، بينما "الرذاذ والنرجس"
متعلقان بالطبيعة، بالمكان، ونجد هوة بين الحالة النفسية الصعبة: "الفساد،
التوجس" وبين جمال الطبيعة "رذاذ، نرجس"
وإذا ما توقفنا عن ثنائية تركيبة
الألفاظ سنجد أن هناك تكرار لحرف الدال في "الرذاذ" وتماثل حرفي الجيم
والسين في "النرجس والتوجس" وهذا يقودنا إلى العقل الباطن للشاعر وأثر
جمال المكان عليه، مما جعله يقدم ألفاظ متناسقة الشكل "رذاذ، توجس،
نرجس" رغم أنه يتناول فكرة الغربة/الاغتراب.
وإذا ما توقفنا عند "النسر،
الغزال، الذئب/ذئبا" سنجد أن هناك صراع يكمن في رمزية كل حيوان، فالنسر
والغزال" يمثلان الحرية والجمال، لكن الذئب يمثل الافتراس والقتل، وبما أنه
كرر استخدام "الذئب/ذئبا" فهذا يقودنا إلى عدم استقرار الشاعر وما يمر
به من صراع وعدم استقرار.
"2
الآن
حُزْنٌ رشيدٌ في سوق البراغيث
مزار ومهمازٌ في حضرة الجاز
غرباءْ
يتبادلونَ بضاعةً هشةً بما تيسرَ
من أرغفةِ رصيفٍ يجتمع فيه العراة
والمشاة
الآن حزن وجرنٌ
يملأهُ الهواءُ والرقصُ ببطنٍ فارغة
الآن هو حزنٌ
لا آخر ولا أخٌ لهْ"
المفارقة بين المقطع الأول والثاني،
أن الأول جاء بصيغة أنا المتكلم، بينما الثاني جاء بصيغة الخارجي، وبما أن بنية
المقطعين تتماثل فيما بينها، فهذا يقودنا إلى داخل الشاعر ونفسيته التي تتماثل مع
رؤيته لما هو خرجي، فهو يرى نفسه تعاني كما يرى الآخرين يعانون.
وإذا ما توقفنا عند المقطع سنجد
ثنائية الألفاظ في تكرار: "الآن، حزن (ثلاث مرات)، لا" وهذا يأخذنا إلى
العقل الباطن للشاعر الذي يؤكد أنه غريب/مغترب من خلال تكراراته الثلاث، وإذا ما
تقدمنا من تكرار "لا" التي أقرنت مباشر ب "آخر/أخ" المتقاربين
في تكوين الحروف، والمختلفان في المعنى نصل إلى حالة (الصراع) اضطراب الشاعر.
كما تستوقفنا ألفاظ
الهشة/الفارغة/الضعيفة في المقطع: "هشة، هواء، فارغة، عراة" فهي تخدم
فكرة عدم الاستقرار/عدم الثبات عند الشاعر، فيبدو وكأنه يقول من خلالها إنه يمكن
أن يطير/ينتقل إلى أي مكان آخر لأنه غير مستقر/ غير ثابت في المكان، لهذا استخدم
"سوق، الرصيف" وهما يعطيان مدلولا على عدم الاستقرار، وإن تواجد الإنسان
فيهما يكون تواجدا عابرا وسريعا ولا يترك أثرا فيهما.
"3
النار لها الريح
والنهر آن له أن يستريح
عند ركبتيْ
العماء
كضفة غربية
كل عابر يبتل بالماء القدسي
يسجد
وكل ماءٍ ضوء
أنتَ غيرك"
الشاعر ينتقل إلى ثنائية متطورة من
خلال تكرار الألفاظ "بالماء/ماء" واستخدامه ثنائية التناقض:
"النار/النهر، الريح/تستريح" فالهوة كبيرة بين النهر والنار، وبين الريح
وتستريح، ورغم هذه التناقض/الصراع إلا أننا نجده مشدودا نحو النهر/الماء الذي يمثل
الطهارة والانتقال إلى حالة اجتماعية جديدة متطورة ثقافيا ومعرفيا ودينيا، فمن
خلال تركيزه على النهر/الماء في: "النهر، يبتل، بالماء/ماء" الذي يقرنه
بالمكان ويحدده "كضفة غربية" يمكننا القول إن الشاعر يحن/ينحاز للمكان
الذي ينتمي له، لهذا استخدم ألفاظا دينية: "القدسي، يسجد" التي تقودنا
إلى قدسية المكان.
"4
الحديقة التي لا قبور فيها
سمتها فتاة حافية
محمية
لا ينالها حجر
ولا يسير فيها قطار"
نلاحظ التناقض في حضور المكان
"حديقة، قبور" فالشاعر أقرن الجمال بالموت، وهذا يعكس حالته النفسية وما
يمر به في غربته، وما تكراره لحرف "لا" إلا من باب رفضه/صراعه مع المكان
الذي هو فيه، لهذا تم نفي الاستقرار من خلال نفي وجود ال"حجر" الذي يشير
إلى الثبات/الاستقرار، ومن خلال عدم العبور: "لا يسير فيها قطار"
وإذا ما توقفنا عند المذكر والمؤنث
سنجد التوزان بينهما: "الحديقة/قبور، فتاة/حجر، سمتها/يسير، محمية/قطار"
وهذا له علاقة بالصراع/بالثنائية التي يعيشها الشاعر، فجاءت الألفاظ لتؤكد أن
العقل الباطن للشاعر هو من (يملي) عليه الألفاظ المستخدمة، وما هو إلا (أداة)
تنفيذ ما يملى عليها.
"5
البساط الأخضر
لا نظير له
سوى النار"
إذا ما توقفنا عند "البساط
والنار" يمكننا إيجاد التناقض/الصراع، فالشاعر يشير إلى أن وجوده كضيف/كعابر
للمكان من خلال "النار" فرغم الحفاوة في الخارج "الأخضر" إلا
أن هناك "نار" في داخل الشاعر.
"6
الليل شجرة
يرمي البلح وسط قطاع من العطش
و عينان لا ترى
تسمع فقط
كائنات كأنها كمنجات حزينة
لا وتر لها
سوى شجرة الليل
شجرة بورقة واحدة
خريفها عواء كامل"
في هذا المقطع يعود إلى الشاعر إلى
استخدام التكرار الذي نجده في: "الليل، لا، شجرة (ثلاث مرات)" وهذا له
علاقة بما يجري من تدمير وقتل في المكان "قطاع، ديرالبلح" من هنا جاءت
الألفاظ السوداء: "العطش، حزينة، خريفها، عواء" وما استخدامه لصيغة
المفرد التي جاءت في: "وتر، شجرة، بورقة، واحدة" إلا إشارة لوحدانية
الفلسطيني في المواجهة، ونجد هذه الفردية/الانفرادية من خلال صيغة الجمع في
"الكمنجات" التي أقرنت بحالة المفرد/وتر مما جعل مشهد العزلة/الانفراد
في مواجهة الموت والخراب يبدو (واضحا).
وإذا ما توقفنا عند الأصوات في
المقطع سنجدها أصوات واضحة ومتناقضة: "كمنجات/حزنة، وتر/عواء" ولأنه تم
تحديد وقتها في "الليل" زمن السواد والشدة والظلام فهي أصوات مخيفة لا
لبس فيها، ويمكننا إضافة حفيف الأشجار من خلال "بورقة خريفها" وهذا ما
يجعل المشاهد غارق في القتامة.
"7
أصعد من البئر تاركا بساتيني
القديمة
قدمان على جدار الظنونِ
ويدان تجران حبل النار النازل إلى
الضغينة الغامضة
أراقب في عينيك مهارات الغَزْل
والنسيج وأنتَ لا مثيل لك كلما أفرطتِ بالتفاصيل"
المرأة أحد أهم العناصر التي يلجأ
إليها الشعراء وقت الشدة، لهذا بعد أن تناول الشاعر ما يجري في القطاع من قتل
وتدمير التجأ إلى المرأة لتريحه مما يمر به من قسوة، واللافت في هذا المقطع أننا
نجد انسياق الشاعر نحو المرأة من آخر المقطع الذي نجده (أطول المقاطع) في القصيدة،
ونجده من خلال: "الغزل والنسيج" اللذان يحتاجان إلى وقت طويل وجهد
متواصل لإتمام العمل، وما وجود صيغة المثنى في: "قدمان، يدان، تجران،
عينيك" إلا إشارة إلى ميل الشاعر للمرأة ورغبته بها، وبهذا يكون المقطع (7)
نقيض للمقطع "6" الذي يسبقه.
"8
أراه
جليل هذا الغبار الفضي
ينمو بسرعة الغياب
مطر آذار على ظل المطرود
على نافذة بيته
على زهر الليمون
نوايا المطر زَبَدُ نجمةِ منتصفِ
الطريق"
نلاحظ حضور الزمن في:
"مطر/المطر، أذار" وحضور المكان في "بيته، منتصف الطريق" وهذا
يقودنا إلى نفسية الشاعر الذي يعاني من عدم الاستقرار، فعندما استخدم
"منتصف" أشار إلى معاناته في "الغياب"، وإلى أنه
"المطرود" وما وجود فعل واحد "ينمو" في المقطع ومتعلق بالزمن
إلا من باب شعور الشاعر بأن زمنه مضى ويمضي دون أن يستقر لهذا استخدام
"غبار" كتعبير عن الحركة وعدم الثبات، واستخدم "زبد" كنتيجة
لعدم (الفائدة) من المكان ولا الزمان الذي يقضي/قضاه في غربته.
"9
شر على العتبة
و غزال تحت الشجرة
يحيا و يموت"
يؤكد الشاعر حالة عدم الاستقرار من
خلال التناقض في "يحيا ويموت" فمن خلال هذه الخاتمة يمكننا أن نصل إلى
ما يعانيه الفلسطيني في المهجر، رغم أن حالته المادية والاقتصادية افضل ممن هم في
المنطقة العربية.
القصيدة منشورة على صفحة الشاعر.
إرسال تعليق