الحركة في ديوان
"هزات ارتدادية"
سامر كحل
لأي عمل أدبي دافع/باعث/مُكون يدفع
بالأديب/الشاعر ليخرج نصه للحياة، في ديون "هزات ارتدادية" نجد الحركة
المتتابعة والمتواصلة الناتجة بأثر العيون الزرقاء، فهي التي أوجدت هذا الديوان
للحياة، فرغم وجود قصائد أخرى تتناول الواقع السوري وما فيه من حرب وتدمير وقتل،
إلا أن العيون استمرت محافظة على حضورها وتألقها، وهذا يأخذنا إلى انتصارها في
الحرب، وما القصائد التي تحدثت عن ياسمين دمشق إلا صورة عن هذا الانتصار، من هنا
سنحاول الدخول إلى الديوان، وقبل أن نبدأ ننوه إلى أن الديوان جاء بغالبيته بقصائد
الومضة، التي تعتمد على التكثيف والاختزال، ونبدأ من قصيدة "موهبة" التي
جاء فيها:
"قبلك..
لم أكتشف أن فلبي
راقص سيرك.." ص21.
بسبع كلمات فقط استطاع الشاعر أن يعبر عن
تأثره بالحبيبة، وهذا ينم على قدرته على التكثيف وعلى التعبير عن مشاعره وأحاسيسه
بألفاظ قليلة لكنها توصل الفكرة للقارئ وبقوة، ونلاحظ أن الألفاظ المستخدمة مكونة
بأقل من خمسة حروف ـ إذا ما استثنينا "أكتشف" ـ وهذا ما يحتاجه فعل
ال"راقص" الذي يتوجب عليه خفة الحركة وتناسقها، وإذا علمنا أن
"راقص سيرك" يتماثل بفعله مع "هزات" نصل إلى علاقة العنوان
بمضمون القصائد.
ويقول في قصيدة "تحليق":
لا تخفضي عينيك
وأنا أتطلع إليهما
أريد أن أطير
ولا أريد لهذه السماء
أن تهوي.." ص33.
نلاحظ أن هناك حركة عكسية، فما هو أرضي،
الشاعر يطير، وما هو سماوي، السماء تهوي، وهذا الفعل المعكوس ناتج عن
"عينيك" فتبدو الحركة وكأنها يوم القيامة/كارثية، سقوط السماء وصعود
الأرض، وما يوقف هذه الكارثة/قيام القيامة هو فقط "لا تخفضي عينيك"
أليست من هي قادرة على إحداث هذا الأمر بكائن خرافي/خارق؟.
وإذا ما توقفنا عند عنوان القصيدة
"تحليق" والألفاظ المستخدمة سنجدها متكاملة: فهناك أكثر من لفظ له علاقة
بالتحليق/الفضاء: "أتطلع، أطير، السماء" وهذا يعطي دلالة إلى التوحد بين
عنوان القصيدة ومضمونها.
أيضا في قصيدة "فيضان" يأخذنا إلى
العينين وأثرهما على القصيدة وتشكيلها:
"ليس بفعل الحبر..
ذلك الأزرق المتفشي
على قمصان القصائد..
إنها آثار الفيضان الأخير
من عينيها.." ص41.
الشاعر أستخدم "الأزرق، الفيضان"
وهذا له علاقة بالعنوان: "فيضان" الذي يأخذ القارئ إلى أعادة النظر في
فاتحة القصيدة متسائلا: هل أخطأ الشاعر في لفظ "حبر" وكان يريد كتابة
"بحر" حيث أن هناك تشابه كامل في الحروف والاختلاف فقط في ترتيبها؟
هذا الأمر لوحده كافي لنقول أن الشاعر دفع
القارئ ليتوقف عند القصيدة والتأمل في كيفية تقديمها، فما علاقة الحبر في الفضيان؟
وكيف استطاع المزج بين الحبر/"الأزرق" وبين البحر/"الفيضان"
للإجابة نعود إلى ألفاظ القصيدة: "الحبر، الأزرق، القصائد، عينيها" فهذا
متعلقة بالشعر والقصائد، أما البحر فنجده في: "الأزرق، الفضيان" من هنا
تم الجمع بين عناصر الفرح والتي تتمثل في الطبيعة: "الأزرق المتفشي،
الفيضان" وفي الكتابة: "الحبر، القصائد" وفي المرأة المُوجدة
والباعثة لهذا الفرح: "عينيها"، فالمزج بين الطبيعة والكتابة تم بواسطة
المرأة، فهي من أحدث التمرد/"الفضيان" الذي جاء في عنوان القصيدة وفي
متنها، (فاللخبطة) التي أحدتها المرأة في الشاعر انعكست على القصيدة وألفاظها، ومن
ثم على القارئ الذي عرف من هو مُوجد هذه (الفوضى) ومحركها.
يعطينا الشاعر صور عديدة عن قوة المرأة
وقدرتها الخارقة في مجموعة قصائد، يقول في قصيدة "إغواء":
"خلف ابتسامتك
خرج..
ولم يعد إلى بيته..
الشعر.." ص52.
اللافت أن الحديث متعلق بكائن حي: "خرج،
لم يعد، بيته" لكن الدهشة كانت في الخاتمة "الشعر" فعندما أنسنه
الشاعر وأعطاه حركة بشرية دفع القارئ ليتوقف عند هذا الأمر وإعادة النظر في
العنوان "إغواء" فهو لا يريده أن يمر مرور الكرام على قصائده.
فالإغواء متعلق بالإنسان، وإلصاقه بالشعر يعد
ثورة، تمردا على ما هو متعارف، وهذا يأخذنا إلى من أحدث/ أوجد هذا التمرد
"ابتسامتك" فإذا كانت البسمة فقط ولوحدها فعلت ثورة في قصيدة مكونة من
ثمان كلمات، فكيف ستفعل المرأة كاملة في الأدب والشعر!؟
في قصيدة "سمسم" يتوغل الشاعر أكثر
نحو الحبيبة:
"أهرق روحي..
ذاك السمسم المنثور
على الكعكتين
المعلقتين
بحلمتي نهديك" ص140.
نلاحظ صيغة المثنى تطغى على ألفاظ القصيدة:
"الكعكتين، المعلقتين، بحلمتي، نهيدك" وهناك ألفاظ مكونة من حرف مكرر:
"السمسم، الكعكتين" وهذا يأخذنا إلى الحميمية التي يحملها الشاعر تجاه
الحبيبة، وما وجود صيغة المثنى والألفاظ ذات الأحرف المكررة إلا تأكيدا لهذه
الرغبة الجامحة في اللقاء.
يحدثنا عن حميمية اللقاء الجسدي في قصيدة
"عزف":
"تغري..
قوس الكمان الذي يتراقص
على أوتار حواسها الخمس.." ص154.
الجميل في هذا التقديم الإيحاء الجنسي، فهناك
لقاء جسدي خلف الكلمات تجعل المتلقي يبحر في الشهوة واللذة، فالصورة التي قدمها
متحركة: "يتراقص، أوتار" وهذا يثير القارئ ويجعله يأخذ المشهد ببعده
الجمالي والجسدي، فالجنس هنا ليس جنس عادي، بل أقرن بالرقص والغناء/أوتار وبما أن
هناك صورة انحناء في "قوس الكمان" فإن هذا يأخذ القارئ إلى
العاطفة/الحب/الحنان الذي يحمله الشاعر للحبيبة، من هنا نقول إن هذا اللقاء أكثر
وأبعد من لقاء جسدين يمارسان الجنس.
يحدثنا عن حميمية لقاء الحبيبين في قصيدة
"شك":
"أراهن..
أن إنسان الهومو
لم يكتشف النار
باحتكاك حجري صوان
بل باحتكاك..
تغرين" ص54.
اللافت في هذه القصيدة بدايتها العلمية، فهي
تتحدث عن حقيقة تاريخية علمية راسخة، لكن الشاعر يفندها ويلغي الحركة من الجماد
"حجري صوان" ويحولها/ينسبها ل"ثغرين" بشريين، وبما أن الفاتحة
والخاتمة متعلقة ب "إنسان، ثغرين" وهذا يلغي التفاصيل المتعلقة باحتكاك
حجري الصوان وإنتاجهما للنار.
وفي قصيدة "مجانين" يأخذنا إلى
عينيها والبحر:
"هاجروا
في بحر عينيها
ونجوا..!
مجانين.." ص120.
الجميل في هذه القصيدة قلة الكلمات، فهي مكونة
من ست كلمات فقط، لكن معناها عميق، فهو يتحدث عن جموع أبحرت/تعلقت بها، بالحبيبة،
ونجت، ولم تغرق، وهنا المفارقة، كيفت نجت؟ ولماذا لم تغرق ببحرها؟ ولما لم تع
جمالهما؟ لهذا نعتهم ب"مجانين"
في قصيدة "شاعر" يتحدث عن البحر
والزرقة:
"قبالة أمواجي..
يجلس البحر
يرشف دهشتي
وهو ينفخ ديوانه الأزرق
في مقهى عينيها" ص175.
الجمالية تكمن في أكثر من شكل، التداخل بين
البحر والمرأة/ مقهى عينيها، أنسنة البحر/ يجلس البحر، تبحر الديوان/ ديوانه
الأزرق، تبحر الشاعر/ قبالة أمواجي، وتمكن المرأة/ مقهى عينيها، هذا
الثورة/اللخبطة تمثل إعادة تكوين لكل ما هو موجود، وهي كافية لجعل القارئ يتوقف
متأملا أمام هذه الخروقات الهائلة ولمن أحداثها/أوجدها، وهنا تكمن عبقرية
"سامر كحل" الذي أحدث ثورة كونية من خلال "عينيها فقط.
وعن أثر الحبيبة وما تحدثه من خوارق يقول في
قصيدة "إشارة":
عضضت على شفتيها..
فنصت الكون.." ص138.
نلاحظ أن هناك صيغة للمثنى في
"شفتيها" وثنائية أخرى وبصيغة جديدة تكمن في "عضضت" حيث تكرر
حرف الضاد مرتين وبتلاصق، وهذا يشير إلى أنها أكثر/أبعد من كونها امرأة عادية، من
هنا "نصت الكون" لحركة شفتيها.
وفي قصيدة "وتر" يقرن المرأة بالوطن
بطريقة لافتة:
"كلما عطشت
في الغربة..
قلت لحبيبتي ياسمين..
فيطفو من عينيها
بردى.." ص100.
القسوة حاضرة في "عطشت، الغربة"
والبياض حاضر في بقية ألفاظ القصيدة، إن كانت متعلقة بالمرأة: "قلت، لحبيبتي،
ياسمين، عينيها" أم بالوطن/الطبيعة: "يطفو، بردى، ياسمين" فثنائية
المعنى في "ياسمين" أكد اللحمة الجامعة بين المرأة والوطن، وما البياض
الناصع إلا صورة عن هذه الثنائية الرائعة والمحببة للشاعر وللمتلقي معا.
الكتابة/ القصيدة إحدى أدوات الفرح/ التخفيف
التي يلجأ إلى الشاعر وقت الشدة، في قصيدة "تشخيص": يقدم هذه الأداة
بطريقة جديدة:
"قصائدي..
تؤكد إصابتي
بعينيها.." ص 144.
بداية ننوه إلى أن الشاعر يكشف نفسه للقارئ
ويبين ما تحمله القصائد من زرقة ناتجة عن عينيها، وهذه (المباشر) تعد (خروج) عن
نسق الديوان، وبما أن الشاعر استحضر عنصرين من عناصر الفرح/التخفيف
الكتابة/قصائدي، والمرأة/بعينيها" كان يفترض وجود بياض مطلق في القصيدة، لكنه
كسرة هذا البياض ب"إصابتي" مما أحدث (فوضى) لفظية فيها، فهل هذا كان
متعمدا أم جاء من خلال العقل البطن وأثر الحبيبة عليه، مما جعله مرتبكا/
مضطربا/متوترا؟ بحيث فقد السيطرة عن نسق القصيدة؟ أعتقد أن هذه الأربع كلمات كافية
لتؤكد قدرة الشاعر على جعل المتلقي يبحر فيما يكتبه، كما أبحر هو في "بحر
عينيها"
في قصيدة "تعديل" يؤكد الربط بين
القصيدة والحبيبة:
"رمشك..
تلك الشعرة التي قومت
ظهر الشعر.." ص164.
نلاحظ أن هناك ثلاثة ألفاظ مكونة من حرف
الشين" رمشك، الشعرة، الشعر" وهذا يشير إلى الترابط والتواصل بينها، ومن
ثم إيصال علاقة رمشها بالشعر/بالقصيدة التي يكتبها الشاعر، فرمشك هو من أوجد دافع
الشعر وقومه.
وبما أن هناك تغريب للمثل "القشة التي
قصمت ظهر البعير" حيث استبدل القشة بالشعرة، والقصمة بالتقويم، كل هذا
التعديل/التصحيح يخدم فكرة الأثر الإيجابي لرمش الحبيبة، التي جعلت الخراب عمار،
والهدم بناء، والمريض سليم، فما بالنا بحضور الحبيبة بكليتها!
في قصيدة "إدمان" يؤكد ربط القصائد
بزرقة العينين وبالبحر:
"منذ عينيك
ولغتي
بثياب البحر" ص185.
نلاحظ الاختزال والتكثيف حاضرا، فهناك خمس
كلمات فقط، لكنها كافية لإيصال تعلق الشاعر وارتباطه وتأثره بعينيها، مما جعله
(أسيرا) لألفظ محددة، بحيث لم يعد قادرا على التحرر والخروج من عالم عينيها
الأزرق، فكل هذه الألفاظ: "عينيك، لغتي، بثياب، البحر" لها علاقة باللون
عينيها الأزرق، فيا له من عالم جميل عالم البحر والزرقة.
ويضيف في قصيدة "ملحق":
"الشعر
شرح مفردات
ابتسامتك" ص221.
اللافت في هذه القصيدة وجود لفظي يتكونان من
حرف الشين "الشعر، شرح" الذي يلفظ بهمس "ش" وبعد فتح الشفتين،
مما يخدم فكرة الابتسامة/"ابتسامتك"، وهذا الترابط بين الألفاظ وفكرة
القصيدة يشير إلى توحد الشاعر مع ما يكتبه، فهو لا يكتب القصيدة، بل القصيدة هي من
تكتبه، لهذا نجد هذا التماهي بين المضمون والشكل الذي قدمت به القصيدة.
وعن علاقة عنوان القصيدة بمتنها يقول في قصيدة
"ثورة الشعر":
"القصائد .. مظاهرات
تقودها
عناوين" ص212.
وهذا يمثل دعوة ليتوقف القارئ عند القصيدة
بكليتها، آخذا العنوان كجزء من القصيدة وليس مجرد عنوان عابر.
وعن حالة الرفض لما هو كائن في الوطن يقدم لنا
الشاعر رؤيته للواقع بقصيدة "إيعاز":
"ربما سنصحو
بعد ألف وخمسمائة عام
من التقدم
أننا في حالة
ورااااء .. در .." ص32.
اللافت في هذا القصيدة تناول الشاعر للزمن،
فهو يعطي حركة عكسية للتقدم، فمن المفترض أن يكون التقدم/ الحركة إلى الأمام،
لكنها جاءت إلى "ورااااء" وما تكرر الألف إلا تأكيدا لهذا التقهقر،
ونلاحظ أن الشاعر يشير إلى عقم عقلية حكم العسكر من خلال "در" فهذه
العقلية تتبع كل الأنظمة الرسمية العربية دون استثناء، من هنا (عمم) الشاعر
المشكلة عندما قال: "نصحوا" ولم يحدد الدولة/الجهة التي يعنيها، مما جعل
القصيدة تأخذ بعدا قوميا عربيا أبعد مما هو قطري.
ويحدثنا عن قذارة العالم وغرقه في العنصرية من
خلال قصيدة "شطرنج":
"لن تنتهي العنصرية
ما دامت النقلة الأولى
للأبيض.." ص65.
بثمان كلمات فقط أوصل لنا الشاعر فكرة تحتاج
إلى مئات الصفحات، وبما أن ما تناوله حقيقة ومعلومة صحيحة عن لعبة الشطرنج، وهذا
يقود المتلقي إلى ما يجري على أرض الواقع، فهناك (لعبة) لها شروطها، وواقع تُمارس
به (اللعبة) التي ليست للتسلية وإنما لاضطهاد الآخرين وحرمانهم من حقوقهم.
وعن سخطه على ما هو رسمي يقول في قصيدة
"حقيقة":
المستبدون
يكرهون الشمس..
في الظهيرة:
يرون ظلالهم
أقزاما..
وعند الشروق الغروب:
يظنون أنها تداس" ص82.
الشاعر يبدأ القصيدة ب"المستبدون"
فهم محور القصيدة، وقد نسب إليهم أفعال شريرة: "يكرهون، يظنون" وبما أن
هناك استمرارا لهذه الشرور التي نجدها يوميا في شروق الشمس وغروبها، فإن هذا
يأخذنا إلى ما هو أبعد وأعمق من المستبدين الآن، يأخذنا إلى السابقين واللاحقين
أيضا، وبهذا يكون الشاعر قد جمع وأوصل سخطه على المستبدين إن كانوا من الماضي أو
الحاضر أو المستقبل، فكلهم يرون أنفسهم أما أقزاما وأما تداس.
نتوقف عند "أقزاما، تداس" حيث
تقودنا إلى الشر الذي يمارسه المستبدون "يكرهون، يظنون" فالشاعر أوجد
صفتين وفعلين متعلقين بالمستبدين، وهذا ما يجعله عادلا في محاكمتهم والقصاص منهم،
فمن خلال (حكمه/توصيفه) يكون قد أوصل فكرة الحقيقة التي جاءت في العنوان، وأوصل
لنا حُكمه العادل بحق هؤلاء المستبدين.
دمشق تسكن الشاعر، فقد خصها بأكثر من قصيدة،
منها قصيدة "سلاح أبيض":
"لم تتدرب دمشق
إلا على الياسمين
به
واجهت هذه الحرب" ص136.
نلاحظ غلبة الألفاظ القاسية: "تتدرب،
وجهت، الحرب" على الألفاظ الناعمة: "دمشق، الياسمين" وهذا يشير إلى
هول ما مرت به دمشق من خراب وقتل، ورغم هذا السواد إلا أن المضمون الأبيض الكامن
في "دمشق، الياسمين" يكفي القارئ ليصل إلى فكرة البياض والجمال،
فالياسمين أقرن ويقرن بدمشق، فهي مدينة الياسمين، ويكفي أن نقول الياسمين لنشير
إليها.
وأيضا عن دمشق وما تمر به من حرب مدمرة يقول
في قصيدة "تسلل":
"في دمشق
سبعة أبواب للحب..
كيف تسللت الراء معه؟!!" ص92.
بدابة أنوه إلى أن فكرة المقطع تناولها الشاعر
الفلسطيني "مازن دويكات" في ديوان "مقامات قوس قزح" حيث قال:
"أحب الحرب في وطني
نظيفة من (راء) الآخرين
فليتركوا طفولة المدن
كما قمطها الله بالياسمين"
وهذا يؤكد أن هناك حالة خاصة تصيب الشعراء،
تجعلهم يتناولون الفكرة/الحدث بعين الأدوات والألفاظ، رغم ابتعاد الجغرافيا والزمن
فيما بينهم، إلا أن تعلقهم بالمكان، وتأثرهم بالأحداث يقودهم إلى هذا التماثل/التشابه،
فهم أبناء وطننا واحد رغم أن تقسيم السياسية للجغرافيا الواحدة.
نعود إلى قصيدة "تسلل" التي افتتحها
الشاعر: "في دمشق" التي يعشقها فجعلها في مقدمة القصيدة، وأقدسها من
خلال "سبعة أبواب للحب" وهنا يكون المكان، دمشق اكثر وأبعد من مجرد مكان
عادي، فقد منحه الشاعر صفة الجنة "سبعة أبواب" وما تساؤله في الخاتمة
إلا أنكارا ورفضا للتسلل، فتسلل حرف "الراء" هو الخراب/الموت الذي قتل
الحب وشوهه، بهذا الكلمات لقليلة قدم لنا الشاعر صورة الحرب في سورية.
ويقول في قصيدة "ر":
"الراء..
تلك الشعرة التي
قصمت ظهر الحب" ص106.
وهذه الصيغة تشير أن الحب هو الأساس عند
الشاعر، وما ابتعاده عن استخدام لفظ "الحرب" إلا تأكيد لكرهه وبغضه لها،
لهذا أوجد طريقة أدبية/ فنية مرر بها فكرته عن قذارة الحرب وما تسببه من قتل وخراب.
وعن وجع الشعراء وعذابهم في الحرب يقول في
قصيدة "لجوء":
"الشعراء
الذين تركوا أوطان أرواحهم
وأبحروا
دون هوياتهم إلى المجاز
غرقوا..
قبل الوصول.." ص 34.
افتتاح القصيدة ب"الشعراء" يشير إلى
مكانتاهم عند الشاعر، بحيث جعلهم فاتحة القصيدة لأنهم محط اهتمامه، ونلاحظ أنه
استخدم صيغة الماضي "تركوا، أبحروا، غرقوا" وهذا يشير إلى واقع
"اللجوء" الذي ساروا فيه، فالأفعال المتعلقة بهم قاسية: "تركوا،
أبحروا، غرقوا" وتحتاج إلى جهد وقوة وقدرة، لكنها انتهت بمأساة
"غرقوا" ففعل "أبحروا" الذي يحمل الأمل، كان كارثيا عليهم،
وبما أن هناك حركة في: "تركوا، أبحروا، غرقوا" فهذا يأخذنا إلى مسار
خاطئ/سفلي، فبدت الحركة بخط مستقيم، "تركوا، أبحروا" وانتهت إلى
أسفل/"غرقوا" وهذا يأخذنا إلى فكرة الشاعر عن الحركة التي يريدها إما
صاعدة إلى أعلى أو نازلة من أعلى إلى أسفل، فهو لا يرضى/يريد الحركة
العادية/الرتيبة، بل حركة متمردة/خارقة للواقع.
اللافت أن القصيدة فيها ألفاظا لها علاقة
بالشعراء: "الشعراء، أبحروا، أرواحهم، المجاز، غرقوا" فهذه الألفاظ
بصيغها المجردة تأخذ القارئ إلى أن الحديث متعلق بالشعراء دون سواهم، وهذه صيغة
ثانية ـ غير مباشرة ـ أوصل بها الشاعر فكرته عن الشعراء الذين تناولهم في القصيدة.
وعندما يتحدث عن نفسه، يقدم الأنا بشكل جديد،
يقول في قصيدة "إعاقة":
لكثرة ما داس على المسامير
أصابته الغانغرينا..
وبتروه.
حُلمي" ص56.
نلاحظ عدم وجود أي لفظ متعلق بأنا المتكلم إلا
"حلمي" الذي جاء في خاتمة القصيدة، فالحديث يدور عن (شخص/شيء) خارجي،
وهذا التأخير في حضور الأنا هو ما يثير الدهشة في القارئ، حيث يشعر بألم الشاعر
الذي لم يستطع الحديث عن ألمه مباشرة، فتحدث (شيء/شخص) خارجي، وبعد أن أنهى حديثه
عرفنا على من هو المقصود بهذا الحدث المؤلم.
واللافت في القصيدة كبير حجم لفظي
"المسامير، الفانغرينا" وهذا يقودنا إلى الضرر/الأذى الذي سبباه
ل"حلمي" فصيغة الجمع في "المسامير" وتكرار حرفي ألغين والنون
في "الغانغرينا" أعطت المتلقي صورة عن ضخامة الشر الكامن فيهما، وعن
صغر/ضعف الضحية/"حلمي"
وعن الجوع يقول في قصيدة "خلاصة":
"كان جائعا
فأكلني..
الرغيف.." ص124.
اللافت في القصيدة تبديل الأدوار بين الشاعر
والرغيف، وهذا (التغريب) وهو المثير والمدهش، وهو من أوصل القارئ إلى حجم (الجوع)
الذي يعانيه الشاعر وعدم قدرته على شراء الرغيف.
الديوان من منشورات الهيئة السورية للكتاب،
إخراج دار الينابيع للنشر، الطبعة الأولى 2023.
إرسال تعليق