قال حدثنا الحسحاس عن أبيه عن جده قال كنا نقيل
قبل السيل العرم على أصوات طحن وجرش لا نراهما، فإذا آوتنا بيوتنا ليلا أصخنا
السمع على خوف لدبيب دابة الأرض تأكل لحم حجارة السد فلا نقيم لها وزنا، حتى وقع
بنا المحظور وتناوشتنا بنات الدهور فكانت يد المنون لنا بالمرصاد فما أبقت لنا إلا
أطلالا كأنها خلل بعثرتها طرقاته حدبا لصوب وصوبا مزقته خلبا لكل حدب، على فزع نرى
مفازات تبع وعاد وإرم، دون ذلك أُدُم حولنا لا روحة فيها ولا روح الا اجساد هامدة
غابرة عابرة، تسوسنا يد المنون خفة وذلة، فما أبقت لنا في العالمين محلا، تواترنا
جماعات إلى الأشجار المرتفعة اتقاء السيل، نتقافز قردة عبرها وسعادين حتى كأنا
ولدنا على شجر تحملنا غابة إلى غابات حتى أدركنا جيزان فنجران فظهران الجنوب ، منهم
من استعان بقردانته حتى مخر بها عباب البحر آخرون لم تمكنه فطرته من القهري والعود
،فآل إلى بحر من طين لجي من سبخ وماء فنبت له حرشف وذيل وخياشيم، منهم من منّ الله
عليه بالمنون فنجى من ذل الرحيل أما العالية من الديار المحيطة بالسد فقد خرج منها
خرج إلى بلدة يقال لها النماص يمينها على طرف الصحراء وغربها أودية سحيقة ، وعلى
ملتنا وديدننا لم نكن نحمل في أسفارنا ماء لخصوبة وعذوبة وِردنا وفيض مائنا، فكدنا
نهلك من العطش لولا رجل كان أُذنا يسمع دبيب النمل ، فأشار إلى أسفل أقدامنا، فإذا
هو نهر عظيم يقال له الثرات كان يسري عبر الصحراء نحو الديار السحيقة، فسرنا
بمحاذاته يتقطع ظهورا واختفاء حتى وصلنا أرضا حمئة جرداء إلا من عين شمس منطفئة
تقيم هناك، فأخذنا سحرها وجَهَدنا فهمها حتى أخذتنا سنة من نعاس فنمنا عن بكرة
أبينا والعين لا تبرح المكان، منهم من قال هذه أرض عاد وتيهها، آخرون قالوا بل تلك
أنواء إذا لمستها لا تجد شيئا كأنها السراب، حتى قيل بل يأجوج ومأجوج وتلك عينهم
الحمئة التي لا تنام، وفيم نحن في حديث ومَرَج طلع علينا أقوام من تلك السروات
كانوا قد شدوا رحالهم نحو الشرق، بعدما غزتهم أقوام من قردة على هيئة أناسي
يتقافزون، ولعلة انقطاع مدد الثرات واختفائه وتقطعه فآثروا الرحيل بحثا عن ماء
وكلأ حتى جاءت رسل قومهم ممن سبقهم إلى الأرض المنخفضة حيث النهر العظيم الذي يجمع
دجلة والفرات، وإذا به غور أخضر سحيق كانت يد من سبقهم من قبيلة العبيديين قد
أقامت حضارتها الزراعية بآلاتها وقنوات ريّها ودولتها ومجتمعها، فمنّ الله عليهم
بالمن والسلوى والعسل والزبد والحلي والدهن وما طاب من رغد وعيش، فحملونا معهم على
رحالهم نحو أرض السمن والعسل حتى حللنا بها هانئين وعزمنا بما لدينا من خبرة زراعة،
فكانت لنا دولة وصولة حتى أدركتنا عين القهر بصارخ نذير يصيح على جواد أسود كأنه
الليل يا قوم تحملون ما غلا على رحالكم وأبنائكم وجدُوا إلى فرار فقد عدى البحر
على البر، ما لنا في ما اوينا إليه من خير حتى امتلأ الغور ماء حتى صار خليجا
فأسماه العارية بالخليج العربي ودعوه من الغرب بالخليج بالفارسي وكان أولى أن يسمى
خليج العبيديين فما زالت مساكننا في قيعانه مغمورة وبيوتنا على عددها وعدتها تنادي
المعمورة حتى حلت سفينة بحث وكشفت للعالمين كل هذا الوصف واني أبلغكم أن منا من
ركب البحر فأقام حضارة الهند ومنا من شمأل فأقام التاريخ الأول والزراعة الأولى وها
هو الدهر يدور والزمان يحور، فإذا ما انشق البحر وعدى سيكون غور الأردن لنا منه
وعيد ووعد ليس بعده بَعد
تلك مقامات لا يدركها إلا من حوى من التراث كثير هم وحزن على ما فات وضاع واستبيح..ولكنه آخر يوما أن يستريح.
ردحذف