(قَبْرُ أبي القاسم الشابي)
*
أعمَى في سِيرْكِ النارِ
على بابِ الشعْرِ الدوّارِ
وعتْبَتِهِ الزلِقةْ
جسدي يتقطَّعُ بالأسبابِ
فلا الفمُ يبلغُ خدَّ البابِ
ولا اليدُ تَلْحَقُ بِالحَلَقَةْ
- من أنت؟
- لعلّي حطّابُ الشعراء
وأنت؟
- كأنّي من كلماتٍ مُنْكَسِرَةْ
لاَ تُورقُ إلاَّ عِنْدَ مُلامسةِ الأشياء
*
أتهجّى الألفةَ مبتهجًا بعمايَ
وأرقُصُ مبتهجًا
بدبيب النمْلِ على ساقِي
( نملٌ ثمِلٌ
بهدير السيّاراتِ وخشخشةِ
الأضواءِ) وأخرجُ
مِنْ كَفَّيَّ عديدًا فِيَّ
وحيدًا تحت سمائي المُطَّبِقَةْ
أتهجّى الوحشة مزدحمًا بالعالم
تحت لحائي
أقرأُ في عينيِّ الذئب الساكنِ
في أحشائي سطرًا
من دمِ طفلي (طفلٌ أنْصُلُ
فيه وعنهُ
كأنْ لا ينجُو شيءٌ منّي
إنْ لم يَهْلَكْ شيءٌ منهُ)
وأكتبُ: لَحْمِي ينْصُلُ
في لحْمِ الورقةْ
*
لَمْ تُولدْ في فبْرَايِرَ
مِنْ مائَةٍ
لَمْ أُولَدْ في أُكْتُوبَرَ
مِنْ ستِّين
وُلدنا بعدَ غدٍ أو قبل سنين
وحيثُ يطيب لنا
أن نُولدَ بين الوقت الهادرِ
والوقتِ المهدُورِ
على نَاظُورَيْ جغرافيا
نضجا للريحِ ورفّا مثل جناحيِّ
العُصْفُورِ
نظرتَ إلى جهةٍ فنظرتُ إلى
أخرى
ودَخَلْنَا البَحْرَ ولا
مَلاَّحَ وَلاَ رُبَّان كأنّا
يُتْمٌ يُسْنِدُ آخَرَ
تذكُرُ أنتَ سماءَ النور
وأَذْكُرُ عينَ الجدّة تشرقُ بالنُّقصانِ
وتذكر بنت الحور فأذكر حدبتها
تتصدّع في الفقدان
وتتبع ظلّ الموسيقى في النهد
فأتبع خطْمَ سلوقيٍّ يتشمّمُ
عُرْيَ اللَّحْظَةِ تحت الخرْص
الفضّةِ والعقد المَرْجَان
كأنّا لا يدنينا القربُ ولا
يقصينا البُعدُ
كأنّا لسنا بَعْدُ
تَحِنُّ إلى الطفل المفقود
وأكبُرُ في طفْلٍ الفقدانِ
وتحلم بالفجر الصاحي وأُراودُ
قلبَ الليل عن الفجر السكرانْ
*
- والآن؟
- مائةٌ مرّت (خمسون إلى
خمسين) كأنّا
يُتْمٌ يسندُ آخرَ
نعبر نفس الجسر ونقرأ من
نفس الورَقة
نتلمّضُ حين نرى تفّاحة سارِقِنا
من خلف السور
وندفن ومضَ الشهوةِ في نفس
البئر الدبِقةْ
أهويتُ بفأسك حيث رأيتُ جذوعًا
هامدةً
(لم تَنْكسر الحلَقةْ)
فتركتُ براءاتي الأولى ولجأتُ
إلى سِنِكَهْ
(كلبي المسكُونْ)
أنا ذا أتخبّط في أحلامي
من مائة مرّت
(خمسون إلى خمسين)
وأنبح أنبح
(لم يسمعنا هذا الشعب الطفل)
وأنبح أنبح
(لم يسمعنا هذا الطفل الشعبُ)
ولم يصبح حلمٌ من أحلامي
ذكرى
(ما هذي اللعنة؟)
طال النوم وطال الليل وطال
الصبر
ونحن فتيلٌ يذبل في نفس القنديل
تعالَ لننبح في نفس البرميل
تعالَ لننبح يا «باسي»
بلد لا يَمضي فيه الحلمُ
إلى الذكرى
بلدٌ مسكين
مرحى ببلاد تيئَسُ ممّا يُيئسُ
منه
ولا ترضَى بخطافٍ كاذب
بئسَ بلادٍ تختزل الشعراء
في فلاّحِي أملٍ من باب الواجب
بئس الشعب
إذا لم يخرج من بئرِ العدد
الخائب
بئس الحُرّاس الغدّارين
وبئس الأرض إذا رقصت
من تحت قلوب رفاق الرحلة
كالسكّين
*
خمسون إلى خمسين
ولم أر طفلك يلعبُ
لم أر طفلك يكسرُ لعبتهُ
أو يسخَرُ بِالحَيّاتِ وبالأَوْرَالِ
ويُشهرُ في وجه الأحوالِ
لسانًا
غُمّس في طيش الأطفالِ
ويبغتُ بنتَ الجارِ فيخطفُ
حبل الدلو ويحدف قربتها
بالبسر الحلوِ ويُمسكُ عقربه
من شوكتها ليراها في أكفانِ
النار
تخيط الموت بإبرتها
وتراقص ميتتها كي تنهزم الأكفان
خمسون إلى خمسين
ولم أر شعبَكَ يتْعَبُ
لم أر شعبَكَ يرفعُ حدْبَتَهُ
ليليق به حدبُ الأقدارِ
ولم أر فجركَ يغضبُ
لم أر فجركَ يكْسرُ بيضتهُ
ليليق به صخَبُ الأنوار
أدعوكَ إلى ما ليسَ الأبيضَ
ليسَ الأسودَ
ليسَ الفجْرَ وليس الليل
وليس الشيخ وليسَ الطفْلَ
وليس صليل الفأس وليس نباح
الكلب
أدعوك إلى بركان القلب
قبالة سيرت الصغرى
قُلْ واصدقنِي القَوْل
أتعرفُ فجرًا يصنع ليل خرابتنا
ويظلُّ مُضيئًا؟
قل واصدُقني القول
أتعرفُ طفلاً يَرْضَعُ ذِئْبَتنا
ويظلُّ بريئًا؟
قل واصدُقني القول
أتعرفُ جذْعًا تُرضِعُهُ
الأقدارُ إذا لم يفطمْهُ الإعصار
بعيدًا عن غابات الحطّابينَ
المُرْتَزِقَةْ؟
أنا ذا طفلٌ من سُخْريةٍ
سوداءَ وأغْنِيةٍ نَزِقَةْ
حطّابٌ أعمى أنثُرُ فجري
حيثُ تُبعثرني الخُطواتُ
وغاباتي الكلماتُ وفأسي ليس
سوى قصبٍ مثقوبٍ
تدخلُ فيه الريح فيقطر
أوجاعًا ديدانًا أوحالاً
رعبًا
أحلامًا تهربُ من إغراءِ
العَوْدِ إلى أفلامِ الحمض الأولِّ
شَيْبًا يهربُ من إغواء العَوْدِ
إلى طِفْلِ اليرقةْ
أنا ذا شجرةْ
أتنفّضُ من أوراقي المَيْتَةِ
أُنْشِبُ أعراقي في الأرضِ
كأنّي أُنْشِبُ أعراقي في
ملحفةٍ سوداءَ
وأهوي فيَّ فتهوي الأرضُ
معيِ
مُدُنًا صمَّاء وماشيةً بكْماءَ
تروثُ ظلالاً كالأفعالِ
وتُجْهِشُ بالنِّسْيَان
(أتعرف أنّ الذكرى
تقتلنا أحيانًا أكثر ممّا
يقتلنا النسيان؟)
اُنْظُرْ
ها نحنُ الآن كما اعتدنا
مازلنا نسألنا من نحنُ
كَأَنَّا نحنُ كَأَنَّا الغَيْر
كأنَّا لسنا نحنُ ولسنا الغيْرَ
كأنّا عَدَّادَاتُ طواحين
الشيء المُعتادْ
مازالت هذي الأرضُ
رحًى للحربِ ومطْحنةً للحُبِّ
وحقْلاً للأصْفَادِ
ونارًا فوْقَ رمادٍ تحت رمادْ
ما زالَ الشاعرُ أوّلّ من
يُدْعَى
كي يحْمِلَ نعشَ الحُلْمِ
وآخر من يُدعَى
كي يأكُلَ من حلوى الأعيادْ
ما زال لبعض الشعر قُرًى
لا يُفسدها إلاّ أن يدخُلها
بعضُ النُقّادْ
هل تسألني
ماذا أبقى الشعراء من المتردّم
للشعراءْ؟
هل تسألني
ما جدوى الشعر الآنْ؟
مرحى لكَ جاوزتُ الستّين
ولم أعرف ما الشعر
ولم أعرف من أين أنا
كي أعرف مَنْ أو كيفَ أكون
وهل للشعر دليلٌ أو جدوى
أو دربٌ أو عنوان
*
حدّثني عنكَ. تُناغي الحوريّات
وتهزأُ مثل النسْر بأحجار
الفُلتاء؟
سعيدٌ أنتَ
سَعِيدٌ أنْتَ وتكتُبُ؟
هل تحتاج الأرضُ إلى ما يكْتُبُهُ
السُعداءْ؟
ولماذا يكتُبُ من لا جرعةَ
لاقْمِي في شفتيهِ
ولا أصحابَ عليهِ ولا أعداءْ؟
لا نايَ لنَفْخِ المُوسيقَى
في الماءْ؟
لا فأسَ ليهْويَ من علياء
الشعْر
على شعبٍ ميْتٍ وجذوعٍ هامدةٍ
صمّاءْ؟
حدّثني عن أحبابكَ:
ماذا يفعلُ لامارتينْ؟
هلْ خَضَّ بُحَيْرَتَهَ بِيَدٍ
وقصِيدَتَهُ بِيَدٍ؟
هل ترجم جبرانٌ موسيقى الرمل
إلى زبدٍ؟
هل أبصر عازفُك الأعمى إيليَّا
في أُوليسْ؟
حدّثني كيفَ الشعرُ بِلاَ
شيطان الشعر؟
أَمَ انَّ شياطين الشعراء
عتاةٌ حرّاقُونَ
ويسترقون مسالكَ يجهلُها
البوليسْ؟
حدّثني عن أحبابي:
كيفَ لبودليرٍ أنْ يكتُبَ
في ليلٍ لا قطّة فيهِ
ولا باريسْ؟
من أينَ لرامبو أن يعتادَ
الغربةَ في فردوسٍ
لا حبشيّة فيه ولا بوهامَ
ولا بَاخُوسْ؟
حدّثني عن عزّوز
(كم علّمَنا أن نبحث عنّا
في جهة
فيما نتشرّد في الجهة الأخرى)
حدّثني عن محمود
وعن محجوب
وعن سركون
وعن بسّام
وعن...
(كم طالت قائمة القتلى الشعراء
كم صرنا نقتلهم في الشعر
ونقتلهم في الأرض
وندعوهم شهداء)
حدّثْنِي عَنْها وهي تذبُّ
شواردها
هل كُنْتَ (كما يهْذُونَ)
تنامُ لأسْهَرَ جرّاهَا
وتجيئُكَ طيِّعةً وأطاردها
لا أعرف ما هي حتى حين أراها؟
هل يتسَاوَى الشَّاعِرُ والمَهْوُوسْ؟
حدّثني عنك وعنّي كُلٌ في
طرفٍ
تتأرجحُ مثل الطفلةِ بيني
هذي الأرضُ وبينكَ
نُمْسِكُها كُلٌّ بيدٍ ونُطيّرُها
في الجوّ
تَحُفُّ بها كملاكِ من نُورٍ
وأراودُها مثل الكابُوسْ
من أينَ يجيءُ الشعرُ مكانًا
لا تُفّاحةَ فيهِ ولا إبليسْ؟
*
أعمى في سيرك النار أدورُ
على نفسي
مثل الكلْبِ المعقولِ إلى
كلبٍ مجنون
لَوْ أعرفُ كيف أعضُّ على
ذَيْلِي
لو أعرف كيفَ أعضُّ
على ذيل الشعر الملعون ابْنِ
الملْعُونْ
*
أدعوك إلى ناري أنا ذَا شجرةْ
جسدي بابٌ بابي جذْعٌ جذعي
نفَقٌ
نفَقي أُفُقٌ أُفُقِي كلماتْ
كلماتي أرضٌ أرضي في عيني
حدَقَةْ
وجذوري أجنحتي
وغُصوني ترمشُ بينَ جراحي
المُحترقةْ
أدعوك إلى نارٍ بَيْضَاءَ
وفاخِرةٍ
سوْدَاءَ وساخِرَةٍ
تتأرجح فيها مثل الطفلة بيني
هذي الأرض وبينَكَ
أرجُفُ مثلَ خُطافٍ مذعورِ
سُفني كلماتِي المنكسرةْ
أتعمّدُها سُفُنًا وبلادي
حُمُّصةٌ
في حجم زمكّى زرْزورٍ
وأسمّيها وطنًا
لسنا الأحياءَ ولا الأمواتَ
ولكنّا
أَشْلاَءُ حياةٍ كامنةٍ
في شبه حياةٍ مُنْفَجِرَةْ
من أنتَ؟
تقولُ لعلّي من ذاك الحطاب
وأنت؟
أقولُ لعلّي من تلك الشجَرةْ
فإليّ الزّرْبُ إليكَ الورْدُ
إليَّ الصَّلْبُ إليكَ المجْدُ
إليَّ الضرْبُ إليكَ النَّقْدُ
إليكَ الآنْ
تِيجَانُ الشِّعْرِ
ويكفيني لو أعرفُ كيف أكون
أقلّ الموتى موتًا في هذي
الأكفانْ
(ها أنّا مؤتلفان كجنْبَيْ
قبْرٍ نحن
ومختلفان ومفترقان وملتقيانْ)
*
- والآن؟
- أدعوكَ إلى ما ليسَ حياةً
بعدُ
وليس الموتَ اصْدُقْنِي
هل صادفتَ حياتكَ عاريةً
لتسمّيَها؟
أنا ذَا أتهجّى الموتَ
أسمّي الموتَ سلوقيِّي أرشُوهُ
بعظمة موسيقَى كي يعملَ طول
الوقت
أخافُ فأصعدُ مهتديًا بالخيط
الأوّل
من ليل البشريّة ثمّ أخاف
فأهبطُ
أفرشُ جِلْدَ الثورِ وأقرأُ
لوْحِي في
ضوء البلديّة (ضوءٌ أسودُ
مثل
حليب الفحْم) بعيدًا
عن لُعَبِ الأطفال المحترفين
بعيدًا
عن غاباتِ الحطّابين المرتزقةْ
أنا ذَا لا أعْرِفُ ماذا
أصْنَعُ بِي
في هذا الشعب الصمت الحمق
الرعب الموت الزّفْتْ
أتهجّى الموت وأمنحهُ صمتي
أتهجّى الصمتَ وأمنحُهُ صوتي
أتخبّطُ في عقلي بجنونٍ
أُنشِبُ أسمائي في الأرض
وأَفْرُكُها
بأصابعَ من حَجَرٍ ونِيُونٍ
أهبطُ في طبقات الصوتِ
لَعَلَّ إذا ضاقت رؤيا اتّسعت
طبَقةْ
لا أعرف ماذا أصنع بي في
هذا الوقت
ولا ماذا يجديني
أنّ لساني من لحْمٍ لا من
أسمنتٍ
حيثُ نظرتُ رأيتُ الواحِدَ
مسحوبًا
من عوْرَتِه في الشارع معصوب
العينينِ
وفي قلبي أسْرارٌ بيني لو
أصغيتُ
وبين البوْحِ بها والصمت
عليها
سيفٌ ذو حدّينِ
يغادرني معطوبًا في الحالينْ
لا أعرف ماذا أصنع بي في
هذا الوقتِ
ولا ماذَا أو كيْفَ أسمّي
هذا الشبر الملغوم الوجْهين
وطنٌ هو أم كفنٌ أم علبة
ياغرتْ؟
صرتُ أحاذرُ من تأويل الصوت
ومن تقويل الصمتْ
حتّى وأنا أدنو من مشنقتي
قلتْ
هذي مُهْرَةْ
ذاك لأنّي خفت
أن يُذْكَر أنّي متّ
طلبًا للشهرةْ...
إرسال تعليق