التلاحم بين الإنسان وعناصر الطبيعة في الوطن
في المواجهة مع المحتل في شعر "هشام عودة"
تشكل الصورة الشعرية عند "هشام عودة" عنصرا مهما في بناء
خطابه الشعري الوطني والقومي، وتمنحه فرادة خاصة بتنوعها وتوظيفها تقنيات فنية
مختلفة، وتعدد روافدها التي تنبع من تجربة حياتية عميقة، ومقروء ثقافي ديني
وتاريخي وأدبي واسع، ومقدرة أدبية متميزة، وتتضافر هذه العوامل معاً لتعكس في
الصورة الشعرية حالة من الإحساس المرهف بالوطن: المكان/ فلسطين المحتلة والإنسان
المقاوم/ الشاعر، فتكشف بوضوح عن جدلية العلاقة أو التلاحم بين الإنسان وعناصر
المكان في الوطن في المواجهة والمصير.
لقد أسبغ الشاعر "هشام عودة" على شعره قيمة فنية أو
شعرية كبيرة لافتة من خلال الخيال الخصب والمثير للدهشة؛ إذ يظهر التفاعل بينه
وبين الموجودات من (الفضاء المكاني بمكوناته من شمس سحاب وقمر ونجوم ورياح،
والطبيعة بمكوناتها من أرض وبحر وموج وشجر وطير وغيرها).
ويشعر المتلقي أو القارئ لشعر "هشام عودة" بمشاركته
الشاعر في تفاعله مع عناصر الوطن ومكوناته الطبيعية، فيحسُّ بمطاوعة الريح للشاعر
وانقيادها له، ومشاركة شجر الوطن في المقاومة، وأنين الطبيعة وتأوّهها ألمًا بصوتٍ
عميق، وشكوى متواصلة على وطن غادره الشاعر جسدا وبقي في قلبه ثاوياً، لقد جاءت صور
الشاعر الشعرية المتنوعة تعكس همّه الأكبر (الأرض) وقضيته الأولى (الوطن)، فغدت
قصائده تقاتل عندما يتخاذل الفرسان.
ففي قصيدة "حوارية الجميز والحجارة" في ديوان
"حوارية الجميز والحجارة" يجعل الشاعر "سمك القرش يعض البحر/
فيحمرّ الشاطئ"، ويسأل مستنكرًا "هل صار البحر بلون دمي" مُكنِّيًا
بذلك عن غزارة دم القتلى من الغزاة المحتلين، ومما يثير الانبهار فرادة الصورة
شعرية، التي جعل فيها سمك القرش المعروف بعدوانيته ضد الإنسان عامة يقاوم ويقاتل
معه الغزاة المحتلين، فيعضُّ هذا السمك البحرَ المتسع الذي حمل أولئك الغزاة من
أمكنة بعيدة إلى وطن الشاعر فاحتلوه، فصار البحر بلون الدم.
وهذا شجر الجُمَّيز الذي يعرف في فلسطين، يشارك في مقاومة الغزاة،
فيصيح في المقاتلين ويحضُّ الرجال على المقاومة ويستنهضُ هممهم للمواجهة إذ يمنح
من يقتل جندياً ظله، ويغدو استراحة للمقاومين، يقول: "من يقتل جنديا -صاح
الجميز- أمنحه ظلالي"، وهي صورة جميلة يستنطق في ثناياها الشاعر الجميز،
ويقدمه عبر تقنية الانزياح اللغوي في صورة شعرية حركية لونية رائعة، وهو في ذلك
يستدعي إلى أذهاننا إحدى تلك المرويات الدينية التي تشير إلى أن أرض فلسطين ستشهد
الصراع الذي لا مفر منه بين الحق الذي يمثله قوم الشاعر، والشر الذي يمثله الغزاة
المغتصبون للوطن، فينصر أهل الحق عليهم، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا
عبدالله، هذا يهودي تعال فاقتله أو قريب من هذا اللفظ. وهي صورة ذات دلالة عميقة
تشي بتأثر الشاعر بهذه المروية وإيمانه بحتمية الانتصار على الغزاة المحتلين
لوطنه، حيث يتفق إنسان الوطن وحجره وشجره عَلَى تَعَاوُرِ العَدُوِّ وتَدَاولِه
بَيْننهم ودحره.
وتتعمق ظاهرة أنسنة عناصر الطبيعة في الوطن لتشارك الشاعر في
المقاومة، في الصور الشعرية الحركية واللونية والسمعية والبصرية المختلفة التي
رسمها الشاعر "هشام عودة"، ففي مقطع من قصيدة "فواصل" في
ديوان "أسئلة الوقت" يؤنسن الشاعر مكونات الفضاء وعناصره، فغدت الشمس
والنجوم والرياح والليل والغيمة والأشجار أناسي تشعر وتنفعل وتقاوم عبر تقنية
الانزياح اللغوي؛ فهذه الشمس باتت إنسانا يكتب الشاعر على جبينها الشعر الذي يكشف
عن تعلق الشاعر بوطنه، وسعيه عبر الكلمة الشعرية إلى المقاومة لاستعادة الوطن
المفقود، وتحقيق الحرية المسلوبة، وهذه النجوم على اتساع تناثرها تقرأ المكتوب،
وتصحو عليه، وكأن الشاعر يشير إلى امتداد صوته عبر الآفاق. يقول:
كتبت على جبين الشمس شعرًا
ستقرأه النجوم وتستفيق
ومن الصورة الشعرية اللافتة للانتباه صورة الريح التي خبأها الشاعر
في كمه، والطريق التي نامت بين كفيه، يقول:
وخبأت الرياح بكم ثوبي..
ونامت بين كفيّ الطريق
وهو يكشف في ذلك عمَّا يملكه من روح المقاومة التي لا تعرف
المستحيل، فكيف لشاعر أن يخبئ الرياح بِكُمِّ ثوبه، وهو بذلك يضعنا أمام مفارقة
كبيرة، بين ريح لا تعترف بحدود الأمكنة تسكن في الفضاءات المختلفة، والمسكِ بها
وتخبئتها داخل كم، لقد امتلك الشاعر/ المقاوم إرادة خارقة للعادة، وأتى بفعلِ ليس
بمقدور البشر، وكل ذلك ينبئ عن أن الشاعر ركب في سبيل الوطن مركباً صعباً، واستطاع
أن يطوع الريح، على نحو ما سخر الله -عز وجل- للنبي سليمان -عليه السلام- الريح،
تجري بأمره رخاء حيث أصاب، وكما طوعها المتنبي من قبل ، يوم تمكن من امتطائها
وتوجيهها جنوباً أو شمالاً.
وعلى الرغم من ذلك فإن الصورة عند هشام عودة مختلفة في دلالاتها؛
ذلك أن الإمساك بالريح وتخبئته - كما تقدم - يشير إلى أنه ليس من زمرة أولئك
الشعراء أو الناس القابضين على الريح، الذين يرجون ما لا يقع ويتعلَّقون بالأوهام،
بل هو من أولئك القابضين على جمر الدفاع عن الوطن ومقاومة العدو وتجاوز عتبة
الآلام، فغدا يخبئ الريح ولا يقبض عليها؛ فهو آمن بفعل المقاومة بالقول والفعل في
آن واحد معاً، وهو لذلك يستبدل الطريق التي تنام بين يديه بالريح التي يقبض عليها،
فاستطاع أن يختصر المسافات ويطوي المسالك التي تقود إلى تخليص الوطن وتحريره، إنها
طريق المقاومة لا غيرها.
ويؤنسن الشاعر في صوره الشعرية الليل، ويوجه إليه أسئلته عن وطنه
وآماله البعيدة، وهو في ذلك يأتي بما لم يأتِ به الشعراء الذين درجوا على الحديث
عن تضايقهم من الليل لشدة وطأته عليهم، إنه يطرح عليه طائفة من الأسئلة
الاستنكارية التي يريد من ورائها أن يؤكد تعلقه بوطنه الذي سكن فيه نبضه الأصيل
ومشاعره الصادقة منذ نعومة أظفاره، وشهد بدايته الشعرية، يقول:
سألت الليل عن تشرين قلبي
وعن وطن به نبضي العتيق.
ويبدو أن الليل قد عجز عن الإجابة لِما ينطوي تحتها من الآلام
والهموم، فتنبري عندئذ غيمة لتقول:
فقالت غيمة سكنت حروفي
هي الأشجار تبكي يا رفيقي
ولا شك في أن هذا القول ينطوي على دلالة انهمار المعاني الوطنية
التي تجود بها حروف الشاعر، بل تتجاوز فعل الغيمة بانهمار المطر.
ولعل في الغيمة التي سكنت حروف الشاعر وبكاء الأشجار استدعاء
لمعجزة نبع الماء الذي ثار من بين أصابعه -صلى الله عليه وسلم-كأمثال العيون، حيث
كانت المعجزة يوم الحديبية، ولقصة الشجرة /الجذع الذي حنّ إلى الرسول عليه الصلاة
والسلام لتدل على مراوحة بين الألم والأمل وتشكل مفارقة أخرى بين أشجار تبكي،
وعلاقة بين الشجر والوطن فتغدو الأشجار ملمحا من ملامح الوطن في تشكيل الإطار
النفسي لدى الشاعر هشام.
وخلاصة القول، لقد أبدع "هشام عودة" في رسم صوره
الشعرية، فجاءت عودة غنية بدلالاتها متنوعة في تشكيلاتها، حمالة أوجه ودلالات
مختلفة؛ مما يجعلها مشرعة على التأويل والتفسير، وعلى الرغم من ذلك فقد نجح الشاعر
في أن يولِّد لدى المتلقين على اختلاف مستوياتهم إحساساً أو ظنَّاً أنهم يحسِنُون
فهمها، وتلك هي البلاغة الشعرية المؤثرة.
5- 2-
2023م.
إرسال تعليق