«الكتابة بالنسبة إليّ هي الرغبة في درء الظلام
والرغبة في فتح نافذة على العالم لكل إنسان». برنار
دادييه
إلى
جانب ليوبولد سيدار سنغور وإيمي سيزير، يظل الكاتب برنار دادييه أحد أكثر الشخصيات
شهرة في الأدب الإفريقي الناطق بالفرنسية. لقد ساهم بنشاط كبير في كل المحطات
البارزة في التاريخ الأدبي لإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى من خلال استكشاف أجناس
أدبية مختلفة. وهذا من خلال إدراكه، طوال حياته، توازنًا معينًا بين تعطشه للكتابة
والوقائع السياسية التي واجهها ولم يكن له مفر منها. كان الإيفواري شاعرًا،
وروائيًّا، ورجل مسرح، وسياسيًّا أيضًا، ووزيرًا للثقافة في حكومة هوفويت بوانيي.
قريبًا من الجبهة الشعبية الإيفوارية، دافع عن لوران غباغبو في أثناء سجنه منذ عام
2011م في مركز احتجاز المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي (هولندا). كاتب «كليمبي»
وغيرها من الأعمال التي أصبحت من كلاسيكيات الأدب الإفريقي، أول كاتب إفريقي يحتفل
بمرور مئة عام على ولادته.
ولد الكاتب في عام 1916م في أسّيني، ليس بعيدًا من أبيدجان، على ضفاف المحيط الأطلسي، وترعرع في عائلة حيث النضال والسياسية والالتزام لم تكن مجرد كلمات فارغة. كان والده مؤسس أول اتحاد زراعي إفريقي. حرص هذا الأب المناضل، الذي وقف ضد المزارعين البيض والإدارة الاستعمارية، على أن يتلقى ابنه تعليمه غربيًّا بتسجيله في المدرسة الفرنسية. بعد دراسات ابتدائية وثانوية باهرة، تابع تعليمه في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين في مدرسة ويليام بونتي المرموقة في داكار، التي مر خلالها العديد من قادة إفريقيا المستقلة. عند مغادرته المدرسة، عُيّن في المعهد الفرنسي لإفريقيا السوداء وقضى عشر سنوات في السنغال، قبل أن يعود إلى بلده نهائيًّا في نهاية الحرب العالمية الثانية.
جزيرة غوريه: رمز تاريخي لمعاناة الإنسان الأسود
قدمت
مدرسة بونتي في غوريّه للشاب الإيفواري درسًا تاريخيًّا عظيمًا. خلاصة كل معاناة
العرق الأسود. تعرض هذه الجزيرة- «ذات المنازل المتهدمة التي تسيطر عليها قلعة
مليئة بالمدافع»، حيث سيذهب للقيام بالإعدادات العسكرية- قبل كل شيء «الرمال
والحجارة». عندما يسمح له وقت الفراغ، مثل بطله كليمبي، يتجول في الجزيرة مع
رفاقه، ويحضر المناورات العسكرية، ويزور مرات عدة «بيت العبيد» وزنازينه. وهناك
تعلم، من خلال التاريخ القاسي للماضي، معنى تدفق الزمن. لقد عزز اشمئزازه من
الظلم، واستمد قوته من المعنى الذي سيعطيه في عمله لمهمة الكاتب. اكتسب طعم
الاستحضار التاريخي. وجد هناك الفكرة المهووسة، والحافزة، لعمله المسرحي والشعري:
تجارة الرقيق، والعبودية. لكن غوريه، هذه البقعة من الغبار في مقدمة القارة
الإفريقية، هذه المحطة غير المعروفة الآن التي لم يعد أحد يخرج منها لأي أفق، حتى
المأساوي، مثلت أيضًا هذا المصير المسدود الذي كان الاستعمار يعده من الآن فصاعدًا
إلى «النخب» الإفريقية… لم يكن دادييه مخطئًا.
فيكتور هوغو الإيفواري
برنار
بينلين دادييه أبو الأدب الإيفواري ورائده البارز. إنه مؤلف غزير الإنتاج، يغطي
جميع الأنواع الأدبية: الشعر والروايات والمسرح واليوميات والحكايات التقليدية،
وأهمها المسرح. بعد الدراسة في جزيرة غوريه السنغالية، عمل لمدة عشر سنوات في
المعهد الأساسي لإفريقيا السوداء في داكار. في عام 1947م، عاد إلى بلاده وكان
ناشطًا في التجمع الديمقراطي الإفريقي. أدت الاضطرابات التي حدثت في فبراير 1949م
إلى سجنه لمدة ستة عشر شهرًا، حيث يحتفظ بمذكرات لن تُنشَر حتى عام 1981م، «دفاتر
السجن». عندما نالت كوت ديفوار استقلالها، شغل مناصب مدير مكتب وزير التربية
الوطنية، ومدير الشؤون الثقافية، والمفتش العام للفنون والآداب، وفي عام 1977م
أصبح وزير الثقافة والإعلام.
في أثناء تكريمه، كتب الروائي كوفي كواهوليه في «جون أفريك» بمناسبة الذكرى المئوية لميلاده في عام 2016م مشيدًا به: «دادييه في الأدب كما هو في السياسة. وبعبارة أخرى، سلف لا غنى عنه. حتى المصفوفة التي ولد منها الأدب الإيفواري. وقال الكاتب في الاحتفال المئوي: الكتابة بالنسبة إليّ هي الرغبة في درء الظلام، والرغبة في فتح نافذة على العالم لكلّ إنسان». على الرغم من سنه المتقدّمة، فقد حضر عميد الرسائل الإفريقية شخصيًّا، يوم الخميس، 11 فبراير 2016م، إلى قصر ثقافة أبيدجان ليحصل على جائزة جيمس توريس بودي الأولى التي منحته اليونسكو تكريمًا لحياته المهنية الطويلة كاتبًا.
تتمثّل
خصوصية برنار دادييه في ممارسة جميع الأنواع الأدبية، لقد أبدع في كل شيء. اعتاد
الرجل على جمع المراتب الأولى. «كليمبي»، روايته الأكثر شهرة على الأرجح، التي
نشرت في عام 1956م، هي أول رواية في كوت ديفوار. مع مسرحيته «المدن»، التي عُرضت
في أبيدجان في إبريل 1934م، قدّم دادييه أول مسرحية للمجموعة الدرامية من إفريقيا
الناطقة بالفرنسية. كان هو الأديب الأول والوحيد الذي فاز مرتين بالجائزة الكبرى
للأدب في إفريقيا السوداء؛ المرة الأولى في عام 1965م مع روايته «زعيم نيويورك»،
والمرة الأخرى عام 1968م مع رواية «المدينة التي لا يموت فيها أحد».
الميزة
الأخرى البارزة لعمل برنار دادييه هي رفضه «للزنوجة» كمصدر للإلهام، وبالتالي
قاطعًا مع الأيديولوجية العزيزة على الأفارقة العظماء في جيله. بالنسبة إليه، يكتب
نيكول فينسيليوني، المتخصص في الأدب الإيفواري: «إن إفريقيا تجربة حية وليست
حنينًا إلى الماضي؛ لذلك، ينظر إلى العالم بقلب شديد الإفريقية إلى درجة لا يمكنه
معها المطالبة باعتراف الآخرين[…]».
برنار دادييه المسرحي
بالتأكيد
لم يكن برنار دادييه سنغور الكوت ديفوار، لكنه كان فيكتور هوغو، دون مقارنات.
الكاتب المبكّر، دخل الأدب فتيًّا، مؤلّفًا أول نص مسرحي له، «المدن»، في عام
1931م، عن عمر يناهز 15 عامًا، وهو لا يزال تلميذًا في المدرسة الابتدائية العليا
في بينغرفيل. دخل المسرح حياته في بنغرفيل، في عام 1931م، الطفرة الحاسمة التي
ستؤذن بميلاد المسرح الإفريقي الناطق بالفرنسية أو وفقًا لتعبير يشير بحق إلى
المسرح الإفريقي التقليدي. «المسرح الإفريقي الجديد». حول هذا الموضوع قصة يحكيها
برنار دادييه بنفسه في كيلمبي:
«ذات يوم، استبدل الخياط بأزرار الزي الرسمي الخشبية أزرارًا أخرى معدنية ذهبية. هذا يجعل مني شرطيًّا». بدت المناسبة مناسبة للتسلية. آكا بيليه، طالب في السنة الأولى، أخذ عصا، ووضع حزامه فوق السترة، ومرّر العصا عبر الحزام وأصبح رقيبًا في الحراسة يتبعه مساعدان. رافقوا البيض في الحسابات. المدير، الذي جذبه الضحك، المهتم بالتمثيل، نَظَّفَ مساحة مربعة كبيرة محاطة بأسرّة زهور طُهِّرَت من خلف قاعة الطعام. وهناك، يمكن للطلاب أن يناقشوا ويتحدثوا بحرية. لتشجيع أحداث الفُلكلور، وقد خصّص أمسية كل سبت للمسرح».
علاوة
على ذلك، لم يقتصر المسرح على المدرسة، كما يقول نفسه: «عندما جاء الحاكم ريست،
الذي كان نشاطه شديدًا، رأى الإضافة التي يمكن أن يقدمها المسرح الفرنسي الإفريقي
للاحتفالات الشعبية التي أراد تنظيمها. خرج المسرح من المدرسة. كانت هناك عروض
عامة مع المئات من المتفرجين». في الواقع، كان ذلك عمليًّا بالاشتراك مع مدرسة
ويليام بونتي، التي قدّمت بعد ذلك مسرحية «مقابلة بنهزين مع بايولي» 11 يونيو
1933م.
في
الواقع، يمكن لبداية مسيرة دادييه المهنية ككاتب مسرحي مؤرخة من عرض مسرحية
«المدن» في أبيدجان في إبريل 1934م: «كانت فرصتي الثالثة هي يوم الطفل مع الحاكم
ريستي، حيث كتبت بهذه المناسبة «المدن»، أول مسرحية لي، وهي عبارة عن حوار بين
مجموعة المدن الإيفوارية». في سن الحادية والعشرين، شارك في كتابة مسرحية هزلية
مستوحاة من نشأة الكون، تحمل عنوانًا: «اسمين ديهلي، ملك سانوي». عُرضت المسرحية
عام 1937م في مسرح الشانزليزيه في باريس، بمناسبة المعرض العالمي. ومنذ ذلك الحين،
لم يتوقف الإيفواري قط عن الكتابة وأنتج أكثر من عشرين كتابًا، كل الأنواع مجتمعة.
يحكي عمله نضالات شعبه وأساطيره وطموحاته التي يجسدها الكاتب نفسه متطِوّعًا
مناهضًا للاستعمار، قبل أن يشارك في السياسة، على وجه الخصوص، وزيرًا للثقافة في
حكومة هوفويت- بونيي.
يصف
برنار دادييه الجو العائلي الذي نشأ فيه، فيقول في حوار: «سمعنا بين الحين والآخر
حديثًا عن سنغور، وعن مارك كودجو توفالو، وعن زنوج اتّحدوا في باريس للدفاع عن
مصالح إفريقيا، وعن وجود صحف محظورة مثل «الزنجي المصفّد»، و«العالم الزنجي»،
و«القارات». ستارة من الحديد أرادت أن تفصلنا عن العالم كله. وهناك صحيفة أخرى
أسسها الزنوج: «البرقية الإفريقية». أظهرت لنا الأعداد القليلة التي تمكنت من
تجاوز الخطوط الجمركية -لأنها كانت موجهة إلى رجال مهمين، وإلى مواطنين فرنسيين-
صور محامين وكتّاب وأساتذة وفنانين وشعراء وصناعيين سود. لم نكن بحاجة إلى
معرفتهم. كانت مشاهدتهم دليلًا على أننا أيضًا يمكن أن ندرك أنفسنا».
النضال السياسي والأدبي
لدى
عودته إلى كوت ديفوار في عام 1947م، انخرط دادييه في النشاط المناهض للاستعمار في
التجمع الديمقراطي الإفريقي (RDA)، وهو تشكيل أنشئ تحت قيادة فيليكس هوفويت بوانيي. في نهاية الحرب
العالمية الثانية، مع عودة الجنود الأفارقة الذين شاركوا في المعارك على الجبهات
الأوربية ورأوا أوربا الشقيّة في حرب طويلة ورهيبة بين الأشقاء، اهتزت المستعمرات
الإفريقية من خلال تحركات خجولة من أجل التحرير. مع رفاقه الذين يناضلون من أجل الاستقلال
ألقي القبض على دادييه وسجن في عام 1949م بتهمة «أنشطة معادية لفرنسا». سيمضي
ثمانية عشر شهرًا في السجن، قبل أن يطلق سراحه لعدم رفع الدعوى.
في
مناسبات عدة، سوف يستحضر هذه السنوات في أعماله: ومن بينها «العقيد طورو وزنوجه»:
حيث يتحدث والده باسم مستعار غادا: «العمل الاستعماري، رسالة الحضارة، التنصير؟
رعايا سهلة الانقياد للبعض والبعض الآخر، روبوتات، وعندما تولى البيض، وبخاصة
الفرنسيون، الدفاع عن السكان الأصليين، عاملتهم السلطات كشيوعيين. أنا شخصيًّا
عرفت شخصًا معينًا من سيمرمان طُرد لأنه، في جريدته، «واصلة»، شجب فضيحة نزوغي،
وهي قرية احترقت عند الفجر لأن القرويين رفضوا إعطاء عمال لاثنين من قاطعي
الأشجار. نشرت هذه الصحيفة في عام 1932م في أحد أعدادها مقالًا للطبيب الإفريقي
فيليكس هوفويت، رئيس الجمعية الوطنية اليوم، مقالًا بعنوان «لقد تعرضنا للسرقة
أكثر من اللازم». قد تكون في أقصى اليمين، وتتناول قضية السكان الأصليين فيضعونك
في أقصى اليسار».
عندئذٍ،
يلجأ الشاب، الذي أصيب بصدمة نفسية نتيجة مروره بالصراع السياسي المتشدد، إلى
الكتابة، عشقه الأول. وسوف يعرب منذ ذلك الحين عن التزامه من خلال الأدب، بينما
يقود في الوقت نفسه حياة مهنية وسياسية مكثفة في الإدارة الإيفوارية.
قاد
العمل السياسي دادييه من المكاتب الوزارية إلى الحكومة. كان أحد أركان الإدارة
الثقافية الإيفوارية خلال المدة الرئاسية الطويلة لهوفيت بوانيي. أول رئيس مكتب
وزير التربية الوطنية، ثم مدير خدمات المعلومات (1959-1961م)، ومدير الفنون
الجميلة (1962-1963م) والشؤون الثقافية (1973-1976م)، سينهي مسيرته السياسية
وزيرًا للثقافة والإعلام، وهو منصب شغل بين 1977م و 1986م. في هذه السنوات التسع
على رأس هذه الوزارة الحساسة، دعّم دادييه حرية الصحافة وتحرير الممارسات الفنية
والثقافية.
واضح وقاسٍ
وفي
السنوات من 1950م إلى 1980م، أنتج برنار دادييه معظم أعماله الأدبية. عرف لأول مرة
شاعرًا، مع نشره في باريس، في عام 1950م، مجموعته الشعرية بعنوان مثير «إفريقيا
المنتصبة»، فالقصائد ذات نبرة حربية وخالية من الزخارف اللفظية، تردد صراعات
الرجال السود المستعبدين وتعلن الطابع الحتمي للتغيير المقبل:
نجمة
انبثقت/ في سماء كاب كوست في المينا/ سوداء بالوعود./ رجال -سلع/ مكدسون في قبو
القلاع/ بين الفئران والبارود والنار والقوافل،/ الأرض المليئة بالدم واللحم/
تربطنا ببعض./ الرجال- الماشية مقيدون بالسلاسل من أجل المعرض،/ فاصلة كبيرة في
التاريخ/
يستأنف
الزمن مساره،/ خمسيّة الأبنوس/ والنسر الأسود، طيرانه./ البضائع مختومة بختم
السيد،/ فوقك الاحتفال./ تحسب الأرباح حسب رؤوس/ الزنجي والزنجي الصغير. /
حسب
دزينة من حيوانات الحقل،/ حسب مئات الرجال المأسورين، والصغار المخطوفين./ احتفظ
المحيط بصوته الغاضب/ رجل أسود، نجمة سوداء/ الديك يصيح لليقظة
هذه
المرحلة الجديدة./ أيها الأطلس، يا حامل الشعلة القديم/ كيب كوست غوا! المينا
وِيداه!/ قلاع الموت، سلالم الجحيم/ غيّرت الإمبراطورية اسمها/ وسفينة الرقيق
الراية./
أيها
الإنسان!/ كيب كوست غوا! المينا ويداه!/ المقابر والأضرحة/ هنا في اليوم مات من
الأحلام./ هنا في السلاسل وفي الليل مات بشر.
تتابع
الأعمال دون أن تتشابه. في العقدين التاليين، كان برنار دادييه في قمة فنّه ونشر
معظم الأعمال التي خلقت شهرته. في أول كتبه القصصية، «الأساطير الإفريقية» (Seghers، 1954) الوزرة السوداء (Présence Africaine، 1956م)،
مستلهمًا من التقاليد الشفوية الإفريقية الضاربة في القدم، يقدّم الحكمة من ماضي
شعبه ويمزج ببراعة السحري بالواقعي والغنائية. تظل إعادة بناء الحكايات القديمة
ونقلها جانبًا رئيسًا في عمل برنار دادييه، لم يتوقف عن تكرار أن الناس المتجذرين
في ماضيهم فقط يعرفون اتجاههم، مهما عانوا ويلات فظيعة.
صدرت
رواية كليمبي عام 1956م، بين الرواية ووقائع سيرته الذاتية، مثل الروايات
التدريبية من الحقبة الاستعمارية، والمعضلات المثيرة لهوية الشباب السود
المتعلمين. ممزقون بين القيم الإفريقية لأسلافهم وفتنة الحضارة التي تحاول أوربا
فرضها عليهم من خلال مدارسها وقوتها وهيمنتها. جميع شباب إفريقيا السوداء يعرفون
«كليمبي»، التي أصبحت من كلاسيكيات الأدب الفرنكفوني. وأخيرًا، اكتملت ثلاثية
«زنجي في باريس» (وجود الإفريقية، 1959م) «زعيم نيويورك» (Présence
Africaine، 1964م) «المدينة حيث لا أحد يموت» (Présence
Africaine، 1969م)، إبداعات مميزة لهذه الحقبة الميمونة، أبرزت، مازجة
لذّة السخرية بالأخلاقية، المواجهة بين الرجل الإفريقي والحواضر الغربية (باريس
ونيويورك وروما)، مع حداثتهم المريبة المظلِّلة. يظهر المؤلف في هذه الثلاثية
الأصلية كل موهبته في النقد الاجتماعي، بكل وضوح ومن دون رحمة.
العودة إلى المسرح و… إلى السياسة
في
السبعينيات، يجدّد برنار دادييه صلاته بالمسرح، الباب الذي دخل منه إلى الأدب في
شبابه. ونشرت له تباعًا دار نشر حضور إفريقي، «السيد طوغو نيني» )1970م)، مسرحية
هجائية للأخلاق الاستعمارية، «بياتريس الكونغو» (1970م)، مسرحية تاريخية عن
الاستعمار البرتغالي في وسط إفريقيا، «جزر العاصفة» (1973م) دراما في عديد من
اللوحات تعرف بالنضال التحرري في هايتي، فضلًا عن مسرحيات أخرى أقل شهرة عند
ناشرين أفارقة آخرين. غنيًّا بالموارد الإفريقية الدرامية يلقى مسرح دادييه كثيرًا
من المعجبين وعُرضت مسرحياته على أكبر المسارح الدولية، في باريس، أفينيون، حتى
نيويورك.
إذا كان لم ينشر دادييه أي شيء
تقريبًا في العقود الأخيرة من حياته، فإن الأديب المئوي لم يفقد شيئًا من قدراته
النضالية، كما يتضح من خلال الاهتمام المستمر بسياسة بلاده. ألم يكرّس جهده مؤخرًا
لفضح رئيس كوت ديفوار الحسن واتارا، متهمًا إياه بإهمال صوت الشعب؟ وكان أيضًا منذ
مدة طويلة دافع عن لوران غباغبو، متحمّلًا منذ عام 2002م قيادة المؤتمر الوطني
للنضال من أجل الديمقراطية (NDRC)، الحركة التي أسّستها
سيمون غباغبو للدفاع عن زوجها. في عام 2016م، بمناسبة عيد ميلاده المئة، أطلق
عريضة عامة للمطالبة بالإفراج عن غباغبو، مذكرًا بأنه «لأكثر من خمس سنوات لم تقدّم
المحكمة الجنائية الدولية أي دليل مادي لدعم التهم الموجهة إلى لوران غباغبو». كان
الالتماس قد جمع 26 مليون توقيع!
الموقف
الذي اتخذه برنار دادييه ضد النظام في ساحل العاج لم يمنع وزير الثقافة في حكومة
الحسن واتارا من حضور حفل تسليم اليونسكو الجائزة للكاتب، ذلك الحفل الذي عقد في
أبيدجان في 11 فبراير، 2016م. ربما لأن أعمال دادييه الأدبية والمعترف بها في جميع
أنحاء العالم، لا تنتمي إلى أي معسكر وتتجاوز الخصومات السياسية. حيث تعوّد الكاتب
أن يسخر مكررًا في السنوات التي قضاها في العمل السياسي جنبًا إلى جنب مع فيليكس
هوفويت بوانيي إنه «ليس مع الرئيس هوفويت ولا ضده لكن ببساطة كان دائمًا مع الكوت
ديفوار ومع إفريقيا!».
«أغنّي إفريقيا»
أيتها
الإلهة، مستيقظًا فجأة، عليّ، اليوم أيضًا، كابن جاحد، تكرار الحركات القديمة دون
تناغم.
امنحيني
القوة لتجديد شبابها وعدّلي أوتار قيثاري لأغني إفريقيا.
مثل
مسيَّر، مضغوطًا من آلام الخبز اليومي، سأقابل في طريقي، الظلَّ والضوء والحرارة
والنضارة، سأرى اليعسوب والفراشات ترفرف، والأطفال والطيور يلعبون ويضحكون.
امنحيني
القوة لأحبّهم وأضبط عُودي لأغني إفريقيا.
النسيم
يداعب بشرتي، يتموج في البحر المتموج، يثير الحب في ظل السقف القديم.
امنحي
قلبي حبَّ إفريقيا.
ها
قد حل المساء، مساء الحسابات العظيمة، ماذا سأقدم لك بعد عملي الشاق؟ لقد بحثت في
الكتب عبثًا، وفي الكلمات عبثًا، ولم أجد سوى عبارات مبتذلة، ولا حتى جوهرة من
العبارات لأضعها على مائدتك، في إكليل من الكلمات والصور المتشابكة مع العباقرة
المجانين بالإيقاع والألحان. نظرت في المحاسن الأخرى، الجمال الإلهي لإفريقيا، في
ألحان أخرى، ألحانها الرائعة. شبكتي القصيرة بالكاد تلامس النهر الذهبي للعبارات
الأبدية، ومن باب الوفاء لا أجرؤ على اصطياد زنابق الماء من بحيرة الظل.
ينزل
الليل سلم الأزمنة في الموج المتقزح من الظلال المتقلبة، ويحجب الأشكال والأشياء،
والأفعال والكلمات، والإيقاع والألحان، والأمل والحلم. عبر عباءة الصمت الهائلة
والصلاة الخاشعة، يسود النغم عرش النجوم وعبر السماء الصافية ذات جزّة النار
المحتشمة، تعالي إلى أرض البشر وألهمي عاشقًا يحتضر منتظرًا روعة نهار العبارات
الأبدية ليرصّع بها لوح الثلج للإلهة إفريقيا، من آخر جوهرة ليزيّن تاجها
الإمبراطوري، بخيط الديباج الأخير ليزركش فستانها بالفراء وفي ذراعيها، ذراعي الأم
التقية، لتحلّق نحو مناطق السعادة الصافية.
عدّلي
أوتار عودي لأغني بها سحر السفر ومخمل بشرة الآبنوس، فهل سأكون الصامت الوحيد
عندما ترتفع مقدمة الحفل الموسيقي الكبير في كل مكان؟ لا، خذيني على أجنحتك
المتوهجة وفي برق الطيران الرائع، اغمرني في كوبك القرمزي، أيها الإلهام، لأغني
إلى الأبد في أناشيد جديدة، إفريقيا الخالدة.
«جففي دموعك يا إفريقيا»
جففي
دموعك يا إفريقيا!
أطفالك
يعودون إليك
في
قلب العاصفة وأنواء الرحلات الجدباء.
على
ضحكة الموج وثرثرة النسيم،
على
ذهب الشروق
وأرجوان
الغروب
من
قمم الجبال الفخورة
والسافانا
المغمورة بالضوء
يعودون إليك
في
عاصفة وأنواء الرحلات الجدباء.
جففي
دموعك يا إفريقيا
شربنا
من كل ينابيع
النكبات
والأمجاد
انفتحت
حواسنا
على
روعة جمالك
على
عطور غاباتك،
على
سحر مياهك
على
صفاء سمائك
على
مداعبة شمسك
وعلى
فتنة خضرتك المتلألئة بالندى.
جففي
دموعك يا إفريقيا!
أطفالك
يعودون إليك
أيديهم
مليئة بالألعاب
والقلوب
مفعمة بالحب.
يعودون
ليكسوك
من
أحلامهم وآمالهم.
«الحياة ليست حلمًا»
اصعد
مع السنونو لتغني بشكل أفضل
الإنسان
والسلام والحرية
اصعد
لتكون إعصارًا ضد الجوْر
اصعد
ساحبًا خلفك حجاب الكذب الكبير
حتى
يضيء يوم جديد على الأرض أخيرًا،
يوم
يمنح الزنبق كل بياضه،
يوم
يحصل فيه الطفل على أجمل ابتسامة (…)
الحياة
ليست حلمًا يا أخي،
النضال
وقانونه (…)
دعونا
نفكر في إفريقيا التي تنتظرنا،
دعونا
نفكر في العالم الذي ندين له كثيرًا!
لنناضل
دون هوادة يا أخي
فالحياة
ليست حلمًا!
«أشكرك يا إلهي»
أشكرك
يا إلهي
لأنك
جعلتني مجموع كل الآلام،
لأنك
وضعت على رأسي، العالم.
لدي
حُلّة سنتور
وأنا
أحمل العالم منذ الصباح الأول.
الأبيض
لون المناسبات
الأسود،
اللون اليومي
وأنا
أحمل العالم منذ الليلة الأولى.
أنا
سعيد
بشكل
رأسي
المصنوع
لحمل العالم،
راضٍ
بشكل
أنفي
الذي
يستنشق كل رياح العالم،
سعيد
بشكل
ساقي
الجاهزتين
لتركضا كل مراحل العالم.
أشكرك
يا إلهي لأنك خلقتني أسود،
لأنك
جعلتني
مجموع
كل الآلام.
ستة
وثلاثون سيفًا اخترقت قلبي.
ستة
وثلاثون موقدًا حرقوا جسدي.
ودمي
على كل المحن جعل الثلج أحمر،
ودمي
في كل شروق جعل الطبيعة حمراء.
على
أي حال
أنا
سعيد أن أحمل العالم،
سعيد
بذراعيّ القصيرتين
بذراعيّ
الطويلتين
من
ثخانة شفتي.
أشكرك
يا إلهي لأنك خلقتني أسود،
الأبيض
لون المناسبات
الأسود
اللون اليومي
وأنا
أحمل العالم منذ فجر التاريخ.
وضحكي
على العالم، ليلًا، يخلق النهار.
أشكرك
يا إلهي لأنك خلقتني أسود.
«في عينيك»
في
عينيك الصافيتين
قرأت
أحلام الإنسان
في
عينيك الرقيقتين
أتأمّل
الطبيعة منشرحة مزهرة
في
عينيك الشفافتين
أرى
كل العيون
الزرقاء
للأنهار
البيضاء
للجبال
كل
العيون الخضراء للمروج
الحمراء
للنيران والنجوم
عيون
العوالم الأخرى
كل
العيون…
في
همساتك
أسمع
ثرثرة الماء
سيمفونية
ضحكات البشر
كل
همسات الكون اليقظ
في
دقات يديك الملاكين
أسمع
كل التمتمات المتناغمة
كل
أغاني الكون
وعندما
أمسك يديك
أمسك
كل أيادي الفجر الوردية
كل
أيادي الآمال البتول
يد
القرون المزخرفة ويد الكائنات
في
عينيك الصافيتين
أقرأ
كل أحلام البشر
والخلود
المتشبث برموشك
يعيد
لي لحن الكون
في
عينيك الزرقاوين، الزرقاوين
يزهر
العشق
في
عينيك البعيدتين، البعيدتين…
يشرق
عشقي
في
عينيك القريبتين، القريبتين…
يغنّي
قلبي
في
عينيك الطفولية
أتأمّل
الطبيعة منشرحة مزهرة.
سنمسك دعاة الحرب من ياقاتهم
حسنًا
! لا !
نقول:
لا! إلى الحرب.
نقول:
لا! للاستبداد،
لا!
للحكام الهستيريين،
لا!
للرعب الذي ينتشر في بلادنا.
نقول:
لا! للظلام
وفي
وجوه الوحوش البشرية، نرمي احتقارنا.
نقول:
توقفوا! لقطاع الطرق الملتحفين بالنعم، بالنجوم،
لأننا
شعب فرنسا وشعوب إفريقيا،
نحن،
المناضلين من أجل الحرية والسلام،
بعضنا
في المصانع، وبعضنا الآخر في الحقول
يدًا
بيد،
أعلى
من أكاذيب دعاة الحرب،
أعلى
من جبهات المدافع
أعلى
من غيوم القلاع الحصينة،
دعونا
نبني سدًّا ضد الحرب،
سنمسك دعاة الحرب من ياقاتهم
لأننا
نريد الحياة!
لأننا
نريد السلام!
«أنت السيد»
أنت
الذي تزرع الأرز
أنت
الذي تغزل الصوف،
أنت
الذي تبني القلاع
وأنت
الذي يتضور جوعًا
وأنت
الذي يلبس الخرق،
وأنت
الذي ينام تحت النجوم.
ليس
لديَّ حق الوصول إلى فصلهم،
ليس
لديَّ حق الوجود في كتبهم.
أنا
من عالم آخر، عالم الشعب.
لهذا
على كورا إفريقيا القديمة
اليوم
في تحوّل،
عبر
المدن والسجون،
تحت
بوابات مفترقات الطرق،
أُنشد
لكل فرد:
أنت
ملك المصانع
أنت
ملك الحقول
أنت
الشعب
أنت
السيد!
إرسال تعليق