-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية
  • جديد الموقع
  • جاري التحميل ...
  • جديد الموقع
  • فصل من رواية فلا أحد ينام لـ خوان خوسيه ميّاس / ترجمة أحمد عبد اللطيف


    حين نظرت إلى نفسها في المرآة، قالت لوثيا: هذه المرأة السمينة هي أنا.

    قالت ذلك بدون أي قصد للإهانة، لإهانة نفسها، لأنها، أكثر من كونها سمينة، كانت نحيفة خادعة. أمها قالت لها ذلك عندما كانت طفلة، بعد أن ساعدتها على الخروج من البانيو وفيما كانت تجفف لها شعرها:

    - انظري إلى ساقيكِ، أنتِ نحيفة خادعة مثل أغلب الطيور طويلة الساق.

    راحت الطفلة إلى السرير وحاولت فك شفرة هذا التناقض. لماذا تبدو نحيفة رغم أنها سمينة؟ خلال الأيام التالية ستبحث في كتب الرسم عن الطيور ذات السيقان الطويلة، لتشاهد أفخاذها، وستقضي بقية حياتها وهي تراقب جسدها بطريقة موسوسة وخائفة، على أمل أن يكشف عن حقيقته. لكنها ستتجاوز المتبقي من الطفولة والمراهقة بدون أن تقوّض أي تغيرات فسيولوجية جوهرية حُكمَ أمها. لم تفقد في أي لحظة حجم الطيور طويلة الساق الرشيقة ولا الطيور النحيفة الخادعة، ومع الوقت تحققت من أن الجدار بين الوفرة والجفاف مهدّم.

    في مكان عمل لوثيا، ماتت امرأة مريضة بالسمنة عندما فقدت وزنها. في البداية اشتبه الجميع في أن السبب سمنتها، لكنهم اشتبهوا بعد ذلك في أنه نحافتها. لقد أكد موتها الشكوك، أيًا كانت ماهيتها، إذ لم يتوصل أحد قط إلى تحديدها. وفي اليوم التالي لرحيلها، أُغلِقت المؤسسة المتخصصة في تطبيقات الكمبيوتر وصيانة الشبكات والبرمجة، بعد اتهامات بالتهرب الضريبي.

    كان العالم حافلًا بمبرمجين أكثر شبابًا وأفضل إعدادًا من لوثيا، بالتالي، حين تأملت أفقها الوظيفي، شعرت بألم جسدي اشتد حين خرجت من ممرات الشركة وأوقفت تاكسيًا، إذ كانت سيارتها في الورشة وكانت تسير محمّلة، مثل المطرودين في الأفلام، بصندوق من الكرتون مليئًا بأغراضها الشخصية. من يدري.

    صدفة من الشاطئ كانت تضعها فوق الأوراق.

    فنجان من البورسلين وعلبة شاي أخضر فتلة.

    تُرمس بحجم لتر للماء الساخن.

    معجم إنجليزي-إسباني/إسباني-إنجليزي.

    معجم آخر للمرادفات والمتضادات.

    فرشاة أسنان وأنبوبة معجون.

    علبة كريم مرطب.

    علبة فوط صحية.

    كراسة تحل فيها الخوارزميات.

    جوارب صوف ثقيلة جدًا تستخدمها عند خفض المدفأة أو رفع التكييف.

    مجموعة من مقص ومبرد وقصافة أظافر.

    بكرة ورق تواليت وعلبتان مناديل كلينكس.

    علبة شوكولاتة.

    كيس بلباس ورقي.

    وصادف أن كان سائق التاكسي أيضًا مبرمجًا، حالما أفلست شركته لم يستطع أن يدخل المجال مجددًا.

    - بالتعويض وبعض المدخرات، دفعت مصروفات الرخصة والآن أنا رئيس نفسي، حكى لـ لوثيا.

    - وهل هذا عمل مربح؟ سألته.

    - بعد تصفية الديون، لو عملتِ لساعات يمكنك أن تعيشي، رغم تهديدات أوبر وكابيفي. لكن العمل سيروق لك. أنا أحب الانتقال من مكان لمكان طول اليوم، مشاهدة الناس والتعرف عليهم، الإنصات لثرثرتهم من الكرسي الخلفي. والتعرض لمواقف فريدة. بالإضافة، كل يوم أتخيل أني أعمل في مدينة مختلفة. في نيويورك، في دلهي، في المكسيك...

    - وفي أي مدينة اليوم؟ سألت لوثيا.

    - اليوم، في مدريد.

    - لا يحتاج ذلك إلى خيال، فنحن في مدريد.

    - لكن لابد أن أقتنع. انظري –أضاف وهو يعرض لها كتابًا عن التنويم الذاتي كان في المقعد المجاور-، عندما تتمكنين من تخيل ما تفعلين أو فعل ما تتخيلين، بشكل فوري، سيختفي القلق من حياتك. لقد كنت قلقًا جدًا من قبل، وتخليت عن قلقي، والآن أنا قادر أن أكون في مدريد وأنا في مدريد.

    - نعم، قالت لوثيا.

    - وعندما تكونين في نفس المكان بعقلك وجسدك، يكتسب الواقع نورًا فريدًا. صدقيني.

    - مثلما يحدث حين تتخيل أنك تصنع تورتة البطاطس فيما تصنع تورتة البطاطس، قالت هي بسخرية لم يلتقطها الرجل.

    - بالضبط، أو مثلما تتخيلين أنك تضاجعين وأنتِ تضاجعين.

    لم ترد على هذا التعليق لأنه بدا لها تلميحًا. رأت ذلك في عينيه من خلال المرآة العاكسة، ورغم أنه لم يجرحها، فكرت أنها ليست اللحظة المناسبة.

    وصلت إلى شقتها في الضحى وتركت الصندوق بجوار الباب. كانت رُسي، الخادمة التي تعمل ثلاث ساعات ومرتين في الأسبوع، تكنس بالمكنسة الكهربائية. دعتها لوثيا للجلوس، وأخبرتها أنها مضطرة للاستغناء عنها، على الأقل خلال فترة بطالتها. أنصتت لها رُسي بكل برود، وبعد أن صفت حسابها وتلقت فلوسها، غادرت وتركت المكنسة على الأرض، بدون حتى أن تفصلها عن الفيشة. وقبل أن تخرج وضعت يدها في جيبها وأخرجت مفاتيح الشقة ورمتها على الكنبة، فارتدت وسقطت على الأرض، بالقرب من قدمَي لوثيا، التي لم تكن تنتظر منها شكرًا، لكنها انتظرت أن تمتن لروتينها المنزلي الذي سهّل عليها عملها.

    كانت الأواني مغسولة. فأبعدت المكنسة بقدمٍ وخطت خطوتين واستراحت في الصالة-المطبخ. شعرت بالهدوء والخوف كأنها في شقة غير شقتها. وبالفعل، لم تكن الشقة، في هذه الساعات الصباحية، شقتها. خلعت الحذاء وسارت نحو غرفة النوم لترى إن كان السرير مرتبًا. كان الجو كئيبًا بعض الشيء. والبناية غارقة في صمت، كأن سكانها قد هجروها بعد إنذار بانفجار نووي.

    كان السرير مرتبًا أيضًا.

    دخلت الحمّام ونظرت إلى وجهها في المرآة، وحينها قالت بدون أي إهانة: هذه المرأة السمينة هي أنا.

    حينئذ بدأت تسمع موسيقى الأوبرا. في البداية ظنت أن الموسيقى نابعة من داخل رأسها، لكنها تحققت أنها تمر من فتحة التهوية فوق البانيو. لم تكن تحب الأوبرا وكانت قليلة الحساسية للموسيقى بشكل عام، رغم أن سماعها على غفلة، منبعثة من مكان لا تعرفه، يمكن أن يقتلها. كانت تحتفظ بأسطوانة من مختارات سولو لـ ماريا كاياس، لم تكن إلا هدية مع إحدى جرائد الأحد. وذات يوم شغّلتها لتشغّلها، وبعد دقيقتين أوقفتها، إذ أثارت فيها القلق. الأغنية المتسللة من فتحة التهوية كانت الأولى بهذه الأسطوانة، تعرّفت عليها في الحال لشعورها بالتوتر حينها. في المقابل، جلست الآن على التواليت ودخلت في نشوة. وبعد برهة انفجرت في البكاء من التأثر، مثل ساذجة.

    - شيء ما سيحدث، قالت بصوت مرتفع.

    هذه عبارة قالتها آلاف المرات على طول حياتها، رغم أن شيئًا لم يحدث أبدًا بشكل عام. لقد تعلّمتها من أمها، إذ كانت تتوقف أحيانًا في وسط حدث لتقول: "شيء ما سيحدث"، وتشرد لثوانٍ. ثم، حين لا يحدث شيء (على الأقل شيء مرئي)، كانت تواصل الهبوط من السلالم، تمشط شعرها أو تفعل ما كانت تريد فعله قبل أن تتوقف. ولوثيا ورثت منها هذا التهديد بحدث غامض، على وشك الوقوع أو مؤجل.

    لكن ذات مرة، في يوم ميلادها العاشر بالذات، حدث شيء. ولأنه كان يوم أحد، ركضت الطفلة بمجرد ما استيقظت إلى سرير أبويها لتتلقى منهما الهدية، ولم يقولا لها غير أنها مفاجأة. وفيما كان الأب ينهض من السرير ليبحث عنها في الركن المختبئ، جلست الأم وقالت:

    - شيء ما سيحدث.

    في تلك اللحظة، دخل الأب الغرفة بقفص كبير يسكنه طائر طويل المنقار، من شدة سواده يبدو أزرق. كان يحرك رأسه بتوتر كأنه يبحث عن أحد يعرفه، بعين يسرى أو عين يمنى. وأمام اضطراب وجه الطفلة بمشاعر متناقضة، قال الأب:

    - كانت فكرة أمك.

    حينها اقتربت الأم من القفص، ضمت شفتيها وأصدرت بلسانها صخبًا هدّأ الطائر.

    - اسمه كَلاف، يأتي من الصين البعيد، قالت لها.

    - هل يمكن أن ألمسه؟ سألت لوثيا.

    - عندما يعرفك جيدًا.

    في المساء، احتفلوا بعيد ميلاد الطفلة، وجاء مدعوون من الأقارب وبعض زملاء وزميلات المدرسة. كانت الفكرة أن يكون الاحتفال بالحديقة، لكنها أمطرت خلال الليل وابتلت الحشائش. احتفلوا، إذن، داخل البيت، في المطبخ، حيث نفخت الطفلة في عشر شمعات، ووزّع أبوها التورتة بين الصغار فيما انتبهت لوثيا لاختفاء أمها وراحت تبحث عنها في الصالة. لم تجدها، غير أن شيئًا دفعها لتطل من النافذة على الحديقة، لتكتشف أنها خرجت لتتبول. المشهد أربك الطفلة، وحاولت أن تبرر تصرفها بتخيل أن حمّام الطابق الأرضي ربما كان مشغولًا. رأتها وهي ترفع الجونلة وتنزّل اللباس، ورأت في نفس لحظة انحنائها، وبسرعة فائقة بدت كقذيفة، هبوط طائر أسود من السماء وجّه ضربة بمنقاره لرأسها. سمعت لوثيا صخب اصطدام الطائر بجمجمة أمها وكسر رقبته. كلاهما، العصفور والمرأة، سقط مغشيًا عليه، أو ميتًا. تصلّبت لوثيا في مكانها، عاجزة عن الحركة أو الصراخ، كما اعتادت أن يحدث لها في مواقف الصراع.

    حينئذ ظهر أبوها، إذ لاحظ غياب الاثنتين، وحين لاحظ الطفلة مرعوبة وتنظر إلى الخارج، فتح الباب وخرج إلى الحديقة. وأثناء وصوله إلى مكان الأم، وبدون أن يراها، إذ كانت وراء شجيرات، شاهدت لوثيا خروج نوع من فقاعة صابون ملأى بالدخان من منقار الطائر لتدخل في جسد الأم، فقاعة تشوهت قليلًا عند عبور شفتيها. وفي الحال بُعِثت المرأة. وعندما عاد الأب برفقتها، أدركت لوثيا من إيماءاتها أنها تحاول شرح ما حدث، مشيرةً بالتعاقب إلى رأسها، وكان ينزف دمًا كثيرًا، وإلى الطائر الميت.

    ساعدها الأب على رفع لباسها وقبض على ذراعها ليقودها بسرعة إلى داخل البيت. أحد أعمام لوثيا وكان طبيبًا، جاء فقط لحضور حفلة عيد الميلاد، فحص الجرح وقال إنها تحتاج إلى خياطة.

    - وربما تحتاج إلى حقنة تيتانوس، أضاف.

    ركض الأب والأم إلى الطوارئ واستمرت الحفلة تحت أعين الكبار الموجودين فيها. تظاهرت لوثيا بأنها مبسوطة، وحاولت ذلك، لكن الحادثة منعتها من الاندماج مع زملائها في ذاك اليوم.

    عاد الأبوان بعد ثلاث أو أربع ساعات، حين غادر المدعوون. كانت الأم بضمادة على رأسها. لقد اضطروا إلى أن يحلقوا لها هذه المنطقة من الشعر. لكنها كانت على ما يرام، أكدت، رغم العشر غرز التي خيطوا بها رأسها، عشر غرز مثل سنوات لوثيا العشر.

    وبعد تناول الأب والأم لمشروب فيما يعلقان على غرابة الحادثة، اقترح الأب الخروج إلى الحديقة ليروا الطائر الميت. ولأنهم بالليل وبالخارج، كان الظلام حالكًا، فأضاؤوا كشافًا قوي الإضاءة كانوا يحتفظون به في المرأب. فكرت لوثيا أنه يشبه كَلاف، العصفور الذي تلقته كهدية عيد ميلادها.

    - إنه شحرور ضخم، قال الأب.

    ارتاب العم الطبيب، فرغم أن منقاره البرتقالي يبدو لشحرور، إلا أن الحجم يقترب لحجم غراب. كلاهما اقترح وضعه في كيس بلاستيكي ورميه في سلة القمامة. في المقابل، رأت الأم أن الصحيح دفنه في نفس المكان، ولم يتجرأ أحد على مناطحتها. أحضر أبو لوثيا مجرفة من المرأب وحفر حفرة أسقط فيها الطائر، وسريعًا ما غطّاه بالتراب. ثم ودّعهم عم الطفلة، وأمراها لتخلد للنوم.

    قبل أن ترقد، وقفت الطفلة تتأمل كلاف لعدة دقائق، وأدخلت بين فتحات القفص قلمًا رصاصًا اقترب منه الطائر لينقره. لقد أخبراها أنه بالصبر يمكنها تعليمه الكلام.

    - شيء ما سيحدث، قالت له لوثيا ببطء بقصد تربوي.

    رد عليها الطائر بحركة منقار وصوت يشبه صوت أمها حين كانت تطمئنه.

    وفي السرير، عندما كانت على وشك أن تغمض عينيها، دخلت أمها الغرفة وسألتها إن كانت الهدية قد أعجبتها.

    - جدًا، قالت الطفلة.

    ثم أضافت الأم أنها آسفة لما حدث، فلم ترد لوثيا. من جانب، كانت تتمنى أن تعترف بما رأته كله، لكن من جانب آخر انتبهت لأنها في الواقع لن تستطيع الاعتراف لأمها، وإنما للطائر الذي تسلل إليها. صمتت خشيةً من العواقب، ومن بينها أن يعاملاها كمجنونة. ثم نامت وهي تحاول أن تقنع نفسها بأن كل شيء نتاج خيالها ذاته.

    بعد قليل من هذه الأحداث، اختفت أم لوثيا من البيت.

    ________

    تصدر قريبًا عن دار السلاسل

    تكوين

     

    إرسال تعليق

    التعليقات



    جميع الحقوق محفوظة

    العهدة الثقافية

    2016