سُويْعاتٌ تمُرُّ واللّيلُ يمْتَطي صَهَوات السّهدِ مِثْلي.. فلا لأُفولِهِ ينْوي رَحيلي .. ولا لبُزُوغِ فَجْرِ الحِبْرِ أمَهّدُ كفّيْ قلَمي .. وإذْ بوُرَيْقاتٍ شاعِريَةٍ تهَفْهِفُ والنّدى منْها يتَقَطّرُ عطْراً وفِياً.. أوْغَلت عَيْني فيما وَراءَ حَفيفِ الكلِمةِ .. لعَلّي أعودُ مِنْها بقَبَسٍ أوْ أجِد على الحَرْفِ هُدى .. فَعُدْتُ بِقِرابِ الفَرْحَةِ سَعادَةً وأَبْقى...
ولا
أخْفيكُمْ غبْطَةَ قلَمٍ واللّيلُ يتَماوَجُ بكَواكِبَ أحَدَ عَشَرَ يأْتيني
كَفاءَةَ سُهْدٍ ومُسامَرَةٍ لَهُ ..ولمَ هذا الجودُ أيّها اللّيلُ الطّويلُ
وامْرؤ القَيْس تَثاقَلَكَ ونَبّهَ النّواسي نَديمَهُ لنُعاسِ وصْلِ الكَرى منْ
لدُنِ خيالٍ لخَلْقِ بِناءٍ لُغَوِيّ جَرى مَثَلاً على شَفا الكُؤوسِ؟؟
ولكَمْ
منْ كنانَةِ الأسْرارِ شِعْراً .. لقدْ اتّخذْتُهُ لسَهَري المُتَعَمِّدِ أوْ
يَكادُ شُموعاً تُضارِعُني الاحْتراقَ .. والنّفْسُ تُزيلُ عَنْها أواخِرَ
الاضْطِرابِ حينَ أسْرجْتُ على اليَراعِ مِحْبرَةً .. وسابَقَت عَيْني للقَصيدةِ
مطْلعها :
ولدتُ
لعامِ قهرٍ، فاستعدَّا
أبي أمّي، وصرتُ الآنَ جدّا
سيرةٌ
ذاتِيةٌ مجَمّلة في صَحيفةٍ مكتَظّةٍ بالصّروفِ .. أوّلها وِلادةٌ بِصيغةِ الخَبرِ
.. في عامِ قَهرٍ .. معَبِّراً بها الشّاعرُ عنْ ألَمٍ خِلافَ المُعتادِ أوِ
المَوْروثِ منَ الفِطْرةِ.. حينَ تعَرْبدُ الأغاريدُ في شِفاهِ القَوابِلِ
ليَرْسُم لنا حالَةً تنْشقُّ عنْ صَفّ الفَرحةِ.. إلى شطْرِ الحُزْنِ وَحيداً لا
يُشاطِرُهُ العامَ إلاّ أبٌ وأمٌّ... راسِماً لنا بطَرْفةِ شِعْرٍ حَياتَهُ منْذُ
الوِلادَةِ إلى لحْظةِ التّجْربةِ الشّعْريةِ فإذا بهِ يضَعُنا أمامَ حالَةٍ
شُعورِيةٍ تَفيضُ حَناناً ورِقّةً وقدْ صارَ جَدّاً دونَ الإشارَةِ إلى حَفَدَتِهِ
وأوْلادِهِ منْ قبْلُ . .
ويُتابِعُ
الخبَرَ تلْوَ أخيهِ .. مُسْتدْركاً الحالةَ بفِعلٍ مُضارعٍ سَرْديِّ السّياقِ
ليُكْملَ عدّةَ تاريخِهِ .. وكأنّهُ يَعيشُهُ الآنَ للْمَرّةِ الثّانيةِ ..فماذا
يقول؟؟ :
أبيحُ جنَائِني منْ غَيْرِ والٍ
وأحْمِلُ قِرْبَةَ الآلامِ فَرْدا
ولا
يَخْفى عَلَيّ/كُمْ ما تَحْمِلُهُ كَلِمَةُ (((أُبيحُ))) منْ جودٍ مُتّصِلِ
السّجِيّةِ .. ولكِنْ يُعيدُنا لِخانةِ التّفَرّدِ بِثقْلِ الهُمومِ حيْثُ لا
سَنَدَ لَهُ إلاّ هوَ.. وزِيادةً على هذا تُثْقِلُ كاهِلَ نفْسِهِ قِرْبَةُ
الآلامِ .. ويا لَها منْ صورَةٍ توحي بعَدَم تَماسُكِ المَحمولِ وهذا يُعْطي
بُعْداً نفْسِياً أشَدّ ثُقْلاً على كاهِلِ النّفسِ..مُسْتَمِداً الكَلِمَةَ منْ
مُحيطِهِ الذي عايَشَهُ زُهاءَ وَحْدَةٍ.. فَرْداً يَتَحَمّلُ مَشَقّاتِ الحَياة...
ولا
يَدَعُنا نَلْتَقِطُ أنْفاسَ اليَراعِ إلاّ وهوَ يأْخُذُنا بيْنَ جَناحَيْ
خَيالِهِ عَبْرَ بَوابةٍ أخْرى إلى فَضاءٍ يأْتي على خِلافِ المُتَوَقَّعِ ..
فالزّمانُ هنا الفاعِلُ في حرَكِيةِ الحالَةِ المُتهادِيةِ على رَمْلِ الخُطا
والشّاعرُ في مهَبِّ الظّروفِ فيَلْجأُ إلى حالَةِ الدّفاعِ عنِ النّفْسيّةِ
فَيَتّخِذُ الصّدَّ سَبيلاً للْخَلاصِ منْ تلْكَ الحالةِ .
يُطيِّرني
الزمانُ وقد تهادى
على رمل الخطى،فأرومُ صدّا
ويسْتَمرّ
البوْحُ و العُيونُ لاهِثَة الرّموشِ خلْفَ المُفاجآتِ السّردِيةِ وإذْ بالشّاعرِ
يقِفُ بنا على جبْهةِ المُواجَهةِ معَ التّشَتّتِ .. ليُنْهي سَكَرَتَهُ.. وهُنا
عقْدةٌ لمْ تَدُرْ بخُلْدِ المُتَلَقّي/ة ..ملْحِقاً الهَزَيمَةَ بالهَذَيانِ
ليَبْقى وَحيداً يَقْطعُ شارِعَ النّسيانِ إلى أبْعدِ خَيالٍ...
وأَنهى
سكرتي عن سَكبِ جرحي
وأقطعُ شارعَ النسيانِ بُعدا
ومنْ
صَميمِ التّحَدّي ينْهضُ قائِماً ليُعَبّرَ عنْ نفْسهِ بالضّميرِ (أنا) مْبَتَدأً
والخَبَرُ هو ما تَعارفَ علَيهِ الخَلقُ (نسْل) ولكنّ المُفاجأةَ تكْمُنُ في حيّزِ
الهواءِ وفْقَ رؤْيتِهِ الصّوفيةِ فهوَ لمْ يولَدْ ليَسْتَقرَّ في مكانِهِ..
ودليلُ هذا كلِمَة الهَواء المُحَمّلة بِطاقةٍ روحِيةٍ تَأْبى الاسْتقْرارَ ..
والتّعبيرُ يعْكسُ نَظرةَ الشّاعرِ لما يَرى نَفْسهُ عليْها مُقارِعاً النّوائبَ
الحَياتيَةَ التي تُلْحقُ بهِ التّعبَ والمَشَقّةَ عَبْرَ سُؤالهِ الميتافيزيقي
عنِ الطّريقِ الذي سَلكتْه المُتصوّفةُ قبْلَهُ والفَلاسِفة سَواء...وكأنّي ألمَحُ
هُنا حِواراً داخِلياً جَرى بَيْنَهُ وبَيْنَهُ...مُعَبّراً عنِ الحالةِ
التّوتُّريةِ التي يَعيشُها بفِعلٍ يُناسِبُها ((( يضنيني))):
أنا نسلُ
الهواءِ، كما أراني
أقارعُ في الحياةِ هوًى ولحدا
فيضنيني سؤاليَ عن طريقي
ويضنيني طريقي حين أهدا
ويُتابعُ
الشّاعرُ النّقلَ وفْقَ تَسَلْسلِ الفكَرِ الدّقيقةِ التي تشَعّبَتْ عنِ الفكَرِ
الرّئيسَةِ دونَ الإخْلالِ بخُيوطِ الرّؤى التي يسَيْطِر عليْها رغْمَ سطْوةِ
الأخْيِلةِ على بَنانِ الفكرِ...
وإذا
نَحْنُ أمامَ لوْحةٍ تُغْري النّاظرينَ .. (((غَزالَة))) .. وهيَ لفْظةٌ ترْتعُ
بها العُيونُ والقُلوبُ لحُسنِ وقْعِها بالنّفسِ .. وقدْ ألقَتْ لهُ عقْداً
...وإذْ بالمَشاعِر العاطفِيةِ تتَدَخّلُ فتُفْضي بأمْرٍ داخِليٍّ فطْريّ للحاقِ
بالغَزالَةِ.. فتَعود نَفْسُه إلى خانةِ الاعْترافِ بالمَدْيونيَة النّفسيةِ لها
..فلا يسْتَطيعُ حِراكاً لاعْتِرافهِ أنّهُ مُدانٌ لها بعِقْدٍ...
تمرُّ
غزالةٌ وأنا مُدانٌ
فقد مرّتْ، وألقتْ قبلُ عِقدا
فحارتْ رُكبتي بالعَدْوِ، لكنْ
جرى في خافقي السّرحانُ سدّا
وتبْدأُ
الأسْئلةُ في أخْذِ طابعِ الحِوارِ الدّاخلِيّ مسْتَرجِعاً الأسْماءَ الخالِدةَ في
صَحائف ِالغَزلِ العُذْريّ ليُؤَدي القَلبُ دوْرَهُ بعاطِفةِ حبٍّ فطْريّ لكلّ
جَميلٍ وَيبدأُ الحَديث:
فقلتُ
شبيهُ مَنْ: قالتْ سؤالٌ
يرمّمُ في الحشا للحبِ وجدا
فقلتُ بثينةٌ قالتْ تذكرْ
غفا فيكَ الزمانُ وقد تبدّى
فهلْ
تسْتطيعُ هذهِ الأسْئلةُ فكَّ الحيرَةِ وإطْلاقَ المَلامحِ الدّاخليةِ للنّصِّ
والسّيْر في الأجْوبةِ لَعلّنا نَحْتَسي بعْدْ أنْ جَفّتِ الحُروفُ نَميرَ
الأمَل؟؟؟
وإذا بالشّاعرِ يعلّلُ ما وردَ في البيتِ السّابقِ
مُوَضّحاً بِجُمَلٍ خَبَرِيةٍ وأسْلوبٍ خَبَرِيٍّ كذَلك :
على
الجدرانِ قوسُ الريحِ يوماً
وسحَّ على الثرى خوفاً وجهَدا
وغبَّ
الشوقُ من كأس التمنّي
وكان السيّفُ يقطعُ فيك غِمدا
ويُعاودُ
الشّاعرُ السّؤالَ تلْوَ السّؤالِ:
فقلتُ
جميلةٌ فدنا حواري
من العينينِ حين البرقُ عدّا
نِصابَ
الشمس من غيمٍ رقيقٍ
أطاح بغايتي في الطينِ شدّا
فقلتُ
سلافةٌ قالت رياحي
جفتْ أهلي فنمتُ وضِعتُ قَصدا
على ريقِ
الجمالِ،وقد حباني
جمالي، فاحتملتُ الموتَ وِرْدا
فقلتُ
خديجةٌ قالتْ خداجٌ
نبا التكويرُ فيهِ فصار وعدا
فألقمتُ
الفِراخَ ضميرَ صدرٍ
وهيّأتُ الصّدى حرّاً وبردا
فقلتُ
جَهِدتُ جَهدِيَ في مقامي
أنا أعشى،أُعاني القهرَ جَلدا
لقدْ
أوْغلَ الشّاعرُ في الحيرَةِ ونَحْنُ وَراءَهُ سائِرونَ .. لا نَكادُ نلْتَقطُ
قمّةَ جَوابٍ إلاّ وطوفانُ المَشاعِرِ تغْرقُهُ في بُؤْرةِ التّوَتّرِ ..والقَلقُ
محيطٌ به/بِنا منْ كلّ شِعْرٍ أَنيق...
وأدفنُ
صورتي،وأرى ملاذي
دُجى الأحلامِ،لستُ الآنَ نِدا
أنامُ معاقراً، والشيبُ مُهري
بياضَ دفاتري رقْماً وعدّا
وماذا
تُجدي الأسْئلةُ شِعراً والقَوافي ماثِلاتٌ بيْنَ يدَيْ قلَمِهِ لا تَزولُ طرْفَةَ
مُلاحقَةٍ لها أوْ تَبورُ .. وتَأْتي على حينِ اسْتِئْنافٍ وَصْفيَةً لِحالةٍ
تُغَرّدُ لَها الحَواسُّ ليَنْقُلَنا الشّاعرُ بانْزياحٍ لغَوِيٍّ صادِمٍ
للتّوقّعِ.. حينَ يَقولُ صَكّتْ.. والخَيالُ يبْتعدُ إلى التّناصّ مع الآيةِ
القُرآنيةِ( وصكّتْ وجْهَها وقالتْ عَجوزٌ عقيمٌ).. وإذْ بالثّغرِ يفوحُ طيباً
وبعْدهُ القَولُ لا بدّ أنْ يحْملَ ميراثَ الطّيبِ
..
فصكّتْ
ثغرَها طيباً وقالتْ
هو الميراثُ، في الأيام أكدى
ولكنْ شاقني للأمسِ طيرٌ
هنا في بارج الأيامِ حمدا
فقلتُ سلامُ ميراثي وجودي
يهيّئ للخفا الأنفاسَ سعدا
وبِرُّ قَوامتي في ثوبِ طُهرٍ
أتى من حيثُ إيقاعي تردّى
جفا قلبي حريرُ الحلمِ سُهداً
فقلتُ السُّهدُ جافاني وأسدى
ليَ الأشعارَ لا تبلى،ولكنْ
أقاضي ما استُبيحَ وما استَجدا
هنا بلغَ المُرامُ صقيعَ نفسي
وعاينَ في السكوتِ العيشَ رغدا
وذوّبني على خط انفصالي
وهمسُ الشوقِ ترياقٌ وأندى
ويسْتَمِرّ
هذا الشّجنُ والهَمْسُ والبَوْحُ عبْرَ أبْياتٍ متَلاحِقةٍ تجْمَعُها وحْدةٌ
فكْريَةٌ واحدةٌ بِخيوطٍ منْ ألَقٍ روحِيٍّ .. حتى يَعودَ بنا الشّاعرُ إلى
الأسْئلةِ ولكنّ الرّجاءَ النّفْسيّ يظْهَرُ جلِيّاً في هذا المَقْطَعِ:
فقلتُ
لعلَّها مثلي، فقالت:
أنا روحي فرشتُ الرمش مَدا
لتحيا، في كلامِ الشعرِ دهراً
وتحمي من نعاس العمرِ قَدّا
فجاشتْ في ضلوع البحرِ عينٌ
وجاءت مع لفيفِ الطير وفدا
إلى امرأةٍ أعادتْ حسَّ نبضي
فقلتُ وضعتُ للميزانِ حدّا
فذكّرني الصّفا رَحْلي وحِلّي
وإطراقي، إذا ما رُمتُ سُهدا
شمائلُها نساءُ الكونِ،عُذراً
فهل طيبُ النساءِ يُصيبُ عبدا
فَهلْ
تابَعْتمْ مَعي ذوي قلَمي الأبْياتَ ضِمْنَ لوْحَةِ النّصِّ الكُلّيِّ؟؟
وتكْمُنُ
القَصيدةُ في خاتِمةِ الشّاعِريّةِ هنا في بيْتٍ هوَ قَصيدةٌ .. شَمائِلُها نِساء
الكوْنِ.. يكْفي هذِه الأنْثى ما لَحقَ بِها ثَناءً لتَبْقى خالدَةً على مَرّ
الشّعورِ ..وأمّا اسْتخْدامُ صيغَةِ المَفْعولِ المُطلَقِ الغائِبِ فعْلاً
والمُقَدَّرِ ..فهُو الاسْتدراكُ المُجنَّحُ في سَماءِ النّصّ .. والسّؤالُ الذي
ورَدَ على صيغَةِ الدّهشةِ والتّعَجّبِ مُسْتبْعدةً النّفْيَ .. فهلْ طيبُ
النّساءِ يُصيبُ عَبْداً؟؟ لهُوَ الأحَبُّ للشّعْرِ...
والعوْدةُ
لكُلّيةِ النّصِّ منْ حيثُ الأسْلوبِ .. نجِدهُ خالِياً إلاّ منْ وقفَةٍ واحدةٍ
جاءتْ بأسْلوبٍ إنْشائيٍّ والسّمةُ الواضِحةُ عليهِ السّرديةُ بضميرِ المُتكلّم
...وأمّا الأخْيلةُ .. فلا شكّ أنّ الشّاعرَ مُجتهدٌ برْسمِ الصّورةِ يشْتغلُ
عليْها بحرْفةِ قلَمٍ وفْطرةِ إنْسانٍ ريفِيِّ المَشاعِرِ .. لمْ تُغيّرْهُ
عوْلَمَةُ المَعاني.. وإنّما بَقيَ للأصالَةِ منْبَراً ..يَذودُ بما لدَيْهِ منْ
حَميةٍ أدَبيةٍ ونخْوةِ البَداوةِ عمّا تَوارثَهُ عبْرَ تَجْربَتِهِ الذّاتيةِ...
وأَخيراً :
لنَرى منْ
خِلالِ ألْوانِ السّردِ لقَطاتٍ خَياليَةٍ تَسيرُ وِفْقَ الدّفْقاتِ الشّعورِيةِ
لتَبْني النّصّ صورَةً فوْق صورَة دونَ خلَلٍ أوْ انْفلاتِ الخَيالِ في فَضاءاتٍ
نفْسيَةٍ أخْرى...
وقبْلَ
وضْعِ نُقْطةٍ في آخِرِ الإعْجابِ .. أعَبّرُ عنْ شُكْري بشُكْرِ لكَ يالخطيبُ ..
وعُذراً أضَعُهُ بينَ أيْدي الرّجاءِ .. فما قدّمتُهُ هو حالةُ تأثُّرٍ بالنّصّ لا
تمُتّ لأيّ قِراءةٍ بوَشيجَةِ حَرْفٍ وإنّما جاءَتْ عفْوَ اليَراعِ...
إرسال تعليق