-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

فُهومُنا والكون 25 / الباحث د. يوسف الكوفحي

لا ريبَ أنّ كثيرا من فُهومنا حولَ الزواج والإنجاب وتربية الأطفال أدّت إلى فساد المُجتمع أخلاقيا وتعليميّا وتربويّا، وربما لا نعدو الحقيقة إذا قلنا، إنّ ذلك الفساد صادرٌ عن فهومنا المتوارثة لبعض النّصوص الدينيّة من خلال الوقوف عند أقوال المُفسرين والوعّاظ حولها دون إمعان النّظر فيها من جديد هذا من جهة، وصادرٌ عن عاداتنا وثقافتنا من جهة أخرى.

يتداول كثيرٌ من النّاس، بعض المفاهيم الخاطئة حول الزّواج اتكاء على أحاديث و أخبار تُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها تناقضٌ صريح للقرآن الكريم، ولست هنا في صدد ردّ تلك الأحاديث أو إنكارها معاذ الله، أو بيان صحتها من عدمه، بل أنا بصدد المفهوم الخاطِئ حولها في التّطبيق، وتداولها بين الناس، وإسقاطها على الواقع المعيش بغض النظر عن الزمان والمكان والظروف والأحوال. وأعتقد أن تفريغ الأحاديث النبويّة من مقامها وسياقها فيه إساءة واضحة لرسولنا الكريم، وتشويه جلي للإسلام ومقاصد الإسلام، وربما فيه طعن للقرآن الكريم.

(1)

يَعتقد كثيرٌ من المسلمين أنّ الزّواج مصدرٌ من مصادر الرّزق، فمن كان فقيرا وأراد أنْ يَغنى فعليه بالزّواج، مستدلين بحديث "تزوّجوا النّساء؛ فإنهن يأتينكم بالمال"، وحديث: "ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ"، "التمسوا الغنى في النكاح"، وحديث:"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه الفاقة، فأمره أن يتزوج"، وحديث: "وقد زوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد إلا إزاره، ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوّجه بتلك المرأة، وجعل صُدَاقها عليه أنْ يُعلِّمَها ما يحفظه من القرآن"، وفي ظل تلك الآثار والأحاديث، يقول الله تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾، والآية، كما يتجلّى لي، لا تحتاج إلى عمق نظر، وإعمال عقل، فهي مُبيّنة بظاهرها، إذ جَعَلت الغِنى مُقدّما على الزّواج وليس العكس، وعلى الذي يريد الزّواج أنْ يُبْعِد عن الحرام حتى يرزقه الله ليتسنى له الزواج.

ولا تتناقض، تلك الآية، مع قوله تعالى: ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، وهي آية يُستدلّ بها على أنَّ الزّواج يسبب الغنى، ولا جرمَ أنّ مقصد الآية، على غير ذلك الفهم، إذ إن الآية تتحدث عن أنْ لا يكون فقر المطلوب سببا في رفضه للزواج، إذا كان الطّالب غنيّا من القادرين ماديّا على الزّواج. وثمّة قولٌ لطيف لابن القيم رحمه الله حولها، إذ يقول: إنّ هذه الآية: ﴿إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ ليست وعداً بالغنى لكل أحد تزوج، وإنما هي وعد لمن ذُكِروا في الآية فقط، وهم: الأيامى أي؛ النّساء، والعبيد والإماء، فهؤلاء هم الذين يحصل لهم الغنى، أما النّساء والإماء فيحصل لهن الغنى بنفقة أزواجهن عليهن، وأما العبد فيغنيه الله إما بالعمل والكسب، وإما بإنفاق سيده عليه".

زِدْ على تلك الفهوم غير الصّحيحة، أنّ الكثير من الثقافات الفاسدة حول الزواج مرتبط بالبلوغ فقط، من منطلق (زوِّج الولد بعقل)، أو (زوِّجه وارتاح من شرِّه)، وقد يكون هذا (الولد) من أرباب الأسبقيات أو من الفاسدين أخلاقيا وسلوكيا وفكريا، أو من الذين لا يعرفون معنى للمسؤولية أو الأبوة، فيُظلَم ويَظْلِم، من سوء فهمنا وتخلف مجتمعاتنا.

ولا يَخفى على أحد حجم الكوارث التي تشهدها مجتمعاتنا بسبب ذلك الفهم الفاسد للنصوص السابقة نظريا وتطبيقيا، كالطّلاق والتّفكك الأسريّ والإهمال التّربويّ والتّعليمي والصحيّ، والانتهاك الواضح لحقوقِ الأطفال بِرَمْيهم في سوق العمل من أجلِ قُوتِهم وقُوتِ أُسَرِهم. وهذا التّفكير الفاسد، والواقع الأفسد، في نظري، هو أكبر داعم وأعظمُ مبرر للدّاعمين لقانون حماية الطّفل (الأممي). القانون الّذي سيقضي على آخر ما تبقى من فَضيلةٍ.

(2)

يشيع عند كثير من النّاس المتدين منهم وغير المتدين كمفهوم خاطِئ، وتطبيقٍ فاسد، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾،وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِىٓ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ﴾، فشاع عندهم الإسراف بطريقة، لم يشهد لها التّاريخُ في الطّعام والشّراب، سواء أكان في بطونهم أو في مَزابِلهم، فَفَشَت فيهم السّمنة والتّخمة والأمراضُ والخمولُ والكسل وغير ذلك، بل مَنْ منهم يتقرب إلى الله بكثرةِ الأكل والشّرب، وتناسوا قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين﴾، والأخطر من السّمنة والأمراض في الإسراف من الأكل والشرب، هو تحول الطّعام والشّراب من حاجة وضرورة كوسيلة للبقاء على قَيْد الحياة، إلى وسيلةٍ الغَرض منها اللذّة والمُتعة، وأنْ يصبح الطّعامُ غاية في حَدّ ذاته، الطعام من أجل الطّعام، بمعنى آخر، هو أنْ يتحول الطّعامُ والشّراب إلى مَعرفة ونمط تفكير، وهذا بلا شكّ أمر خطير جدا، لأنّه، ساعتئذ، ستظهر علامات الانحراف السّلوكي والنّفسيّ تُجاه الطعام ونظرتنا للطعام، مثل استضافة الولائم الفاخرة والبوفيهات المفتوحة التي تستمر لساعات طويلة بمثابة استعراض للثروة والمكانة في المجتمع، والذي سينتهي بأكثر الطعام في سَلَّات القُمامة، ثم أصبحنا نشاهد البرامج والمسابقات والمؤلفات والكتب و وارتباطه بالطبقيّة البشريّة، ووضعوا له قوانين وأنظمه لأكل الطعام وشرب الشراب، فيما يُعْرف بالإتكيت، ولكل طعام أو شراب إناءٌ وطبقٌ مخصص أو كوب معين، ولكل نوع مِلعقته الخاصة وسكينته وشوكته، ولا غرابة في ذلك، لأنَّ مَبعث هذا الاهتمام والتَّطور لمنظومةِ الطّعام، مرجعها أيديولوجيّ ماديّ شهوانيّ، الأيديولوجيا المرتبطة بفكرة اللذّة، وزيادة اللذّة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، متجاوزين كلّ الأبعاد الإنسانيّة والأخلاقيّة في ذلك.

وقد يظهر كما كان يُعرف زمن الإمبراطورية الرّومانيّة بظاهرة (vomitorium) وهي عادة غريبة وقذرة جدا، وهي"التقيؤ بين الوجبات"، لإفساح المجال في المعدة لمزيد من الطعام، وكان الرّومان القدماء من المترفين والأثرياء أتباع المُتعة والسّعي وراء ملذات الحياة.

وإنّ ذلك كلّه ليجيز لنا القول بأنّ الإسراف والبَطر والتبذير قد يكون سببا للهلاك والدّمار، كعذابٍ ربانيّ على سوء معيشتنا وحياتنا ونظرتنا للحياة والوجود، يقول تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾.

(3)

لا أعرف حقيقة مصدر إيمان كثير من المسلمين بأنَّ تحديد النّسل حرام شرعا، فلا يوجد دليل يُصَرِّح أو يُلَمِّح إلى تحريم تحديدِ النّسل، لا في القرآن الكريم، ولا في الأحاديث الشّريفة ولا أقوال أئمة المذاهب الإسلامية في ما أزعم، والأسوأ من ذلك، اعتقادهم بأنّ التّكاثر المَقصود بالحديث المُتداول "تزَوَّجوا الوَدود الولودَ، فإنّي مُكاثر بكم الأنبياء يومَ القيامة" هو تكاثر عدديّ؛ أيْ كمي لا نوعي، فانعكس ذلك على الجانب الاقتصاديّ والتربويّ، فامتلأت شوارعنا بالأطفال ليلا ونهارا، وأصبح الشّارع هو المُربيّ والرّاعيّ الحقيقيّ للأطفال، فساءت سلوكاتهم، وشاعت بينهم الألفاظ البذيئة، وشتم الذّات الإلهيّة، وإيذاء النّاس، والتّخريب و الإزعاج. ولا يخفى على قارئ القرآن، أنْ يلحظ ببساطة، أنّ الكثرة لم ترد في القرآن إلا في سياق الذم،يقول تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾،و﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾، و﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾، ولم تَرِدْ القِلّة إلا في سياق المدح والثناء، يقول تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ﴾، و﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾، و﴿وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾، و﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، ولا يٌفهم من هذا أنّ معيار الصّواب والخَطأ هو العَدد، بل هي إشارة لطيفة لإبطال الاستدلالبالكثرة أو الإجماع أو الأغلبية على صِحة الشّيء.

ولا بدَّ من التنويه، في ما أراه، إلى إعادة النّظر في نسبة الحديث السابق "تزَوَّجوا الوَدود الولودَ..." إلى رسول الله،إذ إنّه يُصرّح بدعوة جاهلية مَقِيتة، وهي العَصبيّة والتَّفاخر، وقد وصفها الرّسول الكريم في حديث آخر بالنَّتِنة، في قوله: "دعوها فإنها منْتِنة".

وهكذا، فالإنجاب والتكاثر بطريقة غير منضبطة، وفي إطار الفساد المالي والترفيهي والتعليمي والتربوي والصّحيّ، وفي ظلّ ذاك الفَهْم الفاسد، حتما، سَنُنْتِج مجتمعا كمجتمعِ تجربة(الكون 25)، والحقّ، أنّ نتائج تلك التجربة الخطيرة بدأت تظهر في كثير من مجتمعاتنا العربية.

إنّ تلك التّجربة من أكثر التّجارب المُخيفة في تاريخ العِلمِ، وجاءت كمحاولة من علماء النّفس والاجتماع لتحليل سلوك المجتمعات البشريّة استنادا إلى تحليل سلوك مستعمرة فئران، فلقد قام جون بي. كالهون وهو عَالِم نفس وباحث سلوكي أمريكي اشتهر بدراساته حول كثافة السّكان وأثرها على السّلوك، عَبْر سلسلة تجارب عن الاكتظاظ السّكانيّ أُجْرِيت على الفئران البنيّة بين عامي 1958 و1962 أجْلَ وصف أثر الاكتظاظ السّكانيّ في السّلوك والأخلاق.

 وهكذا، فقد ابتكرَ كالهون وباحثوه سلسلة من "يوتوبيات الفئران"أو "جنة الفئران"، وهي مساحات مغلقة حيث تُمْنَح الفئران وصولًا غير محدود إلى الطعام والماء، مما مكَّن من النّمو السُّكانيّ غير المُقيد فضلاً عن مساحة معيشة كبيرة.

في بداية التجربة، وضع كالهون أربعة أزواج فقط من الفئران التي بدأت في التكاثر خلال وقت قصير، مما أدى إلى نمو أعدادها بسرعة، ولكن بعد 315 يومًا، بدأ تكاثرها ينخفض بشكل ملحوظ، وعندما وصل عدد الفئران إلى 600، تم تشكيل تسلسل هرمي بينها ثم ظهر ما يسمى بـــ"البائسين والمسحوقين"، حيث بدأت الفئران الأكبر في مهاجمة المجموعة، مما أدَّى إلى أنّ العديدَ من الذّكور بدأوا في "الانهيار" نفسياً؛ ونتيجة لذلك، لم تحمِ الإناث أنفسها، وأصبحت بدورها عدوانيات تجاه صغارها.

ومع مرور الوقت، أظهرت الإناث المزيد من السّلوك العدوانيّ، وعناصر العزلة وانعدام المِزاج الإنجابيّ، وكان هناك معدل ولادة منخفض، وفى الوقت نَفْسِه، ارتفع معدّل وفيات الفئران الأصغر سِنَّا، ثم ظهرت فئة جديدة من ذكور الفئران، تُسمّى "الفئران الجميلة"، ولقد رفضوا التزاوج مع الإناث أو "القتال" من أجل مساحتهم، وكل ما كانوا يهتمون به هو الطعام والنّوم، وفى وقت من الأوقات، كان "الذكور الجميلة" و"الإناث المعزولة" تشكل غالبية السّكان، ولوحظ الشذوذ الجنسي بين الفئران المهددة بالانقراض، والعدوانية، وتقلب المزاج، والإهمال، وفى الوقت نفسه، زاد أكل لحوم الفئران، على الرغم من وجود  الطّعام والشّراب بوفرة، وبعد عامين من بدء التجربة، وُلِدَ آخر فأر فِي المُستعمرة، وبعد فَترة قليلة ماتَ آخر فأر فيها.

وحتّى لا نكونَ كمجتمع هذه نِهايَته، لا بدَّ أنْ نَعِيَأنّ سلطةَ المجتمع لا تَقِل مسؤوليتها عن سُلطة القَانون، وحماية بنْيَتها وتركيبِها مِن الانهيار والهَلاك في الدّنيا والآخِرة، وكلا السّلطتين في كِفّة واحدة حينَ يتخلّيان أو يتخلّى أحدُهما عن دوره المَنوط به بِحُجَّة تخلّي الآخر، ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾.

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016