يتبادر إلى ذِهن كلّ قارئ بسيط
للقرآن الكريم، أنَ السّبب وراء طرد إبليس من رحمة الله ولعنِهِ، هو أنَّه رفضَ
أمرا من أوامر الله كِبْرا وغُرورا، وهو السّجود لأدم -عليه السلام-، إذ قال معللا
رفضه للسجود:﴿أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍۢ وَخَلَقْتَهُۥ مِن
طِينٍۢ﴾، أيعقل أن يحدث له ذلك، وبهذا السبب البسيط وقولته العاديّة جدا ؟ وهو
أشد خلق الله إيمانا بالله، وبعظمة الله، وقدرة الله، وعزة الله، وهو المؤمن
العابد الزاهد؛ إذ جعله الله في مرتبة الملائكة لإيمانه وعبادته وإخلاصه وتقواه، فأيّ
تشريف وتكريم لهذا الإبليس! وأيّ مكانة رفيعة لهذا الإبليس! ليستجيب الله دعاءه
فورا ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قَالَ فَإِنَّكَ
مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾.
وفي ضوء ذلك، ماذا فعل هذا
الإبليس؟ لِيُطردَ ويُلعنَ ويُصبحَ مصدرا للشرّ في هذا الوجود، أمعقول هذا؟!
أمعقول أن يُطردَ ويُلعنَ وتُحرم عليه الجنة لأنه قال هذا؟!، أين إيمانه؟ أين
تقواه؟ أين عبادته؟ وأعتقد أنه من البديهي أنَّ الإجابة على تلك الأسئلة لا يحتاج
إلى كثير عناء ولا إعمال عقل، استنادا على فهمنا للدين والإيمان وضمان الجنة، إذا
أسقطنا الحادثة الإبليسيّة على أنفسنا، ساعتئذ، فإنَّما قاله إبليس لا يستحق كل
ذلك، وهو من أهل الجنّة ما دام موحدا عابدا زاهدا، مُستدلين على ذلك، هو ما نسمعه
كلّ يوم، وفي كلّ حدثٍ ربما، ومن أغلب المسلمين في حواراتهم ونقاشهم: "مَنْ
أنت لتكلمني هكذا؟"، "هل تعرف مع مَنْ تتكلم؟"، "أنا ابن فلان،
أنت ابن مَنْ؟"، "أنا ابن العشيرة الفلانية أو القبيلة الفلانية وأنت ما
هو أصلك؟"، " أنا ابن الأكرمين وأنت ابن الأصغرين"، "أنا
الشيخ الفلاني"، "أنا الزعيم الفلاني"، " أنا السيد وأنتم
العبيد"، "أنا أعلم منكم، مَنْ أنتم؟!"، " أنا وأنا وأنا ..."،عبارات
لا تنتهي مما تُحيلك إلى مقولة إبليس "انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من
طين"، وتوظيفهم لها توظيفا جميلا ودقيقا في إطار استراتيجية التّناص الإبليسيّ،
باعتباره كلاما لا قيمة له، ولا وزن له، ولا أثر له على عقيدتهم وعبادتهم،
ويحسبونه هيّنا.
ومن هنا، فقد أسّس إبليس قاعدته
الشّرّية في إفساد الناس وقذفهم معه في جهنم، على قاعدة "أنا لا أنت"، ولا
شكّ أنّ ظاهر هذه العبارة بسيط جدا، فهي لا تحمل شِركا أو كُفرا أو فسقا أو فاحشة؛
إلا أنّها قاعدة الشّرور كلّها، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، لأنها أسست لأرضية طبقيّة متينة، سواء أكانت طبقية خِلقية أو اجتماعية أو اقتصادية أو عرقية
أو قبلية أو لونية أو شرقية أو غربية أو أكاديمية أو مناطقية أو جغرافية أو
ديمغرافية أو وطنية أو مهنية أو دينية أو نوعية أو سياسية، فكلُّ شرٍّ لا بدَّ له
من هذه المرجعية الفاسدة والقذرة، مرجعية الكِبْر على الله-جلّ في علاه- وعلى إرادته
وخَلْقِه وتصرّفِه وتدبرِه ومشيئتِه، وهي قاعدة مرهونة بالعمل والسلوك، إذ إنها
فكرةٌ، ومصداقها السلوك والعمل ونظرة الأنا للآخر.
فلا وجود للأنا الإبليسية إلا
بمظهر سلوكي مع الآخر، كالتسخيف والتحقير والاستهزاء والسخرية والغيبة والنميمة
والتفتين والقتل والذبح والإهانة والحطّ من شأنه، والتسفيه والتعالي عليه والهمز
واللمز والنّهب والسّرقة والظّلم والعدوان والسّبي والاسترقاق والتّسلط والقهر
والتّعذيب، وهذا مما يُلحظ على مستوى الأفراد والجماعات والشعوب والدول؛ أيْ على
مستوى الإنسان مقابل الإنسان، على مستوى نظراء بعضهم بعضا في الخلق.
وصفوة القول، كما يظهر لي، أنَّ
اعتقادَك، صلاتك، صيامَك، زكاتك، حَجَّك، تسبيحك، تهليلك، تكبيرك لله، صلاتك على
رسولنا الحبيب، وغير ذلك من العبادات والشعائر والنُّسك، لن تشفعَ لك، ولو كانت
أعمالك كجبال تهامة، إذا كان سلوكك مع الآخر مَبنيّا على الكراهيّة أو الحسد أو
البُغض أو الكِبْر أو الشّر، ولا يمنع ذلك أنْ تدخلَ جهنم خالدا مُخلدا فيها، كما
حدث مع إبليس الذي لن تصلَ درجة إيمانه واعتقاده وعبادته. وبناء على ذلك، ندرك
حينئذ أهمية وخطورة ما ورد في الحديث الشريف: «لا يدخلُ الجنةَ مَن كان في قلبه
مِثقال ذرةٍ من كِبر».
فإنْ كان ذلك كذلك، فإننا ندرك،لحظتئذٍ،
مجيء آيات الحساب والجزاء مقرونة بالعمل لا بالإيمان-غالبا-، فلم تأتِ آية في
القرآن -تقريبا- تَقْرِن الحساب والجزاء بالإيمان (=المُعْتقد) ما لم يكن في سياق
الإنكار والتكذيب، بل تَقْرِنه بالعمل، يقول تعالى: ﴿أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾،ويقول تعالى:﴿فَكَانَ
عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ
الظَّالِمِين﴾، ويقول تعالى: ﴿ تلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا
كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويقول جلّ وعز:﴿لَهُمْ
دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ ۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويقول جلّ وعز: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ
مِّمَّا عَمِلُوا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾، ويقول جلّ
وعز: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويقول جلّ
وعز: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾،
ويقول جلّ وعز: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم
بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويقول جلّ وعز: ﴿أَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَىٰ نُزُلًا بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويقول جلّ وعز: ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا
يَعْمَلُونَ﴾، ويقول جلّ وعز: ﴿وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ
وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، ويقول
جلّ وعز: ﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، ويقول جلّ وعز: ﴿وَاتَّبِعْ
سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، ولقد جاء في الحديث الشريف: "أتدرون من المفلسُ؟
قالوا: يا رسولَ اللهِ المفلسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ، قال: إنَّ المفلسَ
من أمتي من يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وقد شتم هذا وضرب هذا وأخذ
مالَ هذا فيأخذُ هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن
يقضيَ ما عليه أخذ من سيئاتهم فطُرِحَ عليهِ ثم طُرِحَ في النارِ".
ومِنْ ثمَّ، فإنّنا نَعِي من تلك الآيات أنَّ
معيار الصلاح والنّجاة من النّار والفوز بالجنّة هو العمل الصالح بالدّرجة الأولى،
والإيمان بالدّرحة الثّانية.
وهذا، لا يَعني أنَّ الإيمان لا
يُحاسب عليه المرء، بل هو ركيزة أساسية لكل عمل، إلا أنَّ المشار إليه من هذا
الاقتران الملحوظ والبيِّن بين الجزاء والعمل لا بين الجزاء والإيمان، أنَّ العمل
هو الحَكَمُ على الإيمان وليس العكس، هذه الأولى، والثانية، رُبَّما، أنّ الإيمان
محكومٌ لسلطة غير سلطة العقل من جهة، أو أنّه محكوم بسلطة العقل المحكومة لسلطة
الثقافة والعلم والبيئة والمُعتقد وغير ذلك، وليس محكوما بذاته على النفس والعقل
والإدراك، فالعمل هو أساس التقوى والإيمان، لأنّه، رُبَّما، محكوم بذاته على النفس
الواعية والمُدْرِكة، وهو حَكَمٌ على سلوك الفرد وصلاحه، فبالعمل الصالح تصلح
الأمم والشعوب، وبالعمل الصالح تسود المودة والمحبة والطمأنينة والسلام والرحمة،
وهذا بلا شك غاية الدين وغاية الإسلام، فهذه كلّها مظاهر للعمل الصالح وليس
للإيمان (المعتقد)، على أهمية المعتقد في انعكاسه على النفس طمأنينة واستقرارا
وراحة، حتى لا تنحو بالنفس منحى آخر للإفساد والخراب والفوضى انطلاقا من فساد
الهدف والغاية، كما يظهر جليا عند أغلب الملاحدة واللادينين وكفرة الأديان والملل.
وانعكاسه على الغاية من العمل والسلوك أياً كان.
ولا بدَّ من التوضيح، ها هنا،
حتى لا يذهبنّ بالقارئ الكريم الوَهمُ إلى غير مرادنا ومقصدنا، أنّ الإيمان الحق
بأركانه الستة أساسي في قبول العمل الصالح، وأنَّ العمل مهما كان عظيما، فإنه في
ظلّ غياب الإيمان الحقّ سيصبح هباءً منثورا يوم الحساب، هذا في إطار تَجْلِية
الإيمان الحقيقي لغير المسلم واقتناعه به والتسليم بصحته وأحقيَّته، فَرَفَضَه
إنكارا أو جحودا أو فرحا بما هو عليه، أو تعصبا أو غير ذلك من أسباب أخرى منعته،
قاصدا، من الإيمان. فهذا بلا شكّ لن ينفعَ معه عملٌ صالح إطلاقا، والآيات القرآنية
على ذلك كثيرة.
وإنما عنيتُ من قولي: "أنَّ
العمل هو الحَكَمُ على الإيمان وليس العكس"، كان ذلك في ضوء العمل الفاسد في
ظل وجود المعتقد الصحيح، وفي ضوء العمل الصالح في ظلّ غياب المعتقد الصحيح عند
العامل الصالح، لأسباب حالت بينه وبين التعرُّف على الإسلام بصورته الصحيحة
النقية، كما تجلَّت في القرآن العظيم. فربما -في ما أظن- والله أعلم وأعلى وأعدل، أنَّ
للعامل الصالح من غير المسلمين برهانين في دفاعه عن معتقده الفاسد، الأول: اتكاء
على مولده وبيئته وتربيته وثقافته وتعليمه، ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ
إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ ۚ
إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾. والثاني: اتكاء على تقصير المسلمين في
نشر الإسلام الصحيح النقي، وتعريف الناس به، وذلك بوصفهم شهداء على الناس يوم
القيامة، ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ
عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ﴾.
وهكذا، فكأنَّ الآيات القرآنية
تشير بطريق خفيّ إلى أنَّ العمل الفاسد قد ينسف الإيمان، ولكن العكس غير صحيح
بالمرة، فالأعمال السيئة تنسف الإيمان مهما كان قويا ونقيا ويقينيّا، ولكن العكس
ليس كذلك أيضا، أي أن الإيمان القوي لا ينسف الأعمال السيئة من خراب وفساد وظلم وكِبر.
إرسال تعليق