-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

القمّةُ العالية الأمُّ في رواية طفولتي حتى الآن لإبراهيم نصرالله/ بقلم الشاعر صلاح أبو لاوي

صلاح أبو لاوي
 

"ما فائدة أن أحمل السلاح إذا لم أعرف كيفية استعماله"، بهذه العبارة الرمزية، التي قالها إبراهيم "البطل" لمدرب الأشبال في المعسكر القريب من مخيم الوحدات، أدرك أن المواجهة مع العدو بالكتابة لا تقل أهمية عن المواجهة بالسلاح، تلك الكتابة التي يعرف كيف يستعملها، الكتابة التي حلم بها منذ طفولته الأولى، فصار أحد أهم أعلامها.

كذلك أدركت أمّ إبراهيم أنّ فلسطين تحتاج إلى أبناء متعلمين، متفوقين، مبدعين، حاجتها على مقاتلين، وأنَّ المخيمَ ليس قَدَراً، فحرصت على أن يكمل أبناؤها وبناتها تعليمهم، ودعمت إبداعاتهم، في الواقع والرواية معاً.

"طفولتي حتى الآن" الرواية التي تدور أحداثها في مخيم الوحدات للاجئين الفلسطينيين وترصد حياة المخيم من خلال السيرة غير الذاتية للشاعر الروائي إبراهيم نصرالله يتداخل فيها الخيال بالواقع لدرجة صعوبة التفريق بينهما، والبطولة فيها جماعيةٌ، تنحاز للمرأة بشكل جلي، فالأمّ بطلة، ونور بطلة، والعمة بطلة، وفدوى بطلة، وهالة بطلة، لكن البطولة المطلقة فيها بلا شك ستكون للأمّ كما يتبين لنا من أحداث الرواية.

تبرز بطولة أم إبراهيم، أو القمة العالية، كما أطلق عليها ص220 منذ الكلمات الأولى في الرواية، في الفصل الأول ص 9 حين يبدأ روايته بالقول: "أشرعتُ باب بيتنا، لاحقني صوت أمّي، إلى أين؟".

ويبدو أن إبراهيم "الكاتب" واسمحوا لي في هذه المداخلة أن أميز بين إبراهيم الكاتب وإبراهيم البطل، فالرواية ليست سيرة محضة، بل إنه بقدرته الفنية الفائقة كتب الواقع بحبر الخيال، فأمتعنا ونحن نبحر معه من طفولته الأولى وحتى السابعة التي ظلت مشرعة لأنه لا يحب النهايات.

أقول، يبدو أن إبراهيم الكاتب، حاول جاهداً أن يكون إبراهيم "المكتوب" هو البطل المطلق في الرواية، فكل الشخصيات، على أهميتها تدور في فلكه، بل إنه تعمّد إعطاء الشخصيات المؤثرة مزيداً من القوة والسمو، ليعطي نفسه بالتالي تلك الأهمية التي يستحقهاّ ولكنني أعتقد أنه في لاوعيه، أعني إبراهيم الكاتب، لم يستطع أن يتجاوز أن البطل الحقيقي والمطلق في روايته كانت أمّه، أمّ إبراهيم، فتنازل لها عن ذلك، وأطلق عليها ألقاباً لا تليق إلا بالبطل الأعلى، مثل "القمة العالية، أو وزيرة التربية والتعليم أو وزيرة المالية و خلافه.

وباستثناء زينب في رواية وداعاً يا زكرين لرشاد أبو شاور، وهي أم رشاد بالفعل، فإن الأمّ في الروايات الفلسطينية هي أمّ متخيلة، لكنها جميعاً تحمل ذات الصفات شبه الأسطورية والتي خلقتها المعاناة والتهجير والحاجة، فجعلتها من أعظم أمهات التاريخ لا في الكتابة فحسب بل وفي الواقع أيضاً، ولكن زينب أم رشاد في الرواية لم تكن البطلة كما هي عليه أم إبراهيم في طفولتي حتى الآن، لوفاتها المبكرة ورشاد لم يتجاوز طفولته بعد، بينما أم إبراهيم تعيش حتى الطفولة السادسة، وهي أم حقيقية غير متخيلة، وتقود دفة السفينة وتبحر فيها على الرغم من الأمواج العاتية بحكمة وصبر وحزم، وقدرة استثنائية على التحمل ومنح الأمل تلو الأمل لأبنائها حتى حققوا النجاح الذي كانت وكانوا يحلمون به.

أمّي، التي ربتنا أيتاماً بقليل من الدخل، وحرصتْ على تعليمنا أفضل تعليم، رغم أمّيتها، ولم تسمح لنا بترك المدرسة لأي سبب كان، كانت تشترك مع أم إبراهيم بكثير من الصفات، وهي وأم إبراهيم، تشبهان أم جاسر، في ظلال المفاتيح، ولعلّ كلّ من قرأ الرواية من جيلنا، جيل ما بعد النكبة، سيقول ذات الكلام عن أمّه، لذا فإن إبراهيم نصرالله، كتب قصة جماعية ولم يكتب قصته الخاصة، كتب كلّ المخيمات ولم يكتب مخيم الوحدات فقط، وكتب كل البدايات لشعراء عاشوا ذات التجربة ولم يكتب تجربته الشخصية فحسب.

أقول إنّ كثيراً من الروايات ذكرت الأم الفلسطينية، لكنْ قليل منها أعطاها البطولة المطلقة كما في رواية طفولتي حتى الآن، على الرغم أن الأم واحدة في كل الأعمال، فهي المحرّض على المقاومة، وهي لسان البلاد الفصيح، وهي وزيرة التربية، والمالية، وهي الداعمة للرجل في صموده واحتماله، انتظاراً ليومٍ طال كثيراً، يوم العودة، وهي العبّ الذي كلما مدت فيه يدها، يسيل نقوداً كما يسيل حناناً كل مساء أثناء الحكايات، وهي الحضن الدافئ، وهي الصارمة في عقابها، وهي المدافعة الشرسة عن أبنائها، حتى أمام المعلمين في المدرسة لو أساؤوا لهم، وهي الصادقة التي تعلّم أبناءها الصدق مهما كان الموقف، وأمّ إبراهيم كانت صادقة حتى مع الجنين في بطنها:

"يجب أن يعتاد الجنين في بطني على قول الصدق" ص231"

وهي الحكيمة: " لقد لخّصتْ أمي شيئاً كان علي أن أعيش طويلاً لأقرأ عنه وأفهمه: الرمزيّة" ص230"

وهي الأم الخبيرة: " ابن بطني بِعرف رطني، وبَعرف رطنه ص286" وهي خبيرة بأبنائها وخبيرة بالحياة والحريصة على مستقبلهم، فلم يكن من السهل أبداً أن يحاول الولد خداع أمّه بأي أمر، أو الكذب عليها، فهي تكشفه في الحال.

وهي الحنونة الرقيقة التي تهطل دمعتها لأقل الأسباب رغم جبروتها الظاهر، فهي تبكي عند سماعها أغنية عبد الحليم حافظ، أيّ دمعة حزن لا لا، وتقول: " كأنه بيغني عنا وعن مصايبنا" ص296".

وهي الحريصة المدبرة، التي ما أن يحتاج الأب، أو الأبناء، حتى تكون قد ادخرتْ لهم ما يحتاجونه، دون علمهم، ومن مصروف البيت القليل: " برموش عينيها جمعت ثمن البيت، وفي اللحظة التي قال أبي: من أين لنا المال الكافي لشراء بيتٍ أكبر؟ أخرجت ما ادخرت من مصروف وقالت: تفضل" ص364.

أما الموقف الأكثر ألماً الذي مرّت به الأم، أمّ إبراهيم، فهو عندما أنهى الثانوية العامة بمعدل جيد جدا يؤهله لدخول أيّ جامعة، وكانت قد وعدته بتدريسه، لكنها بمشهد درامي حزين، أحسن إبراهيم الكاتب تصويره ونقل مشاعر اللوعة فيه، فإنها تجمع أوراق الدالية في حجرها وتقول له هذا كل ما أملك ص382، فيستاء إبراهيم "البطل"، وتنغلق الجهات في وجهه على اتساعها، لكنني كقارئ لم أتعاطف معه مطلقاً، بل سقطتْ دمعتي إشفاقاً عليها، وأكبرتُ فيها ذلك، فلو أخبرته منذ البداية أنها لا تملك المال لتعليمه، فإنها ستحطمه، وقد لا ينجح في التوجيهي أصلاً، لذلك كانت كذبتها البيضاء تلك سبباً ودافعاً لنجاحه بتفوٌّق.

وهي الأمّ المتفهمة لأبنائها الواثقة، فحين زارت هالة، الحبيبة الثانية، إبراهيم في البيت وهو نائم، أدخلتها إلى غرفته، وسألتهما عما يرغبان بشربه ص441.

وهي الأم غير المتعصبة لدين على آخر، فحين سقطتْ سلسلة الصليب من صدر هالة إلى خارج قميصها، يقول إبراهيم البطل: " انتفض قلبي،أدركت أمي ذلك، فالتفتتْ إليّ : ألا يذكرك ذلك بصليب عمتك رحمها الله" ص442.

وهو الذي يقول في الصفحة التالية: " في تلك الزيارة المفاجئة، ستثبتُ أمي أنها تتجاوزني بمراحل كثيرة، أنا الذي كنت أظن أنها لو علمت بعلاقتي بهالة، ستطردني".

وهي العاقلة التي تضبط نفسها تماماً حين يتطلب الأمر ذلك، فهي تروي لإبراهيم أنها لاحظتْ صمتاً هائلاً في البيتْ، وحين خرجتْ لتعرف سببه، وجدت الأبناء يتحلقون حول محمد وهو يرسم ويبكي، فلم تقطع بكاءه خشية أن يتوقف عن الرسم" ص447.

وهي الراعي الأول للأبناء فقد افتتحت المعرض الشخصي الأول لابنها محمد، في تجربة لم تحدث من قبل، كما كتب ذلك المرحوم الصحفي والقاص محمد طمّليه في جريدة صوت الشعب، ص450.

وفي هذا يقول إبراهيم: " في ذلك اليوم، قطعت عائشة (أم إبراهيم) خطوة جديدة في مسيرتها المهنية، فبعد أن كانت، لزمن طويل، وزيرة للتربية والتعليم،ووزيرة للمالية، صعدتْ جبل اللويبدة أمّاً محبة أنجبتْ أربع بنات وسبعة أولاد، وهبطته أميرة، بل ملكة"ص452.

وكوصايا الحكماء الذين نقرأ وصاياهم في الكتب، توصي ولدها الكبير، إبراهيم، وهو يهمّ بالسفر إلى السعودية، ليعمل هناك: " أنت مسافر الآن، لن تستطيع العيش هناك إنْ تركتَ خلفك أحلاماً أنت تعرف أنها لن تكون في انتظارك حين تعود". ص453

أخيراً فإن المرأة الفلسطينية التي حضرت إلى توقيع إبراهيم نصرالله، لروايته "طفولتي حتى الآن" في دار الأهلية وسط عمان، مرتدية الثوب الفلسطيني القديم وبالكاد تمشي لكبر سنّها، قد أعادت لذهني الحكاية كلها عن الأم الفلسطينية العظيمة.

 

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016