الكاتب والناقد/ ناهـض زقـوت
بعد أن يصل الإنسان إلى مرحلة متقدمة في
العمر، يبدأ في التفكير في التجارب التي خاضها في حياته، والإنجازات التي
حققها، والصعوبات وقسوة الحياة التي واجهها، والمشاهدات التي خزنتها ذاكرته،
والرؤى والأفكار التي شكلها طوال السنوات الماضية، عندئذ يصاب بحالة من القلق
والخوف والشعور بالأزمة الوجودية في أن العمر يمضي، والذاكرة توهن، وقد تمضي مع
العمر، فيقف حائراً أمام سؤال الحياة: كيف نستمر ونصل إلى الخلود؟. إذن هي الكتابة
وتسجيل مخزون الذاكرة لكي تقرأ الأجيال القادمة تلك التجارب
والإنجازات والصعوبات والمشاهدات، عندئذ تحقق الذات خلودها واستمرارها.
هذا ما يسعى إليه كاتب سيرته الذاتية أو
مذكراته الشخصية أو يومياته الحياتية، أن يتخفف أولاً من ثقل التجارب التي خاض
غمارها بنقلها من داخل نفسه إلى خارجها، وثانياً يعرض خبراته على الآخرين بغية
مشاركتهم له فيها، ومد جسور بينه وبين الأجيال القادمة. وموضوع المذكرات أو السيرة
هو إدراك الذات الواعية في إبراز تجربة فردية من خلال أدوار عديدة مركزة على موضوع
محدد نعده القضية الأهم في قصة حياة كاتبها، لذلك تأتي مكانة الذات في التجربة
المكتوبة بنوع من تمجيد الذات التي حققت نجاحات وقاومت كل الصعاب، وهذا ليس عيباً،
حينما يضع الكاتب تجربته في موضعها المناسب من وجهة نظره من نسيج الحياة في
مجتمعه. لهذا فالسيرة الذاتية أو المذكرات ليست مجرد تسجيل حوادث وأخبار، وليست أيضاً
مجرد سرد حكي عن الذات لأعمال الكاتب وآثاره، ولكنها الشكل الفني الذي يتخذه
الكاتب في هذا الحكي حين ينتقي ويوازن ويختار على النحو الذي يصور كل ذلك في عمل
أدبي يترك أثره المنشود لدى المتلقي.
عتبة العنوان .. وانعكاس الذات:
"مرايا الموج" تجربة أدبية جديدة
للكاتب الدكتور محمد بكر البوجي أستاذ الأدب والنقد الأسبق في جامعة الأزهر بغزة،
الذي عودنا على نشر الدراسات الأدبية والنقدية والتراثية، ولكن في رحلة ما بعد
الستين قرأنا له رواية "ملائكة في غزة" (القاهرة 2021م)، وها نحن أمام
عمل جديد بعنوان "مرايا الموج" الصادر عن دار تجوال للنشر، غزة 2022م.
وقد حمل العنوان هموم الكاتب وانعكاس الواقع على ذاته، حيث أن العنوان يمثل
انعكاساً واضحاً لكثير من ملامح الكاتب وتفكيره، ويمتاز هذا العنوان بقدرته
الرائعة على اعطاء العديد من الإيحاءات انطلاقاً من متن الكتاب.
في رأينا أن هذا العنوان جاء منسجماً من
تجربة الكاتب، حينما ينظر الإنسان إلى الماء يرى انعكاس صورته، فيشعر أن الماء
الذي يمثل الحياة هو المرآة التي يرى فيها ذاته، ولكن ماء البحر لا يعرف الثبوت،
فالماء لا يجري فيه مرتين، وتلك هي سنة الحياة التي تجري دون ثبات وفي تغيير مستمر،
وهذا ما تمثله حياة الكاتب نفسه، ولكن ثمة حياة أخرى يرتبط بها برباط مقدس، فمرايا
اللاجئين، وهو منهم، ليست كمرايا الآخرين، وموج البحر هو اللاجئ الفلسطيني الذي ما
زال مشرداً من وطنه، وما زالت صورته عالقة على مياه البحر، ومهما تجددت مياهه،
ومهما تبدلت أمواجه، فما زالت حياته مع كل موجة مرآة عاكسة لصورته، فحياته تشكلت
مع المرايا وعلى ظهر الموج، فكانت مرايا الموج هي الذات المنعكسة على موجات البحر
في مخيم الشاطئ، تلك المرايا التي ما زالت تحمل نبض الروح، ونبض الحياة، ونبض
المصير، ونبض التاريخ، ونبض الجغرافيا، ونبض المكان، ونبض الوطن المسلوب، مازال
البحر يحمل الصورة مع كل موجة يطوف بها أرجاء العالم ليقول هذه صورة اللاجئ
الفلسطيني الذي يحلم بالعودة، وما زالت مرايا روحه عالقة على صفحة الماء بانتظار
تحقيق الحلم.
يقول: جاء رذاذ الذاكرة على شكل دفاتر
مدرسية فيها طفولتي وفوضاي، يتشكل كل دفتر من ورق، وكل ورقة فيها ظلال موج ذاكرة
تؤلمني حين أتذكرها لحظة النوم، قاسية جبارة، صنعتها دول كبرى من كل أنحاء العالم،
كلهم شاركوا في بعثرة حياتي".
وقد أضاف الكاتب إلى العنوان ميثاق الكتاب
أو تجنيسه وهو "مذكرات رواية" أي أن الكتاب يحكي مذكرات بأسلوب الرواية،
ولكنه ليس رواية، وهنا كان من الخطأ أن وضع على الغلاف كلمة رواية، فحين يغوص
القارئ في متن الكتاب يكتشف أنه يحكي مذكرات وتجربة ذاتية، إن ما يتحدث عنه حقيقة
وليس خيال، لأن الحد الفاصل بين الرواية والسيرة هو الخيال، حيث نجده في الرواية
مطلق ويستطيع المؤلف أن يوظفه كما يشاء، أما في السيرة فالخيال مقيد إذ أن المؤلف
مهما أراد أن يسترسل في الخيال، إلا أنه يصطدم بالواقع الذي يرغب في تقديمه
للآخرين لأسباب عدة، قد نكون أشرنا إليها مسبقاً، وهي رغبته في نقل تجربته للأخرين
حتى تتم الاستفادة منها أو من أجل تخفيف العبء عن كاهله.
يقول الدكتور يحيى عبد الدايم في كتابه
(الترجمة الذاتية في الأدب العربي): "إن الكاتب حين يعلن بأنه يكتب سيرته
الذاتية في قالب روائي، فإنه يزيل اللبس عند القارئ، ويتلقاها على أنها التاريخ
الحقيقي لكاتبها، وعندما يكشف الكاتب عن غايته على هذا النحو، فإن ذلك يعد الحد
الفاصل المميز بين الرواية الفنية الخالصة وبين السيرة الذاتية المصوغة في قالب
روائي، حيث استعار كاتبها تكنيك الرواية دون أن يجمح به الخيال بمعزل عن نقل
الحقيقة المصورة لواقع تاريخه الشخصي، إذ لا بد للمترجم لذاته الذي يختار القالب
الروائي أن يلتزم الحقيقة التاريخية في كل جزء من أجزاء تلك الترجمة رغم استعانته
بعناصر من الفن الروائي".
البناء ودلالات السرد:
لقد أدرك الكاتب مراده من هذا الكتاب، وكيف
لا وهو أستاذ الأدب والنقد، ويعرف متى تكتب التجربة الذاتية؟ ولماذا تكتب؟. لذلك
صاغ في مقدمة الكتاب منهجه في الكتابة. يقول عن دوافعه في الكتابة: "قبل
الرحيل في نهاية العمر تنضج التجربة إذا كان صاحبها يعيش حالة وعي مصيري لما حوله،
وحتى لا تضيع التجربة هباء ينبغي توثيقها، قد يستفيد منها شخص ما في زمن ما".
بهذا يؤكد أن كاتب التجربة يجب أن يكون لديه تجربة وقد نضجت وحان قطافها، والكاتب
البوجي يمتلك تجربة حقيقية، فهي تجربة الفلسطيني الذي تفتحت عيناه لاجئاً في
مخيمات اللجوء والبؤس والتشرد، فقدم هذه التجربة للأجيال القادمة لكي تدرك
المعاناة الكبيرة التي عاناها الآباء في بدايات حياتهم، فجاءت تجربته الذاتية غير
معبرة فقط عن الذات بل عن مجموع الشعب الفلسطيني، يقول: "لا أكتب عن تجربتي
الشخصية فحسب، بل أكتب عن تجربة شعب يكاد يعيش أقسى تجربة بشرية في القرن العشرين
وما بعده، منذ مائة عام وهو في حالة حرب ونضال وعناد وضياع وتشتت".
ولم يتوقف سرد التجربة عند ذاكرة المخيم،
بل امتدت لتشمل سنوات لاحقة من حياة كاتبها، كنوع من التأريخ للفترة التي يتحدث
عنها. يقول احسان عباس في (فن السيرة): "كلما كانت السيرة تعرض للفرد في نطاق
المجتمع، وأعماله متصلة بالأحداث العامة، أو منعكسة منها، أو متأثرة بها، فإن
السيرة في هذا الوضع تحقق غاية تاريخية". وقد أدرك الكاتب البوجي أن ثمة
تاريخاً في كتابه فقال: أنا "هنا لست مؤرخاً، إنما أعكس أحداثاً تاريخية على
مسيرتي، قد تكون حادثة صغيرة عند البعض لكنها كبيرة في رمزيتها عندي".
لقد امتاز كتاب "مرايا الموج"
بالاستناد ليس فقط على التاريخ بل على الأخذ من بعض عناصر التقنيات الفنية من
الفنون النثرية الأخرى، مما ساعد كاتب السيرة على التعبير عن المادة المختزنة في
ذاكرته، فنجده ينوع في السرد ما بين التاريخ والقصة والقصيدة، فجاء السرد منسجماً
مع رؤية الكاتب في الابتعاد عن الرتابة والأسلوب التقليدي في الكتابة، يقول: "حاولت
جاهداً ألا أكون تقليدياً في كتابة جزء من تجربتي، استخدمت أكثر من أسلوب، منها
السرد التقليدي، ومنها الأدب القصصي، ومنها الحوارات، ومنها الصحفي، أحب دوماً أن
أكون مغايراً، إرضاء لذاتي".
يأتي سرد المذكرات أو التجربة بضمير الأنا
المتكلم هذا الضمير الذي يحيل إلى الذات أكثر من ضمير الغائب الذي يحيل إلى
الموضوع، وإن تقاطع السرد أحياناً مع ضمير الغائب، ومع الحوار الذي جاء معبراً عن
المستويات الثقافية للشخصيات المتحاورة، كما يعطي الشخصيات المتحدثة الحرية
المطلقة في التعبير عن ذاتها وآرائها، ولكن يبقى ضمير الأنا هو المهيمن فهو ضمير
السرد المناجاتي القائم على المنولوج الداخلي الذي يستطيع التوغل إلى أعماق النفس
البشرية.
يلجأ الكاتب أحياناً إلى تقنية التكرار
ليؤكد على بعض القضايا التي يريد توصيلها للقارئ، ويخشى من أن يكون قد مر عليها
سريعاً في أثناء كتابتها ولم يوضحها للقارئ كفاية. مثلاً حينما يكرر قصة هروبه من
جيش الاحتلال ودخول الجيش بيتهم وتحطيم مكتبته وبعثرتها، وقد كرر هذا الحدث
بإضافات تفصيلية.
يعتمد كثير من كتاب السيرة أو المذكرات على
عدم الالتزام بالترتيب الزمني في سردهم، وهذا لا يعني ضعفاً في كتابة السيرة، فليس
ثمة قاعدة للكتابة، والكثير من تجارب السير والمذكرات استفادت من التجديد في كتابة
السيرة. وهذا ما نجده واضحاً في كتاب "مرايا الموج" فلم يضع الكاتب خطة
عمل لهذا الكتاب، إنما كتبه بما يأتي على الذاكرة تحت عناوين اختارها ليكتب بما
يتوافق مع ما جاء في ذاكرته، لذا جاء ترتيب الأحداث غير متسلسل زمنياً أو يسير وفق
تسلسل تاريخي ينسجم مع مسيرة الكاتب على اعتبار أن ما يكتبه هو مذكرات. ويعترف
الكاتب بعشوائيته وفوضاه في الكتابة يقول: "طبيعتي وسجيتي أنني أكره الترتيب
والنظام، أحب الفوضى، أحب التمرد والفوضى بكل شيء، ... لهذا جئتكم بأوراق مبعثرة
متناثرة تنثال من الذاكرة، لا أحب ترتيبها كما يكتب معظم الكتاب".
وقد اتخذ الكاتب من مخزون ثقافته في
الاستناد إلى الأدب الفلسطيني في التأكيد على الحدث، كنوع من ربط الأدب بالواقع،
بمعنى أن الأدب واكب أحداث الواقع الفلسطيني وعبر عنه بكل تجلياته وقضاياه التي
ارتبطت بحياة الناس. نجده في الحديث عن صرة المؤن يشير إلى قصة الكاتب عمر حمش عن
هذه الصرة، وفي تذكار سنة الثلجة وسيول الأمطار يأتي بقصيدة الشاعر معين بسيسو
التي وصف تلك الأجواء والسيول، وفي حديثه عن قرية يبنا يشير إلى كتابه عن القرية
والخريطة التي أعدها للقرية من ذاكرة كبار السن، وعند تناول حصار مخيم الشاطئ
الطويل في أوائل السبعينات يحيل القارئ إلى رواية "الطوق" للكاتب غريب
عسقلاني التي تروي أحداث هذه المرحلة، وفي حديثه عن الانتفاضة الكبرى عام 1987
يستشهد بمجموعة زكي العيلة القصصية "حيطان من دم".
ويضاف إلى قصص ينسجها من ذاكرة المخيم،
مثل: قصة القبقاب، وقصة عبد القادر، وقصة أبو الأرواح، وقصة الرجل الفحل المتزوج
من أربعة نساء منقبات على شاطئ البحر، وقصة صورة المصور الذي يجد زوجته نقطة سوداء
في صورة صورها، وحفيدته وقصة المطر، وكذلك يضمن السرد قصيدة نزار قباني عن موت آخر
الأنبياء/ جمال عبد الناصر، وقصيدة حب لفلسطين لشاعر بحريني.
الذات بين الذاكرة وصدمة الوعي:
كتاب "مرايا الموج" هو كتاب سيرة
ذاتية أو مذكرات في قالب روائي، كما جنسها الكاتب بنفسه، سجل فيه تجربته الشخصية
التي هي انعكاس لتجربة الشعب الفلسطيني، منذ تاريخ الميلاد إلى سن التقاعد من
الحياة العملية، ثم الخروج من الوطن ليرسم ملامح الرحلة وليس الهجرة، ففي رحلة
القاهرة يستعيد الذكريات وتغيرات المكان بعد سنوات طويلة، وفي رحلة تركيا يصف
جماليات المكان دون أن ينسى الوطن العالق في ذاكرته، ويربط بين ما يشاهده وحكاية
الوطن القابع في الظلام.
جاءت "مرايا الموج" بهذا الشكل
المتنوع من الأساليب، وبهذه العشوائية الكتابية، ليشكل بها أسلوباً جديداً في
الكتابة يقتبسه من الدفاتر المدرسية لكي يعود بها إلى طفولته التي ما زالت مبعثرة،
(وثمة تقارب في الشكل مع دفاتر فلسطينية لمعين بسيسو)، ولكن الكاتب هنا عمقها
وأضاف إليها الأوراق المبعثرة، لكي يحاول مع القارئ أن يعيد ترتيب بعثرة هذا
الأوراق.
وقد توزعت عناوين السرد الذاتي على ثمانية
دفاتر، وكل دفتر توزع على أوراق حملت معلومة عن مرحلة أو تجربة من حياة الكاتب،
سواء في سيرة المكان أو في تاريخ حدث معين. فحمل الدفتر الأول (النكبة الأولى
والممات) عشرون ورقة، والدفتر الثاني (النكبة الثانية حزيران) ثماني عشرة ورقة،
والدفتر الثالث (إلى قاهرة المعز) ست عشرة ورقة، والدفتر الرابع (الانتفاضة
الكبرى) سبع عشرة ورقة، والدفتر الخامس (الانطلاق والحرية الشخصية) ست عشرة ورقة،
والدفتر السادس (الجالية وتركيا) واحد وعشرون ورقة، والدفتر السابع (آراء وأفكار)
تسع ورقات، والدفتر الثامن (نتائج راقية) واحد وعشرون ورقة. فكان مجموع الورقات
(138) ورقة، أما عدد صفحات الكتاب فكانت (351) صفحة.
ويمكننا اختصار المذكرات أو التجربة، ومن
خلال دفاترها، في خمسة عناوين كانت طاغية في المذكرات إلى حد لا يستطيع القارئ أن
يغفل عنها، لأنها أشد ما تهيمن على الكاتب وتعبر عما يعتمل في داخله من ألم وقلق،
أو فرحة وسعادة. وهي:
ـــ ذاكرة الذات والهجرة والمخيم:
الكاتب هو ابن النكبة ولاجئ المخيم، وكان
ميلاده بعد خمس سنوات من تشريد عائلته من قرية يبنا قضاء الرملة، واستقرارها في
مخيم الشاطئ بقطاع غزة على أمل العودة. وهنا يتحدث عن سقوط قريته واحتلالها، مع
توثيق معالم القرية كما جاءت في كتابه الذي نشره عن قرية يبنا، ثم يعرج على ميلاده
ونشأته في مخيم اللاجئين، ومن خلال ذكريات جدته يستعرض ملامح القرية وزواج والده
من فتاة يافوية هي أمه، وأيضاً من خلال ذاكرة جده محمود يستعيد ذاكرة القرية، ودور
الجيوش العربية في الهزيمة، فهو طفل جمع بين القرية والمدينة في أصوله، فقد كان
متميزاً بشقاوته وتفتحه أكثر من اللازم عن أبناء جيله، ويعطنا ملامحاً من حياة
الطفل الذي كانه والمؤثرات التي أثرت على حياته، وكان أبرزها فيلم جميلة بو حيرد
الذي عرض على شاشة سينما الجلاء، ودراسته للقرآن الكريم على يد شيخ في المخيم، ثم
انتقاله للمدرسة التي كان من أبرز ذكرياتها بخلاف الدراسة، توزيع الحليب وزيت
السمك على الطلاب، وكذلك الطعمة، ويذكر أسماء المدرسين الذين تعلم على أيديهم في
مدرسة المخيم. وتأهيل اللاجئين للعمل في دول الخليج وكان والده واحداً منهم حيث
سافر للعمل في السعودية.
ويعبر عن قسوة الحياة على اللاجئين، ودور وكالة
الغوث في التخفيف من معاناتهم بتوزيع المؤن وصرر الملابس عليهم، وتبرز السخرية من
وسط الألم حين يتناول خلاف اللاجئين حول علب اللحمة التي توزعها الوكالة هل هي
حلال أم حرام، وكذلك الفلافل المخلوط بالحشيش في مقهى أبو العبد، ويتحدث عن مرحلة
بناء مخيم الشاطئ وتوزيع الخيام قبل أن تتحول إلى بيوت من القرميد، وفي غمرة
الحديث عن المخيم لا ينسى سنة الثلجة التي سمع عنها أو استمد تفاصيلها من قصيدة
معين بسيسو، فقد كانت قبل ميلاده، ويغوص في ذكريات المخيم ومعاناة الناس حيث كانت
حنفيات المياه خارج البيوت، وكذلك دورات المياه (المراحيض)، ولمبة الكاز، ولعب
الكرة حفاة، وطبلية القراءة.
ويتناول ذكريات العدوان والهزيمة، وجيش
التحرير الفلسطيني الذي تكون في عام 1964، والتحاق أبناء اللاجئين بهذا الجيش على
أمل تحرير وطنهم، والإدارة المصرية ومواقع الجيش المصري، وبناء مدينة النصر التي
أنشأها الرئيس عبد الناصر لأسر الشهداء والفدائيين، وتشكيل مجموعات مصطفى حافظ،
ومظاهرات غزة ضد مشروع التوطين في سيناء، وزيارة عبد الناصر لغزة، والانجازات التي
حققها عبد الناصر للفلسطينيين وعلاقته الخاصة مع أهل غزة، وصدمة أهل غزة بوفاته.
ويتحدث عن شعور اللاجئين إثر حرب 1967 وأن
بعضهم حزم متاعه في انتظار العودة، ولكن بعد الهزيمة، أعادوا متاعهم وشعروا أن
المخيم أصبح هو الوطن البديل.
بعد هزيمة حزيران 67 أصبحت حياة اللاجئين
أكثر قسوة وعنفاً، ويتحدث عن بدايات الاحتلال الإسرائيلي وممارساتهم ضد سكان
المخيم، وتجميع الناس في الميادين أو المدارس، وجمع السلاح، وهروب الفدائيين إلى
الأردن وقد كان منهم أخيه الكبير لأنه كان أحد الفدائيين المطلوبين، وعمليات
المقاومة التي انطلقت من داخل المخيم ومن كل قطاع غزة ضد الاحتلال، وحصار المخيم
لأكثر من شهر، بل حصار القطاع كله وقطعه عن العالم الخارجي.
وبعد أن استقر الاحتلال، ضاقت حياة الناس
واضطروا لبيع مقتنياتهم للعيش، أو العمل في غسيل السمك، ولكن بعد فتح سوق العمل في
السبعينات للعمال داخل الخط الأخضر، تغيرت أحوالهم، وكان من بينهم الكاتب الذي ترك
الدراسة لمدة سنتين للعمل لتوفير مصروف البيت، فقد عمل في عدة مهن وضيعة سواء في
المخيم أو في داخل الخط الأخضر، ثم العودة إلى المدرسة فقد كان حلمه أن يدرس في
مصر. وحينما دخل إلى داخل الخط الأخضر وصل إلى يافا المحتلة بلد أمه، ويصف أحوالهم
وأوضاعهم المعيشية في ظل الاحتلال، ثم حديث عن الصراع الاثني داخل المجتمع الاسرائيلي.
إن سبر أغوار الذاكرة التي تمتد على فضاء
زمني ما يزيد عن ستين عاماً، تحتاج إلى مجلدات وليس وريقات، فهي كثيرة وعميقة فكل
مرحلة من مراحل حياة المخيم تحتاج إلى كتاب إذا استند إلى الذاكرة، ولكن الكاتب
استطاع بالتكثيف وغياب الوصف أن يختزن ذاكرة المخيم بالتزاوج ما بين الذات
والمجموع، قد تشعر بوجود الذات ولكنها ممتزجة بالمجموع، فهو ابن هذا الواقع، وما
عاشه فقد عاشه الكثير من أبناء جيله، ولكن الأجيال الجديدة التي لم تعش بدايات
النكبة والمخيم فلم تعرف هذه الحياة بقسوتها ومعاناتها، لذلك كان شديد الحرص على
تناول تفاصيل التفاصيل من حياة المخيم، لكأن القارئ ابن جيل الثمانينات والتسعينات
يشعر كأنه عاش هذه المرحلة.
ـــ مأساة غزة .. معاناة متواصلة:
إذا كان مخيم الشاطئ هو المنطلق المكاني
للكاتب، إلا أنه يغوص في مجمل مساحة قطاع غزة، معبراً عن أحداثه وذكرياته، ويخصص
دفتراً لتناول الانتفاضة الكبرى التي اندلعت في القطاع عام 1987، التي غيرت مسار
حياة الشعب الفلسطيني. يبدأ الحديث عن الأسباب التي أدت إلى اندلاع الانتفاضة،
ومشاركة القوى الوطنية ومن ثم الإسلامية فيها، وانتقاد سلوك الجماعات
الإسلامية، واستغلال معاناة الناس، ويستمر في الحديث عن الانتفاضة وتداعياتها
وأحوال الناس وأوضاعهم، وممارسات جنود الاحتلال ضد الناس حتى توقيع اتفاق أوسلو
وعودة القيادة الفلسطينية وإقامة السلطة الفلسطينية.
ينتقل للحديث عن حياة الناس بعد الانقلاب
الحمساوي في غزة، ويصف قسوة الحياة، وتأثيرات الانقسام في مجالات الحياة المرتبطة
بسكان قطاع غزة، ويتطرق إلى عدوانات إسرائيل على القطاع وقصف بيوت الناس،
ويسرد قصة تدمير بيت الشاعر الراحل عمر خليل عمر في عدوان 2014 وسرقة تحويشة
العمر. ويبرز تأثيرات الانقسام على شخصه واستدعائه لدى جهاز أمن حماس للتحقيق. وتبرز
السخرية من الحال الذي وصلت إليه غزة في ظل الانقسام من جوع وفقر، حيث يروى حكاية
غريبة عن شباب جاءوا إلي بيته يطالبونه بثمن إقامة ثلاثة أشهر أقامها جده
عندهم عام 48. ويستمر في تسجيل مأساة غزة وحروبها بأن دفعت بعض الأسر في أغرب
عملية تبادل في العالم، أن يتبادوا الأولاد ليلاً خوفا من القصف. كثيرة هي
الحكايات التي يرويها عن وجع غزة.
ويتحدث عن مواقف شخصية من تجربته في العمل
الأكاديمي، واختراق أسر طلابه من خلال مبادرة قراءة الرواية، وعن مشاركته في معرض
الكتاب في رام الله، ورؤيته للوزير الشاب ايهاب بسيسو وزير الثقافة، وزيارة جامعة
النجاح ومقابلته لأصدقائه من الهيئة التدريسية، بالإضافة إلى زيارات شخصية في غزة
لعدد من المعلمين الذين كان لهم دور في مسيرة التعليم في غزة أمثال: ياسين قفه،
وفائق أبو عقلين، وعبد الفتاح حميد.
كثيرة هي الحكايات التي يرويها عن وجع غزة،
حكايات لا تستوعبها تجربة ذاتية واحدة بل تحتاج إلى فريق يعمل لكي يسجل تلك
الحكايات التي أشار إليها الكاتب فهو يسلط الضوء دون التوسع في التفاصيل، ورغم كل
ما تحدث عنه من وجع غزة إلا أن ثمة الكثير الذي لم يقله رغم أنه يعرفه حق المعرفة،
لأنه يكتب مذكرات في قالب روائي، لا مذكرات في قالب تاريخي.
ـــ الرحلة .. والشعور بالحرية:
كان يمكن لنا أن نكتفي بذاكرة الكاتب عن
المخيم ووجع غزة، ولكن ثمة تجربة ذاتية يرويها ويستعيد بها ذكريات منذ أيام دراسته
في القاهرة، تجربة غنية عن معالم اندثرت يحاول أن يستعيدها بنوع من ربط الماضي
بالحاضر. بعد أن درس الكاتب الثانوية الأزهرية في معهد فلسطين الديني بغزة على أمل
الدراسة بالأزهر الشريف في مصر، وفعلاً يسافر ويدرس مدة خمسة أشهر في جامعة حلوان،
وبعدها ينتقل للدراسة في جامعة الأزهر. كانت مصر في ذلك الوقت من السبعينيات تشرف
على الثانوية العامة في غزة، وبقي الحال كذلك إلى قيام السلطة الفلسطينية، ويتحدث
عن دور الصليب الأحمر في نقل طلاب غزة للدراسة في مصر، ويعود بذاكرته إلى سور
الازبكية ودوره في تعزيز ثقافته، والتغيرات التي جرت عليه بعد أن زار القاهرة في
القرن الحادي والعشرين، ويصف مشاهد جنازة أم كلثوم في شوارع القاهرة، ويغوص في
الحديث عن زيارتها لفلسطين واطلاق لقب كوكب الشرق عليها.
ويتناول مرحلة دراسته للماجستير
والدكتوراه، ويعبر عن شغفه آنذاك عن استكمال دراساته، في هذه المرحلة تم اغتيال
الكاتب المصري يوسف السباعي وتأثيرات اغتياله على الفلسطينيين، ودراسته في معهد
جامعة الدول العربية بعد حصوله على منحة، ويستعيد ذكريات سفره إلى السعودية للعمل
معلماً، والحياة في السعودية وأحوالها، وزواجه من ابنة عمه في غزة، وزيارته لليمن،
والحج مع والديه. ثم عودته إلى غزة للعمل محاضراً في الجامعة الإسلامية قبل
انتقاله للعمل في جامعة الأزهر التي ساهم في تأسيسها، ويتحدث عن النشاطات التي قام
بها خلال عمله الأكاديمي والمجتمعي والثقافي، والإنجازات التي حققها، وردود
فعل الكتاب والمثقفين على هذه الإنجازات التي تتوجت بحصوله على جائزة فلسطين
التقديرية للآداب.
وفي رحلة الانطلاق والحرية الشخصية بعد
تقاعده الأكاديمي عام 2018، ينطلق إلى القاهرة لكي يستعيد الذكريات، وتكون رحلته
إلى الأزهر والحسين، وحي الموسكي، وشارع خان الخليلي، وشوارع القاهرة، واتليه
القاهرة، وإذاعة صوت العرب، وزيارة مبنى ماسبيرو، ورحلة في مترو الانفاق،
وحضور معرض الكتاب الدولي، والمشاركة في لقاءات وأمسيات ثقافية، وحضور لقاء التوأمة
بين كتاب فلسطين وكتاب مصر. كثيرة هي التفاصيل والذكريات التي تشعر بالحميمية التي
تنتابه حين يستعيد ماض الأيام، والشعور بالحرية في أجواء القاهرة، والتغيرات التي
حدثت على المكان.
وينطلق من جمال القاهرة، إلى جمال تركيا،
ولكل بلد مذاقه الخاص والمتميز، للمرة الأولى يزور تركيا مما أبهره ما شاهده من
جمال الطبيعة، واحترام القانون، والحرية الشخصية، وزياراته لعدد من جامعات تركيا
ولقاء المسؤولين فيها والمشاركة في ندوات ولقاءات ثقافية، كجامعة أتاتورك، وجامعة
آخي أوران، وجامعة بايزيد، ويصف معالمها وتاريخها وتسميتها.
ويأخذ في وصف جمال الأماكن التي زارها خلال
جولة سياحية لمعالم تركيا، ويعبر بحب وجمالية عن روعة المكان كأنه قطعة من الجنة،
فلم تبق مدينة أو بحيرة أو معالم تاريخي أو قلاع أو مساجد، سواء في القسم الشرقي
أو في القسم الأوروبي من تركيا إلا زاره وتحدث عنه وعن جماليات المكان حيث
الجبال الشاهقة والمساحات الخضراء، والغيوم التي تغطي قمم الجبال وشلالات المياه.
ومن تركيا ينتقل لزيارة ألمانيا، والنرويج، وباريس.
ـــ المقارنة والصدمة الثقافية:
يقولون إن في السفر سبعة فوائد، ولكن
كاتبنا يؤكد أنها أكثر من ذلك بكثير، حينما يعيش الإنسان في حالة حصار ثقافي
وفكري، رغم تعدد وسائل الاعلام التي تنقل لك صورة العالم، إلا أنك لا ترى العالم
على حقيقته إلا إذا سبرت أغواره وعشت بين ظهرانيه. كان كاتبنا يعيش في غزة ورغم
ثقافته واطلاعه الواسع إلا أنه شعر بالصدمة الثقافية حين زار تركيا، فما تقرأه وتسمع
عنه يختلف تماماً عما تشاهده. تركيا بلد إسلامي ويحكمه حزب إسلامي، ولكن
سياسة الدولة وتوجهاتها الدينية لا تتدخل في الحرية الشخصية للشعب، والكل ملتزم
أمام القانون، وتدين بالمذهب الحنفي الذي يخالف المذهب الشافعي، وقد لمس ذلك في
أثناء الصلاة، كما لاحظ طبيعة الناس وتصرفاتهم في رمضان وموقف الدولة التي تسمح
بفتح المحال التجارية والمطاعم ولا تتدخل في عقيدة الناس، كما لمس احترام الناس
لمؤسس تركيا الحديثة مصطفى أتاتورك ولا يسمح القانون بإهانته أو التعدي علي
تماثيله وصوره ويحاسب كل من يخطئ في حقه، وقد اكتشف الكاتب أن كل ما زرعوه في
عقولنا عن أتاتورك مخالف للحقيقة، حيث بدأ هو نفسه في تغيير نظرته إليه. ويصف
عادات وتقاليد الشعب التركي وحياتهم البسيطة والجميلة، وأن كل شيء لديهم مرتب
ومنظم، والحرية الشخصية في اللبس والمأكل والمشروب مصونة أمام القانون.
يأخذ الكاتب في المقارنة بين أوضاع الشعب
التركي في ظل حكومة إسلامية، وأحوال أهل غزة في ظل حكم حركة حماس الإسلامية، الفرق
كبير، ويبرز الفروقات في الرؤية التي تتسربل بالشعور بالمرارة والحزن والألم. في
كل زيارته السياحية كان الوطن حاضراً بكل تجلياته من معاناة وقسوة الحياة، يقول: وأنت
تراقب الناس الهادئة الجميلة تقول يا رب لماذا نحن دون خلق الله، بلاد الله واسعة،
لماذا جاءوا بهم إلينا؟، مناطق شاسعة لا بشر فيها في كل أورباـ تسرح بخيالك وتعود
إلى الأم الوطن، لم يغب عن خاطرك لحظة واحدة، وأنت تقارن وتعصر قلبك حزناً وألماً.
لقد بدأ بالألم وانتهى بالحسرة، كان الكاتب الدكتور محمد بكر البوجي موفقاً في كتابة هذه المذكرات التي تتمتع بحس وقدر كبير من الحميمية الإنسانية، ومن الأحداث والوقائع الشيقة والمشوقة للقارئ، وقد تكون لدى بعض الناس أنه لأول مرة يسمع عنها، لذلك يمكن الاستفادة من تلك المذكرات والحصول منها على الكثير من الدروس الهامة في حياة الإنسان الفلسطيني، حيث أنها تعتمد بشكل كبير على أحداث وقائع حقيقية يدونها الكاتب، بلغة بسيطة وسلسة تصل للقلوب والعقول بكل أريحية، وتفتح الذهن على رؤى متعددة للواقع الفلسطيني.
إرسال تعليق