مما اشتهر على ألسنة المسلمين قديما وحديثا، عند عامتهم وخاصتهم، أنَّ "اختلاف العلماء رحمة"، والمقصود بالعلماء في تلكم المقولة هم الرجال الذين تخصصوا ودرسوا وبحثوا في ما يُطلق عليه (العلوم الشرعية) كالفقه وأصوله، وأصول العقيدة، وعلوم قرآن وحديث وتفسير وغير ذلك مما هو مندرج تحت مظلة العلوم الشرعية، ولا شكَّ أنَّ العلماء عبر العصور والأزمان اختلفوا في جميع القضايا والمباحث والمسائل التي طُرحت أو طرحوها من أصول وفروع.
ولا ريب أنَّ أغلب اختلافهم منذ نشأته صادرٌ عنهم هم، وجعلوا من اختلافهم ووجْهَة نظرهم وزاوية علمهم ومنهجهم نصَّا مقدَّسا (دينا) فرضوه على الناس مما مزقهم إلى مذاهبَ وطوائفَ وفرقٍ وملل وعقائدَ، وتفرقتْ الأمَّةُ الواحدة إلى تلكم المجموعات وإلى مجموعات أصغر وأصغر، مما دفعها إلى تكفير بعضها بعضا أحيانا، وزندقة بعضها بعضا في آحايين كثيرة، ودَفَعَهم هذا الاختلاف إلى الاقتتال والذبح والتمزيق، هذا هو الواقع قديما وحديثا مع الأسف، وهو واقع لا ينكره من كان في قلبه مثقال ذرة من عقل أوعلم أو بصر، وهذه هي الحقيقة المرَّة التي جمَّلوها وزيَّنوها وحلُّوها كذبا وزورا ربما، وربّما جهلا وغباء وخوفا وهو الأغلب طبعا، بقولهم: "اختلاف العلماء رحمة"، فكيف يكون الاختلاف رحمة، والله تعالى يقول: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾، فالرحمة مع الجماعة، مع الوحدة، مع الوئام والاتفاق. وهكذا، فأين هي الرحمة في تمزيق الأمة وتمزيق وحدتها؟ أين هي الرحمة في تعقيد الدِّين وتشويهه على بساطته وسهولته وبيانه، يقول تعالى وغفرَ: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوْمًا لُّدًّا﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر﴾، ويقول عزّ وجل: ﴿كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ﴾، ويقول تعالى وجلّ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَىْءٍۢ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾، ويقول جل وعزّ:﴿وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾، ويقول تعالى ورحم:﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، ويقول عزّ وتعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر﴾َ، وغير ذلك من الآيات البيِّنات التي تبيِّن أن القرآن جليٌّ واضح في التفريق بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، وبين أهل الجنة وأهل النار، وبين المصلح والمفسد، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وهو مبهمٌ غامضٌ معقَّدٌ لمن كان في عقله وقلبه مرض والعياذ بالله، ابتغاءَ الفتنة والفَساد والاستعلاء، يقول تعالى وتجبر: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾.
ويقول تعالى تقدَّست أسماؤه: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
وهكذا، فأين هي الرحمةُ في قتل المسلمين بحجّة التكفير والخروج من الملّة؟ فهذا من المُشَبِّهَة وهذا من المعطّلة، وهذا من المُرجِئة وهذا قَدَريّ وهذا جَبْريّ وهذا معتزليّ وهذا أشعريّ وهذا سَلَفيّ وهذا سُنّيّ وهذا شِيعيٌّ، وهذا قرآنيّ وهذا شاكٌّ وهذا كَذَّابٌ وهذا مُدَلِّس وهذا خبيث وهذا زِنديق وهذا جاهل وهذا دَجَّال، وهذا مَأجور، وهذا عَميل، والحقيقة ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ﴾، ولقد اتخذوا من أنفسهم أربابا من دون الله، فهم يعلمون السرَّ وما يخفى، كيف لا؟! وهم المُوَقِّعِون عن ربّ العالمين، حاشا لله وتعالى علوا كبيرا وعظيما.
فلا غَرْوَ من ذلك، فرجالُ الدّين عَبر التاريخ-إلا ما رحمَ ربي تعالى- هم السببُ وراء إفساد دينِ الله، وإخفاءِ الحقيقة، وتشويهِ الدين، وتجهيلِ الناس واللعبِ بعقولهم وعواطفِهم وغسلِ أدمغتهم، وذلك لتحقيقِ مَنافعهم الماديّة أو السلطويّة من جهة، يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾، ويقول تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، وذلك بسبب بغي الأحبار والرهبان، إذ لم يقوموا بوظيفتهم التي وكِّلوا بها بوصفهم علماءَ بأنْ يدافعوا عن دين الله ببيان الحق للناس، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فانشغلوا بربوبتهم على الناس، ولذة ذلك ظلما وزورا وبهتانا، يقول تعالى: ﴿لَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.
أو لمرض في قلوبهم كالحسد والحقد والكراهية، يقول تعالى: ﴿كانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿ولَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ* وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾.
ومما يُلحظ من الآيات الكريمات السابقات، كما جاء في كتب التفسير، ومما هو ظاهر من نص الآيات الكريمة، أن سببَ الاختلافِ الواقعِ بين النّاس هم الذين جاءَهم العلمُ والبيِّنات الواضِحات، وذلك بسببِ بَغيِهم وحِقدهم وحَسدهم وكراهيتهم تلاعبوا بالحقيقةِ وزوَّروا إرضاءً لمصالحهمِ النّفسيّة والمرضيّة في قلوبِهم، وطلباً للرياساتِ والمُلك، بغياً من بعضهم على بعض، وعداوة على طلب الدنيا، وافترائهم على الله فيما قالوه فيه من الأقوال التي كَثُر بها اختلافُهم بينهم، وتشتتتْ بها كلمتُهُم، وبايَن بها بعضُهم بعضا، حتى استحلَّ بها بعضُهم دماءَ بعضٍ، وكذَب بعضهم بعضا، هكذا هم أغلب رجالِ الدِّين عَبر التاريخ. ولقد عَقَد الحافظ ابن عبدالبر في كتابه "جامع بيان أهل العلم وفضله" بابًا في حُكْم قول العلماء بعضهم في بعض، بدأ فيه بحديث الزبير -رضي اللَّه عنه-: "دبَّ إليكم داء الأمَم قبلكم: الحَسد والبغضاء".
وروى بسندِهِ عن ابنِ عباس -رضي اللَّه عنهما-، أنَّه قال: "استمعوا علم العلماء، ولا تُصدِّقوا بعضَهم على بعضٍ، فوالذي نفسي بِيدِهِ هم أشدّ تغايرًا من التيوس في زروبها".
وعن ابن عبَّاس قال: "خُذوا العلمَ حيثُ وجدتم ولا تقبلوا قولَ الفقهاء بعضهم على بعض فإنَّهم يتغايرون تغاير التُّيوسِ في الزَّريبَة".
وعن مالك بن دينار: "يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض".
وذُكرَ في كتاب "معين الأحكام على القضايا والأحكام" من قول عبدالله بن وهب: أنَّه لا يجوز شهادة القارئ على القارئ، أيْ: العلماء؛ لأنَّهم أشدُّ الناس تَحاسدا وتباغضا.
فكما أنَّ علماء اليهود جاؤوا بالمشناه والجمارا وهي أحاديث وأقوال تنسب لسيدنا موسى -عليه السلام-، بوصفها دينا، وهي مصدر التشريع والتحليل والتحريم عندهم، وتركوا التوراة وراءهم ظهريا ﴿كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرائِيلَ إلّا ما حَرَّمَ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾، ﴿فَمَنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ الكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾، ألا يصدق هذا، أيضا، على من جاء بحلال وحرام من غير القرآن أنْ نقولَ له قل إيتِ بالقرآن فاتله إن كنت من الصادقين.
وجاء رجال الدين المسيحي بالأناجيل الأربعة ونسبوها لعيسى-عليه السلام- وأسسوا من خلالها دينا جديدا جعلوا محوره عيسى -عليه السلام- وجعلوه ابن الله نسبا-تعالى الله عن ذلك علوا عظيما وكبيرا- وجاؤوا بخرافة الصلب والخلاص وغير ذلك، ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾، وما قال لهم هذا وأكثر إلا الذين جاءهم العلم والبينات بغيا بينهم.
ثم بعد هذا كله، وبعد عشرات الآيات التي تبيِّن وتحذر من الانزلاق في بوتقة ما فعله الأحبار والرهبان، من تزوير وتحريف وجعلهم أربابا من دون الله، وأنهم مصدر معرفة دين الله، وأنهم، وحدهم، أصحاب الحق والحقيقة، وأنهم من يملكون السلطة للتحليل والتحريم، ووحدهم من يدخل النار ويُدخل الجنة (صكوك الغفران) بعلمهم ومعرفتهم بدين الله، ونسبوا أقوالهم وأقوال رواة عن أنبيائهم ورسل الله دينا مقدسا بالتوازي مع وحي الله سبحانه، واتخذوهم أربابا من دون الله افتراء على الله، وبعد هذا كله، جاء رجال الدين الإسلامي، وساروا على خطا من سبقهم من الأحبار والرهبان، جاؤوا بتراث بشري، بعضه ينسب للنبي الكريم، وبعضه الآخر للفقهاء والمحدِّثين والمفسرين، ليكونَ أساسا لعقيدتنا وفقهنا وسلوكنا وفكرنا، وتركوا القرآن وراءهم ظهريا، ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾.
والحق أن مشكلتنا، بوصفنا مسلمين، وهذا ما يجب أنْ يعلمه كل المشتغلين بالعلوم الشرعية، ليست في عدالة الصحابة وسقيفة بني ساعدة وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وليست في معاوية ويزيد، وليست في عصمة الأئمّة الاثني عشر والإمام محمد بن حسن المهدي، ولا في معارك خالد وابن نويرة، وليست مشكلتنا في فتاوى الأحناف أو المالكيّة أو الشافعيّة أو الحنابلة أو الجعفريّة..، وليست في صحيح البخاري وصحيح مسلم أو في الكافي أو في تهذيب الأحكام، ولا في آراء ابن تيمية وابن القيم أو ابن رشد والغزَّالي وابن عربي، رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم على ما قدموا نصرة للحق ولدين الله وغفر الله عن أخطائهم وزلاتهم جميعا.
مشكلتنا يا سادة في أنَّ أغلب علمائنا جعلوا من هذا التاريخ البشري دينا، كما فعل اليهود والنصارى من قبل، هذا التاريخ المُؤسَّس على القصص والحكايات والروايات وآراء المجتهدين وتفاسيرهم وتأولاتهم، ولا شكّ أنها صادرة عن بشر غير معصومين إطلاقا، فهم يخطئون ويصيبون، ويتأثرون بواقعهم وبيئتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وقد يضعفون أمام عواطفهم وغرائزهم ونزواتهم، وقد يخافون من ظلم الطغاة والمستبدين والمجرمين، وفيهم الغني والفقير، والقوي والضعيف، والبدوي والحضري، والكبير والصغير، وكل ما جاء في هذا التراث، سواء أكان بمنهج علمي دقيق إلى حدِ ما، أم بغير ذلك، فكلاهما صناعة بشرية ونتاج بشري محض ليس له علاقة إطلاقا بالدين المُؤَسَّس على الوحي القطعي الثبوت، وعلى هيئة العبادات القطعيّة الثبوت أيضا. إذ إنهما ثابتان بطريق واحد وهو التواتر المُسلَّم به عقليا.
وبما أننا أمَّة إسلاميةٌ واحدةٌ قرآننا واحدٌ وواضحٌ بيِّن من حيث العقيدةُ والإيمانُ، ومن حيث الحلالُ والحرامُ، ومن حيث الشعائرُ والعباداتُ، ومن حيث الأخلاقُ والمعاملاتُ والقيمُ كـ(الرحمةِ، والعدلِ، والعِزَّة، والكرامة، والحريةِ، والعفَّةِ، والفضيلةِ، والعطاء، والعفو، والتسامح، والخيرِ، والمساواةِ، والطهارةِ، والسّتر،...)، فهذا كلُّه واضحٌ وضوحا جليّا ساطعا مفصّلا تفصيلا بائنا لمن أرادَ أن يكونَ مسلما ربَّانيا خالِصا لله، وقِبلتُنا واحدة، وصلاتُنا واحدة، وحَجُّنا واحد، وصِيامُنا واحدٌ، وهذا لا خلافَ عليه عند جميعِ المسلمين قاطبة على اختلاف فِرقهم وطوائِفهم ومذاهبِهم، فهذا هو الدِّينُ الحقّ، الدِّين الذي جاءَ بكلمةٍ سواء ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.
ومما سلف، وللتوضيح أيضا، فإن تراثنا هو جزء من هويتنا وتاريخنا وإنجازاتنا، ولنا الحق الدفاع عنه، فلقد كان قاعدة أساسية، لازدهار الحضارات فكريا وعلميا وأدبيا، وهو نتاج نعتز ونفتخر به كأمه إسلامية وعربية، ولا شك في ذلك، نعتز به وندافع عنه بوصفه نتاجا بشريا خالصا، ليس له علاقة بالدين باعتباره نصا دينيا مقدّسا مشرِّعا ومحلِّلا ومُحرِّما، سواء أكان (التراث الكلي) أم (التراث الجزئي)، ولا بأي شكل من الأشكال، وتحديدا ما يتعلق بقراءات النص المقدس(القرآن) وتفسيراته وتأويلاته، وما نتج عن ذلك من أفكار وآراء ومواقف، خاضعة لظروفها وبيئتها وأحوالها، ثقافية كانت أم تاريخية أم اجتماعية أم سياسية، ولا شك أنَّ الأثر السياسي جليّ في كثير من النزاعات الفكرية والمذهبية والطائفية، وأنَّ كل صراعنا الراهن ينصب في النتاج التاريخي لأمتنا، وفي هذا السياق أقتبسُ قولا جميلا لمحمد الشنقيطي في كتابه الخلافات السياسية بين الصحابة، إذ يقول: "إن الأمة لن تخرج من أزمتها التاريخية إلا إذا أدركت كيف دخلت فيه" فأزمة الأمة الإسلامية هي " أزمة دستورية في جوهرها، وهي أزمة بدأت بذرتها ليلة السقيفة، وتحولت إلى فتنة عمياء في الجَمَل، ثم شبت حربا هوجاء في صفّين، وقد انتصرت في صفّين القوة على الحق، والبغي على العدل، والملك على الخلافة، ولا يزال المسلمون عاجزين عن الخروج من هذا المأزق الدستوري حتى اليوم، رغم ما تضمنه القرآن والسنة من مبادئ هادية في بناء السلطة وأدائها".
والله سبحانة وتعالى من وراء القصد
إرسال تعليق