بمناسبة اليوم العالمي للشعر: لماذا يسرقون زهرة الموتى؟
يكتبها مصطفى ملح ____ نيابة عن لا أحد.
الكائن الشّعريّ، الذي هو أنا وأنت والآخر، يرقد في التّابوت. ثلاث مئة وخمسة وستّون يوما من الموت الإجباريّ داخل التّوابيت المعدّة لشعراء الوطن، وحين تشرق شمس مارس المجيدة، أو غير المجيدة، يتقدّم الرّجل السّورياليّ نحو القبور ليهشّ على رخاماتها، ويأمر الموتى، الذين هم أنا وأنت والآخر، بالقيام.
إنّه مارس، وغير مسموح للموتى بالتّساؤل والاحتجاج. في الواحد والعشرين من هذا الشّهر تقوم القيامة، ونساق في اليوم العالميّ للشّعر إلى القاعات، شواعر وشعراء، ونُدفع دفعا نحو مكبّرات الصّوت لنبكي بأصوات تراجيديّة، ونُأمر بأن نؤمن بأنّ الدّيمقراطية هي إلغاء للفوارق الجنسيّة والعرقيّة والدّينيّة، وأنّنا أمام قضيّة مصيريّة مفادها أنّ القصيدة، التي ننسجها بالخيوط والأظفار، هي منحة من الوطن الكريم، وهبة منه. لا يهمّ أن نكون ذكرانا أو إناثا، ولا يهمّ أن نكون مسلمين أو مسيحيّين أو يهودا أو بوذيّين أو ملاحدة، وإنّما الغاية هي الخروج من القبور والزّحف فوق الأشواك لتقبيل تراب الوطن الكريم!
نحن الدّمى، والمومياوات، والقصيدة مجرّد تأبين لموتنا. أمّا الرّجل السّورياليّ، وفي رواية أخرى صحيحة السّند، والمسؤولية يتحمّلها الرّواة، أنّ اسمه الواقع. نحن موتى ولا يُسمح لنا بأن نطلب من سائق العربة الوجوديّة أن يتوقّف في منتصف المسافة، ولا يُسمح لنا كذلك بخوض حديث مع الواقع، الرّجل السّورياليّ!
وقبل الصّعود يُطلب منّا أن نقرّ بأنّ الوطن جميل، وأنّ شمسه برتقاليّة، وأنّ وحيد القرن لا يؤذي ظبيا، وأنّ فرس النّهر لا خوف منه أبدا، وأنّ جبال الأطلس جنّة العرب والأمازيغ، وأنّ الأربعين مليون مواطن يُمنحون يوميّا أكياسا معبّأة بالأوكسجين والحرّيّة والأمل، وأنّ أقواس قزح موشومة دائما في كرّاسة السّماء!
لم أكن عاقّا ولا عاصيا، ولكنّني قلت لا في وجه من قالوا نعم. الرّجل السّورياليّ تركته يطرق تابوتي ونمت. ليس من حقّ الواقع أن يمنعني من الموت، كما أريده أنا. لا أريد تأبينا كاذبا ولا أزهارا ذابلة ولا أصدقاء مزيّفين ولا حفلات توقيع باردة. في التّابوت، حيث أقضي الثّلاث مئة وخمسة وستّين يوما، أستطيع أن أرى العالم من خلال ثقوب وجوديّة، وأستطيع أن أحدّق في الشّمس، تحت التّراب، بعينين لا ترمشان وجفنين لا يرتجفان. أستطيع كذلك أن أصوم عن الكلام، وأن أشكّل من عجينة الطّين والصّلصال صمتا أكثر بلاغة من الثّرثرة في القاعات ذات الميكروفونات المصنوعة من الجماجم!
لا أريد قصيدة، وإنّما أحتاج كسرة خبز، ومرآة لأرى الأمواج، وكأسا لأشرب العطش. لا أريد ميزان الذّهب، ولا نهج البلاغة، ولا البيان والتّبيين، ولا فنّ الشّعر لأرسطو؛ ولكنّني أحتاج نهارا عاديا، من اثنتي عشرة ساعة، وهواء غير ملوّث، وأشعّة لا يمكنها أن تتحوّل إلى مشانق، وطبشورة لكتابة الحياة وليس سمّا يتسرّب مثل أفاعٍ إلى الوعي.
في اليوم العالميّ للشّعر يتحوّل الشّعراء إلى دمى وأحصنة خشبيّة. وقبيل الصّعود إلى المنصّة، يأمر الرّجل السّورياليّ الحواريّين بطلاء وجوه الشّعراء، وتوسيع الأفواه لتتمكّن الضّحكات من الإشراق. وفي البهو لا تجد متّسعا لمرور ذبابة أو بعوضة، فالحواريّون يهيّؤون الشّعراء، ويركّبون الأقنعة الملوّنة، وبعد دقائق يُساق الموتى، أنت والأخرون، إلى المقصلة ليقولوا موتهم!
أمّا أنا فلم أعد أنتسب إلى السّرب، لأنّني قرّرت ألاّ أغادر التّابوت. لا أحبّ أن أتحوّل إلى بهلوان في سيرك، فيُطلب منّي أن أنسى ما تعلّمته من دروس البلاغة والعروض والاستعارة، وأتدرّب على إخراج الحمام من قبّعتي، وتحويل المناديل إلى عصافير، وإدخال شريط أبيض في جيبي وإخراجه على صورة يمامة. لن أسمح للرّجل السّاديّ بأن يصيّرني ساحرا أو بهلوانا، وإنّما أن أظلّ ميّتا أفضل لي بأن أعيش مهرّجا في السّرك!
كم السّاعة الآن؟ الأخبار تتوالى، والمنصّات مزروعة هنا وهناك، والموتى، أصدقائي، يصرخون مثل نعاج جائعة. لا بدّ أن تتعب شمس هذا النّهار من مارس، وتميل مثل عجوز عمياء لتغرق في العتمة. لا بدّ للعشرين من مارس من الرّحيل، ويُحمل الموتى مجدّدا في سيّارات نقل الأشباح ليدفنوا مرّة أخرى تحت التّراب. هل تكفي الأزهار التي حملوها معهم إلى التّوابيت لتشعرهم بأنّهم ما زالوا على قيد الحياة؟ يُحتمل جدّا أنّ البرلمانيّين وحواريّيهم المطيعين، سيسرقون الأزهار ويتركون أصدقائي الموتى غرباء في منتصف الشّهوة حفاة مثل فطيرة عيد لن يأتي أبدا!
الحواريّون في كلّ مكان، وهم بالتّأكيد لا يشبهون حواريّي المسيح المخلصين، وإنّما هم جباة ضرائب وقطّاع طرق وسماسرة معاصرون وكارهون للشّعر. وهم يركضون بسرعة الضّوء؛ فتراهم بسراويل قصيرة يلعبون التّنس أو الكولف، وتراهم بألبسة تقليديّة يتسابقون على الصّفوف الأولى لصلاة الجمعة، وتراهم أيضا يترنّحون في عتمة الخمّارات، وربّما تراهم في الجامعات والإدارات والأسواق الممتازة وغيرها. ولكن ما حاجتهم إلى أزهار الموتى؟!
الأشدّ خطورة من هذا هو أنّ الحواريّين لا ينامون، وإنّما يتحوّلون إلى كوابيس. أنا وأنت والآخر نحلم بهم، وهم مثل مصّاصي دماء في فيلم هوليوديّ، يتقدّمون نحونا، ليلا، ويغرزون أنيابهم في أجسادنا، وفي الصّباح لا يستطيع الماء والصّابون غسل الرّائحة. أربع وعشرون ساعة، واليوم لا نقصان فيه، ورائحة الحواريّين في ثيابنا ومشاعرنا ووعينا، ونحن نحتاج إلى اغتسال متفرّد بالنّار والكبريت كي نقتلع أشواكهم من حديقتنا. حتّى النّعاج، سالفة الذّكر، لا تحبّ أن ترعى في المرج إلى جانب الذّئاب وبنات آوى!
لهذا لن أكون عصفورا في السّرب الذي في مرمى القنّاصين، أولئك الذين يخرجون من البرلمان ويطلقون الرّصاص على القصيدة. لهذا أيضا قرّرت أن أظلّ في التّابوت ولن أسمح لحواريّ بسرقة زهرتي!
رائعة بحق
ردحذف