تسريد المكان الروائي-
)رواية قاع البلد لصبحي فحماوي- أنموذجاً)
د. ليندا عبيد. جامعة اليرموك- الأردن.
الدستور- يُعدّ المكان من أهم العناصر الشكلية الفاعلة في الرواية "لما توفّر عليه من أهمية كبرى في تأطير المادة الحكائية، وتنظيم الأحداث، وكذلك بفضل بنيته الخاصة والعلائق التي يقيمها مع الشخصيات والأزمنة والرؤيات"([1]). وهو بمثابة العالم؛ فهو حّيز تتحرّك فوقه الأحداث والشخصيات يؤطرها بإطاره، ويمنع انسكابها وتشتّتها في الفراغ أو العدم. ويعدّ معياراً "لقياس الوعي والعلائق والتراتبات الاجتماعية والثقافية"([2]). فيقول "ميشال بوتور": "إنّ قراءة الرواية رحلة في عالم مختلف عن العالم الذي يعيش فيه القارئ، فمن اللحظة الأولى التي يفتح فيها القارئ الكتاب ينتقل إلى عالم خيالي من صنع كلمات الروائي الذي يتواجد فيه القارئ"([3]).
ولابدّ قبل البدء بذلك من التفريق بين الفضاء والمكان، "فالفضاء ليس معادلاً للمكان. وإذا كنا هنا بصدد الحديث عن الفضاء الروائي، فإنّنا نقول بأنّ الأمر يتعلق بفضاء مطلق، ذلك الفضاء الذي قال عنه "هنري لوفيفر": بأنّه " لا يوجد أي مكان لا مكان له، ذلك لأنه يجمع كلّ الأمكنة، ولا يملك إلاَّ وجوداً رمزياً."([4]) ويذهب "محمد بنيس" إلى أنّ: "المكان منفصل عن الفضاء، وأنّه سبب في وضع الفضاء أي أنّ الفضاء بحاجة دوما للمكان."([5])
ويتضح أنّ الفضاء يتضمن المكان، ويتجاوز حدوده ليصبح لصيقاً بكل شيء، فنقول: فضاء أدبي وإيديولوجي، وفضاء العلم وغيره، "فيدرس الفضاء لا بوصفه أمكنة تدور فيها الأحداث والوقائع الحكائية، أو تتمركز حولها الفاعلية الشعرية، بل الفضاء كوعي عميق بالكتابة جماليّاً وتكوينّياً، الفضاء كشكل ومعنى، الفضاء كذاكرة وهوية ووجود الفضاء تساؤل إشكالي ملتصق يوعينا الثقافي والاجتماعي والجمالي، وبنسيجنا السيكولوجيّ والمعرفيّ والإيديولوجيّ."([6])
وقد شغل مفهوم المكان علماء الفلسفة قديماً وحديثاً؛ "إذ عدّه أفلاطون محل التغيير والحركة في المحسوس، وكذلك أرسطو الذي رأى فيه المكان الحاوي الأول، ورأي أنه ليس جزءاً من شيء، وهو مساوٍ للشيء المحوي"([7]).
وآمن أفلاطون "بوجود المكان بوصفه حقيقة واقعة، وبالفضاء الذي يحيط به كذلك، إلاَّ أنه لم يفصل بشكل واضح بين المكان والفضاء... ولكن بالقراءة المتأنية في سياقاته الجدلية، يتبيّن أن خلق هذا الكلام، ما يُشعر تحسّسه بأنّ الفضاء شيء والمكان شيء آخر، أمّا أرسطو فإنّ عدم تصريحه بلفظة الفضاء اصطلاحا ليس عمداً أو إغفالا. فقد كان يعي المفهوم في ذاكرته، وهذا ما ظهر أثناء جدلياته وأطروحاته المتناثرة ... لا سيما عند الحديث عن المكان والفراغ؛ فهو يتصوّر أن المكان وعاء تستطيع أن تصبّ فيه ما شئت من مختلف السوائل، وكما أنّك تستطيع أن تضع في إناء ما نبيذاً أولا، ثم ماءً بعد ذلك ... وعلى هذا فإنّ مكان الشيء يمكن أن يُعرف على أنّه حدود الجسم أو السطح الداخلي الذي يحيط بالجسم مباشرة"([8]).
وعند ابن سينا كان المكان "السطح الباطن من الجرم المادي المماس للسطح الظاهر للجسم المحويّ. وعند المتكلمين هو "الفراغ المتوهم الذي يشغله الجسم، وينفذ فيه أبعاده، ويُراد به الحّيز"([9]).
وقد شُغل الفلاسفة بفهم الوجود إذ حاولوا إدراك كنهه، وكذلك حاولوا إدراك المطلق والمُجسّد، ونظروا لذلك بما لا يحصى من الكتب والمجادلات، وخاضوا معاناة لا تُحدّ بحثاً عن المعرفة و الحقيقة، ولعل اهتمامهم بالمكان نابع من أهمية هذا الحيز الذي لا تنفلت الأجسام منه ولا تستطيع التواجد دونه، مما يؤكد دوره الفاعل الحياتيّ للإنسان.
ولم يُغفل علماء الاجتماع دور المكان؛ فيذهب "موريس هاليفاكس" إلى أنّ الزمان والمكان إطاران اجتماعيان للذاكرة حيث يكوّنان الإطار الذي تختزن فيه الذكريات الاجتماعية. وهما شرطان لحفظ التراث الثقافي أو الحضاري للمجتمع الإنساني([10]). ومعلوم أنّ المكان حيّ بالإنسان "الذي يقوم برسم جمالياته، لذلك فالمكان دون الإنسان عبارة عن قطعة من الجماد لا حياة ولا روح فيها، وكذلك فإنّ الإنسان بمشاعره وعواطفه ومزاجه يأخذ من الطبيعة و فصولها وطقوسها ما يساعد مشاعره ومزاجه على رسم المكان."([11])
وما دام المكان حاضراً كلّ هذا الحضور في الحياة الواقعية المجردة فإنّ الأعمال الأدبية ناقصة دونه. و يقول "باشلار" في ذلك: "إنّ العمل الأدبي حين يفتقد المكانية فهو يفتقد خصوصيته، وبالتالي أصالته."([12])
ويرى "جوزيف فرانك"، أيضاً، "أنّ الفضاء في الخطاب الروائي يمكنه أن يشكل المادة الجوهرية للكتابة، وأنّ أيّ إلغاء أو إقصاء لمفهوم الفضاء في النظرية الأدبية، إنما هو قمع معين لهوية من هويات الخطاب الأدبي، وضمنه الخطاب الروائي"([13]).
ويبدو المكان كما لو كان خزاناً حقيقيا للأفكار والمشاعر والحدوس، حيث ينشأ بين الإنسان والمكان علاقة متبادلة يؤثر كل طرف فيها على الاخر، ولذلك يقدّمه لنا بعض الكتاب كعنصر مشارك في السّرد، ويتعاملون معه كما يتعاملون مع الشخصيات([14])، "وقد يكون في بعض الأحيان هو الهدف من وجود العمل كله."([15])
ومنذ نشأة الرواية العربية والمكان عنصر فاعل وحاضر يتساوق مع عناصر السّرد الأخرى في خلق العمل الأدبي وتقديم رؤاه ووجهة نظره إلاَّ أنّ الدراسات كانت ولا تزال لزمن قريب تجعل للزمن "مكانة الصدارة في الوعي العربي... إذ يمكن القول إنّ تشغيل الوحدة الفضائية الزمنية لأينشتاين في تجربتنا اليومية العادية يظل صعباً، بله ولعله ليس بالسهولة المتوقعة في تجربة الفكر والإبداع."([16])
وقد ترجم "غالب هلسا" كتاب" باشلار" "جماليات المكان الروائي"، وحذا حذوه "شاكر النابلسي" في كتابه "جماليات المكان في الرواية العربية" ليسلطا الضوء على جمالية المكان كونه عنصرا متشابكا مع الزمن، ومع غيره من عناصر السرّد في نماذج مختلفة من الروايات العربية، بعد أن كان الحضور الأكبر مسلّطاً على أعمال الروائي المصري "نجيب محفوظ" فالمكان يثير إحساساً بالمواطنة، وإحساساً آخر بالزمن وبالمحلية، حتى لنحسّه الكيان الذي لا يحدث شيء بدونه. فقد حمّله بعض الروائيين تاريخ بلادهم، ومطامح شخوصهم، فالمكان سواء كان: واقعاً ورمزاً وشرائح وقطاعات، مدناً وقرى كيانا نتلمّسه ونراه، وكيانا مبنيّاً في المخيّلة."([17]) فالشخصيات تحتاج مكانا لحركتها، والزمن يحتاج مكاناً يحل فيه، ويسير منه واليه، والأحداث لا تحدث في الفراغ، وسردها يستحيل إذ تمّ عزلها وقطعها عن الأمكنة([18]).
ويختلف تجسيد المكان عن تجسيد الزمن "حيث إنّ المكان يمثّل الخلفية التي تقع فيها أحداث الرواية، أمّا الزمن فيتمثّل في هذه الأحداث نفسها و تطوّرها، وإذا كان الزمن يمثّل الخط الذي تسير عليه الأحداث فإنّ المكان يظهر على هذا الخط ويصاحبه ويحويه، فالمكان هو الإطار الذي تقع فيه الأحداث.... ويرتبط الزمن بالإدراك النفسي، أمّا المكان فبالإدراك النفسي، أمّا المكان فبالإدراك الحسي."([19])
وبدراسة الفضاء الروائي نتكئ على مقولة "حسن بحراوي" من أنّ المكان " يعدّ عنصراً شكلياً فاعلاً لما يتوفر عليه من أهمية كبرى في تأطير المادة الحكائية، وتنظيم الأحداث، وكذلك بفضل بنيته الخاصة والعلائق التي يقيمها مع الشخصيات والأزمنة والرؤى، ويمثّل العنصر الزمني النموذج الثاني في التحليل، لعلاقته الوطيدة بالمكان ولقيمته البنيوية العالية."([20]) إذ أنّ علاقات الزمان تتكثّف في المكان. والمكان يٌدرك ويُقاس بالزمان."([21])
ويتواجد الفضاء الروائي مثل مكونات السرّد الأخرى، فلا يظهر إلاَّ من خلال اللغة، فهو فضاء لفظي بامتياز... إنّه فضاء لا يوجد سوى من خلال الكلمات المطبوعة في الكتاب ولذلك، فهو يتشكّل كموضوع للفكر الذي يخلقه الروائي بجميع أجزائه."([22])
وقد قام المنظرون الألمان بعد "روبيربيتش" بالتمييز بين مكانين متعارضين؛ أمّا الأول فقد عنوا به المكان المحدّد الذي تضبطه الإشارات الاختبارية كالمقاسات، وأمّا الثاني فهو الفضاء الدلالي الذي تؤسسه الأحداث ومشاعر الشخصيات في الرواية ([23]). وضمن هذه الحدود يتحرّك الفضاء الروائي بين جزأين: الفضاء المرجعي مثل الساحة والبيت والشارع والمقهى ... والفضاء النفسي مثل الموت والحلم و الإخفاق ويطلّ من تمازج الشخصيات مع الأمكنة والأحداث.
وترسم الرواية الإطار الذي تتحرّك فيه شخصياتها، سواء أكان إطاراً طبيعيا، أو مصنوعا (متنزها، مدينة، بيتا، شارعا) وسواء أكان جامداً أم متحركاً. والروائي حين يرسم الفضاء، يحمل القارئ إلى عوالم خيالية، ويبثّ فيه الإحساس بأنّه يحيا فيها، وينتقل في أنحائها. والفضاء الذي يرسمه هو لغوي وعقلي، وليس ماديا. إنّه تشكيل خيالي للواقع أو لفضاء حقيقي.([24]) والفضاء المرجعي لا يظهر في الرواية إلاَّ ممتزجاً بأجواء الفضاء النفسي حيث تتفاعل العوالم النفسية مع الحدود المكانية المؤطرة في إطلاق جماح الذات بين حركتين نقيضتين: واحدة نحو الانطلاق والتفاعل ، وأخرى نحو التقوقع والانسحاب للداخل. فالفضاء المرجعي يمثل المدلولات الحسية المادية المشابهة لوجودها في الواقع، وإن خرجت عليه بما يتناسب مع قوة الخيال الروائي، وحرية الإبداع صياغة الواقع مثلما يستشعره الروائي، ومثلما تتحّرك فوقه الشخصيات. وأحياناً، قد نجد "الحدود المكانية التي يرسمها الروائي ضيّقة تعطي الشعور بأن الشخصية تعيش في نوع من السجن، أو تكون مفتوحة تعطي الشعور بالانطلاق والحرية والحركة."([25])
فالفلسطيني في رواية "قاع البلد" مقهور بالزمن وتكالب الأعداء، وتوحش رأس المال ومطامع البشر. وضمن هذا التيه نجد البطل لا ينفك يسقط الخيانة على نفسه، بفعل إحساسه بالعجز والذنب كلما تذكر عجزه عن مساعدة أبيه، فيدخل فيها قسرياً، ويضل طريقه كما حدث لكل من فارقوا فضاءهم المكاني الأول قسرياً.
ويطل الجانب الآخر من شخصية الهربيدمن خلال رسم البناء الروائي وقصّه لأحداث الفضاء المكاني الآخر الممثل بفضاء الاغتراب، بما يتحرك به من معاناة وتهميش عبر سلسله من الأحداث المتتابعة، والنكوصات النفسية المستمرة إلى الماضي، بما به من حنين وسكون مرورا بأحداث ترسم صورة للعالم الذي يؤرخ له الروائي ، من مرحلة ما بعد الهزيمة، فيصير الواقع وأحداثه صورة متضخمة لتوحش العالم، وتضخم التيه والعذاب الإنساني في دوائر القبح والألم.
[1]() حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، بيروت: المركز الثقافي العربي،
[2]() حسن نجمي: شعرية الفضاء السردي، بيروت: المركز الثقافي العربي،
[3]() سيزا قاسم: بناء الرواية دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب 1984، ص 74.
[4]() حسن نجمي: ص 24.
[7]() انظر: أسماء شاهين: جماليات المكان في روايات جبرا إبراهيم جبرا، عمان: دار الفارس 2001، ص8
[8]() عبد الرحيم، مراشدة: الفضاء الروائي، عمان: وزارة الثقافة 2002،
[9]() انظر:أسماء شاهين: ص 9-10.
[12]() شاكر النابلسي: جمالية المكان في الرواية العربية ،عمان: دار الفارس 1994، ص 14.
[13]() حسن بحرواي: بنية الشكل الروائي، ص 26.
[14]() انظر: حسن نجمي:شعرية الفضاء السردي ، ص 31.
[17]() غاستون باشلار: جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات 1987، ص 53.
[18]() انظر: صلاح صالح: قضايا المكان الروائي في الأدب المعاصر، دار شرقيات للنشر والتوزيع1997، ص 12.
[19]() سيزا قاسم: بناء الرواية،القاهرة:الهيئة المصرية العامة1984،ص 32.
[20]() حسن بحراوي: ص11.
[21]() انظر: أسماء شاهين: ص 125-126.
[22]() حسن بحراوي: ص 27.
[23]() انظر: المصدرالسابق: ص 26.
[24]() انظر: لطيف زيتوني: معجم مصطلحات نقد الرواية ، ص 129.
إرسال تعليق