الأدب الفلسطيني قدم المخيم كمكان بصورة سلبية، فهو مكان التشرد/الضياع، وإنه المكان الذي فرض إجباريا عليه، لهذا قدم على أنه مكان قاسي، مؤلم، ولكن هناك اتفاق على أن ساكنيه هم ضحايا، مساكين، يمتازون بالطيبة والعطاء والتضحية، فرغم بؤس حالهم وبؤس المخيم الذي يتواجدون فيه، إلا أنهم يعطون/يضحون/يتألفون/يحبون.
في رواية فوانيس المخيم، يؤكد السارد على الصورة المشرقة لسكان المخيم، فرغم أنهم يعيشون في مكان بائس، إلا أنهم يتمتعون بروح العطاء/التضحية/الوفاء/الحب/المواجهة والتحدي، وهذا ما جاء في الإهداء: "إليهم جميعا: أهلي في ذلك المخيم، الحالمون بعودة إلى وطن لم تنطفئ شموعه بعد في ضلوعهم"، وإذا أضفنا العنوان: "فوانيس المخيم" والذي يعطي معنى الضياء/النور، نتأكد أن هنا صورة مشرقة لسكان المخيم.
ونجد في افتتاحية الرواية "إضاءة": ما يؤكد على أن المخيم هو المكان المركزي في أحداث الرواية: "مخيمان مختلفان في مواقع الجغرافيا: مخيم الشاطئ الصغير المكتظ باللاجئين على ساحل غزة، والذي يقع غرب المدينة وعلى شاطئها تماما، ومخيم العائدين أو الرمل الجنوبي، أو حي القدس، كلها أسماء لمخيم يقبع في قعر اللاذقية السورية، من جهتها الشرقية" ص9، وهنا نطرح سؤال: ما السر في اختيار ناس مشردين/مهجرين لمكان، لمخيم يقع على شاطئ البحر؟، يجيبنا السارد بقوله: "لم يكن اختيار أهل المخيم مدينة اللاذقية صدفة، فأغلب سكانه كانوا من المدن والقرى البحرية في فلسطين" ص40، وهذا القول يتوافق مع ما جاء به علماء التاريخ والاجتماع: على أن المهاجرين يحملون أسماء/طبيعة المكان الأصلي معهم، ويعطوه للمكان الجديد الذي يحلون فيه، من هنا نجد في بلاد الشام أكثر من مكان يحمل عين الاسم، "صيدا" في لبنان وفي فلسطين، "أريحا" في فلسطين وفي سورية، نصف جبيل في فلسطين، بنت جبيل في لبنان" والقائمة تطول.
إذن المكان يعد مفصل أساسي في الرواية، فهو ليس مكان جامد/محايد، بل له أثره/حضوره على أبطال الرواية وشخصياتها، من هنا نجد "أبو صابر" ما زال محتفظا بالفلوكا التي قدم بها إلى اللاذقية، ولم يرضى أن يبيعها رغم مرور السنين: "... ولكن شكلها كان مفرحا، وعندما جاء بها بعد النكبة إلى اللاذقية، لكن أبا صابر بقى مصرا ألا تعود إلى عملها في الصيد، إلا في يافا... لا يريد لخشبها أن يذوب في غير بحرها، فهي الشيء الوحيد الذي يحمل في دواخله رائحة البلاد" ص93، بهذا الحديث تحمل الفلوكا أكثر من معنى، أنها الوسيلة التي سيعود بها إلى "يافا" المكان الذي خرج منه، وأنها تمثل الذكريات/الحنين لذلك المكان، ولتلك الحياة الهنية والرغدة التي عاشها في ساحل فلسطين: "كلما هزه الحنين إلى البلاد، ذهب هناك متخذا من التلة مسندا، يتأمل أفق البحر الممتد وينظر إلى أفلوكته التي تنام قريبا من ذلك السور، وكثيرا ما كنت ترى دمعا يترقرق في عينيه لو اقتربت منه" ص41، بهذا الصورة الحميمة يتعامل الفلسطيني مع المكان.
وإذا ما توقفنا عند المقطع السابق سنجد فيه شيء من الرمزية، (وسيلة/أداة) الهجرة هي ذاتها وسيلة/أداة العودة، لهذا سنجد حالة من الغم والحزن تصيب "أبا صابر" عندما يفقد الفلوكا، حيث استخدمها "علي ومحمود" للذهاب إلى بيروت، لمشاركة في مواجهة قوات الاحتلال في حرب بيروت عام 1982، لكنه ما أن يعلم أنها استخدمت لهذا الهدف ومن هؤلاء الشباب، حتى تنفرج أساريره وتعود له الحيوية: "...لو كان ذلك لحزنت، غير أنهم فعلوا فعل الرجال الرجال... علي مثل ابني يا غالية، والله لو أخذ روحي، على قلبي مثل العسل، ...لم يأخذوها ليلهوا بها وبعدين يا أم علي صارت أقرب ليافا، الله يرجعهم سالمين" ص155، رغم أن "أبا صابر"، يتعامل مع الفلوكا بشكل (مقدس)، لما لها من معنى في رحلته للعودة إلى يافا، إلا أن هذه (القدسية) ليست جامدة، فهو ليس بكاهن، والفلوكا ليست كنسية/معبد، لا تقبل الصلاة إلا بهما معا، لهذا وجدناه يؤيد فعل الشباب ويدعمه ويثني عليه، فما دامت "الفلوكا/أداة العودة اقتربت من "يافا" فهذا يعني اقتراب عودته.
ولم يقتصر أثر المكان على ما جاء سابقا، بل هناك أثر آخر يتمثل في السلوك/فكرة التي يحملها المهاجر معه، فهناك قول عن إجزم وأهلها جاء فيه: "...أتذكرين أيتها الغالية تلك الحكايات التي كنت ترويها لنا عن إجزم؟ عن السهول الواسعة وعن الكرمل الشامخ، وعن البحر والينابيع الرائعة في بلادنا، عن صلابة أهل إجزم وعنادهم، الذين قاتلوا الاحتلال حتى الرمق الأخير" ص149، استوقفني هذا القول عن "إجزم" لأنه يتوافق تماما مع ما جاء في روايات "محمود عيسى موسى " الذي أكد على عناد/قسوة عقول أهل إجزم: "أجاك العقل الجزماوي" كناية عن العند، من هنا نجد اختلاف الفكرة عن الناس، ترجع إلى جذورهم الأصلية، إلى المكان الذي خرجوا منه: "يا رجل أنت طلعت أصعب من الجزماوية.. احنا بنقول أهل يافا بيوخذوا ويعطوا في الكلام، مش زي أهل إجزم عقولهم ناشفة" ص174، بهذا القول الذي وجهه "محمود" لصديقة "خالد" يمكننا الاستنتاج أن المكان حاضر/فاعل في الفلسطيني، رغم ابتعاده عنه، فمحمود ينسب (تصلب) موقف خالد إلى فكرته عن أهل إجزم، وهذا ما يجعل المكان حاضراً مؤثرا في الشخصيات.
إرسال تعليق