-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

غربة قصيدة للشاعر موسى صالح الكسواني


غربة 
موسى صالح الكسواني


سَمكٌ أعْمى

يَسبَحُ فوق صَفيحٍ في حَوضٍ لُجِّيٍ

يبلعُ أكداسًا من كُتلٍ تَخنقُها الفوضى

ودُمىً جائعةً تَتنفسُ أغبرةً لاهبةً

ولهاثًا يَصَّعَدُ من يَحمومٍ يَشتدُّ نشيجًا

تَزْوَرُّ صُدورُ الكتلِ المنزوحةِ من حِدَّتِهِ

والموجُ يَئِنّْ

أشباحٌ تَتطايرُ في بَطنِ السَّمكِ الأعمى

تَتضاحكُ ساخرةً حين الرُّعبُ

يُعربِدُ وسْطَ ظلامٍ مجهولْ

فالموتُ القادمُ لا تُدركُه الأبصارُ

ولا مِنْ أيّ ثُقوبٍ سوفَ يَجيءْ

الموتُ حنونٌ فيه شِفاءْ

الشاطئُ  يقتربُ الآنْ

والسّمكُ الأعمى يزدادُ زعيقًا والموجُ يئنّ

العَسْكرُ من نَوعٍ آخرَ تَحملهمْ أجسادٌ بَلهاءْ

وبنادقُ تَحميهم ممَّا يقذفُه القادمُ

منْ حَوضٍ لجيٍّ فوقَ الرملِ المُبْتلِّ بما

ينضحُ مِنْ أشلاءِ الضُّعفاءْ

الشّاطئُ يَفتحُ جُعبتَه المَلأى بالحقدِ البَشريِّ

ويُلقي آخرَ مَقذوفٍ من وَحْشِ الغُربةِ 

في مَرفأِ نازعةِ الغَدرِ على تَعبِ مُرٍّ

لِتُوَلِّي ما اسْتبقتْ مِنه جفافًا شَطْرَ حياةٍ أخرى

الشمسُ تُطِلُّ عليه بكلِّ مَهابَتِها

يتسللُ ناموسُ أشعتها الحاملُ دفءَ الكونِ إلى قلبِه

تَنسِجُ مأواهُ خيوطٌ من نُورٍ

وتَحوكُ له جُدرانًا من ياقوتٍ

وسريراً  من عاجٍ منضود

الغرفةُ مبنىً ورديٌّ يَشخَصُ

فوق بِساطٍ من مرتفعٍ ريحانيِّ 

من بين شقوقِ الشَّجرِ المُلتفِّ بعشقٍ

يَنظرُ نحوَ البحرِ بِسُخريةٍ

إذ كان سيأكُلهُ الماءُ قُبيلَ صقيعِ نهارْ  

تَسْكُنُ غرفتَه الشمسُ وتُسْكِنُه حِضْنًا

يَمْحُو بلذاذتِه ذاكرةً سوداءَ

لغربانٍ وقوارِضَ جاسوا بالعتمةِ أخضرَ

ما كانَ يجودُ به البلدُ الآمنْ

الغرفةُ سُكناهُ الآنْ

والشمسُ بكاملِ ثَروتِها تَسْكُبُ لذَّتَها المحمومةَ

فوق رثيثِ الجَسَدِ الموؤودِ

لكي تَسْري فيه الرَّعشةُ صَيْحةَ مولود

الغرفةُ قُربَ الشاطئِ في كاملِ رقَّتِها

 تتبخترُ باستِحياءٍ مثلَ عروسٍ ليلةَ دُخلتِها

والسَّاكنُ فيها شَرقيٌّ مخلوعٌ

منْ وطنٍ كان له السَّلوى

يَلبَسُه خَجلُ الغُربةِ في ثوبِ غريبْ

ينظرُ من نافذةِ الغرفةِ

نحو فَضاءٍ أزرقَ مَملوءٍ بأوَزٍّ بَشَريٍّ

يَتقافزُ طربًا فوقَ صَفيحِ الماءْ

يتَعافى ويعودُ كأيِّ أميرٍ كنعانيٍّ

يَسْتلقي فوقَ سريرٍ من عاجٍ مَنضود

يقتحمُ الغرفةَ نورٌ يحملُ فوق أشعتِهِ

عشتارَ الحلوةَ في غَنَجٍ مَحمومْ

يَتَّحِدُ الجسدانِ بلهفةِ عِشْقٍ خَجْلى

وبشوقٍ ظمآنٍ ينبتُ فرحٌ

فوق بِساطِ الغُرفةِ يَحكي

ملهاةَ العاشقِ في غُربتِهِ السَّوداءَ بلا جَزَعٍ

في طقْسٍ أسْطوريٍّ   

فوقَ حُقولٍ خُضْلٍ  فيها الفوحُ

ذُكاءُ شذًا ممَّا يَنشرُه عبقُ السَّوسنْ

-----------------

22/1/2022


إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016