المعرض يعدّ تجربة للعين وللجسد كله، وقد أراده راتسي مرآة رمزية عن علاقتنا بمرحلة تكنولوجية مرهقة يعوزها أفق واضح.
في المركز الثقافي
في المعرض الذي يقام له حاليا في فضاء “لاغيتي ليريك” في الدائرة الثالثة بباريس، يقترح الفنان الفرنسي أوليفيي راتسي على زواره أن يعيشوا تجربة فريدة، حيث بإمكانهم أن يسيروا فوق أعماله المعروضة، أو يتأملوها من فوق أرجوحة، أو يقتحموا ضبابا كثيفا، أو يعبروا الفضاءات اللامعة التي تضع إدراكهم نفسه على المحك، حيث يحسون كل مرة أن أجسادهم نفسها تميل وتترنّح كأنها ستفقد توازنها.
ذلك أن زائر هذا المعرض لا يدري هل دخل غرفة سوداء، أم رواقَ نادٍ سرّيّ، أم علبة ليلية هادئة، فالعتمة هنا شاملة إلاّ من بعض أضواء أنابيب النيون الحمراء، والجو يجعل الزائر يحسّ أنه في حلم لذيذ في ليلة دافئة، والمكان تهدهده موسيقى قديمة يرجع عهدها إلى العصر الوسيط، يزداد حجمها كلما تقدّم الزائر خطوة، فالصوت والصورة هما وجهان لعملة واحدة لدى أوليفيي راتسي الذي كان يعمل “فيديو جوكي” في بعض النوادي، قبل أن يبتكر منحوتاته العجيبة ويطوف بها في أماكن عديدة ومتنوّعة لا تُستثنى منها حتى الكنائس.
الأعمال المعروضة هي حصيلة السنوات العشر الأخيرة، وقد عرضها راتسي في مجموعات بحسب اللون حينا والثيمة حينا آخر، على نحو يدفع الزائر إلى التساؤل دائما كيف سينظر إليها، إذ أن مقاربتها تتمّ حسب زوايا النظر، وبطرق مختلفة.
أُولاها السيرُ على الأثر الفني: لئن عوّدتنا المعارض والمتاحف على يافطات تذكّر بوجوب تجنب لمس الأعمال الفنية، فإن اللمس في هذا المعرض مطلوب، ففي الجناح الأول الذي أطلق عليه “أن ترى أحمر” (وقد استعملت عبارة لها دلالة التميز غيظا في اللغة الفرنسية)، أعمالُ “فيديو مابينغ” (خرائط فيديو) تنبسط وتتموّج على الجدران وتنحدر إلى الأرضية دون أن يحول بينها وبين الزائر حاجز.
فيجد الزائر نفسه مخيّرا بين الانصهار في الضوء الأحمر المبثوث تباعا أو أن يأخذ له موقعا في إحدى نقاط التعديل الهندسي (وهي زاوية نظر تسمح بتعديل صورة مشوّهة) التي أعدّها الفنان مسبقا، ما يجعل إدراك الزائر في تجدّد مطّرد كلّما تقدّم خطوات.
ومن بين الأعمال السمعية البصرية في هذه المتاهة المغلّفة بالأحمر والأسود “منظور الإطار” الذي صيغ خصيصا كي يتمّ عبوره واختراقه، وهو عبارة عن إطارات عريضة من أنابيب النيون الحمراء اللامعة، مصفّفة عموديا فوق الزائر في شكل ثريّا هندسية ضخمة، تنعكس أضواؤها على مرآة موضوعة على الأرضية.
والزائر مدعوّ إلى المرور بتلك المرآة كي يكتشف خياله، فإذا هو كمن يقع في فخّ ذلك القفص الضوئي الأحمر الذي يجعله ملتحما بالعمل الفني كأنه جزء منه.
والثانية هي التلاشي في الأثر الفني: في “الفضاء السلبي” تزول كل الحدود بين الأثر والفضاء الذي يترامى فيه الأثر، وبعد اجتياز باب غرفة معتمة يخيّم عليها ضباب شامل، يحسّ الزائر أنه غاص فورا في ذلك العمل الذي لا يُرى ولا يُعاش إلاّ من الدّاخل، دون أن يكون ماسكا تماما بزمام تجربته.
ذلك أن الغرفة، بما يلفّها من عتمة تبدو أحيانا كالظلام الدامس، من الصعب إدراك أبعادها، لولا بعض ومضات مشعة تتخللها بين الحين والحين كأنابيب طويلة بيضاء، على وقع موسيقى وضع راتسي ألحانها خصيصا لهذا العمل، ترسم أبوابا وهمية تؤثِّث هيكلَها بصورة عرَضية لا تلبث أن تزول.
وفي هذه البنية المعمارية المتحركة باستمرار، والمبنية مثل قطعة موسيقية ذات لازمة تتكرّر وموتيفات، يتقدّم الزائر كالأعمى لا يدري من أين يبدأ هذا الأثرُ الفني ولا أين ينتهي، إذ يختفي ما بين ظل وضوء، ويتوارى تماما قبل أن يهل وسط ضباب يملأ القاعة، فيبدو كأنه يلفّ الزائر بدثار خفيّ.
والثالثة هي التأرجح أمام الأثر الفني: حيث يختلط مفهوم الرأس والعقب في وضعيات يسودها عدم الثبات الناجم عن بثّ منحرف لا ينفكّ ينتشر في الفضاء ويتحوّل بحسب تنقل الزائر.
ففي عمل أُطلِق عليه اسم “الرؤية الخام”، أعدّ راتسي أرجوحتين غريبتين في فضاء أسود وأبيض في آخر قاعات العرض، مثل صخرتين غامقتي اللون معلقتين يُدعى الزائر إلى الجلوس على إحداهما.
وهو يتأرجح أمام “خرائط الفيديو” الموزعة إلى أربعة أجزاء، يكتشف تنامي خطوط وكتل هندسية بيضاء تُبثّ على مختلف الجدران المحيطة، فيُسلِم نفسه لحركة متأرجحة تعارض الصلابة الرياضية للصور التي يتأمّلها.
هكذا، وهو في وضع معلّق ومتحرّك في الآن نفسه، يكتشف الزائر مختلف نقاط التلاقي بين الفيديوهات، التي تتّصل ببعضها بعضا في عدّة أماكن كي تشكّل معا صورا وأوجها جديدة. من ذلك المَرقب، لم تعد نظرة الزائر هي وحدها المتأمّلة، بل جسده كلّه.
المعرض هو تجربة للعين وللجسد كله، وقد أراده صاحبه مرآة رمزية عن علاقتنا بمرحلة تكنولوجية مرهقة، مرآة تعكس الضبابية التي نعيش فيها اليوم، بين راهن مضطرب ومستقبل غامض.
المصدر: العرب اللندنية
إرسال تعليق