-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

أعتقد بالماء خلف السّد للشاعر سعدالدين شاهين بقلم: د. سلطان الخضور


بقلم: د. سلطان الخضور

الشاعر سعدالدّين شاهين من شعراء الأردن الذين بنتاجاتهم يفرضون أنفسهم على مشهد الشّعر المحلي والعربي, وجدناه فيما اطلعنا عليه من قصائد  في ديوان" أعتقد بالماء خلف السد" يؤمن بأثر الكلمة وما تحدثه من ارتجاجات فكرية تهزّ الضّمير في أغلب الأحيان, وتعطي أكلها على عجل ناضجة تروق للمتلقي وتحرك وجدانه, لأنها دائماً ما تُحمّل في سياق الموقف المؤثر مستعينة بما يجاورها من مفردات, وما يتشكل عنها من صور, لتحكي قصة حاضرة أو قصّة خلت, يريدها الشّاعر أن تترك أثراً على السلوك, بل يريدها أن تولّد حالة نفعاليّة تعين المتلقي على الفهم حيناً, وتحفزه على الجنوح نحو الحق في كل حين.

    وشاهين الذي كتب للأطفال كما كتب للكبار, وكتب للوطن وللإنسانية, اختار لديوانه الصادر عن خطوط  وظلال للنشر والتوزيع عام الفين وعشرين, عنوان واحدة من قصائد الديوان التي وسم بها ديوانه وهو" أعتقد بالماء خلف السّد".

    ولا بد هنا من محاولة الاجتهاد ووضع تفسير للعنوان, وطالما أنه اجتهاد فهو قابل للتصحيح والتعديل أو ربما النفي. أجتهد فأقول أن القصيدة التي حملت عنوان الديوان, هي قصيدة وصفيّة متشائلة فهي من جهة تتحدث عن الوضع القائم وتشير إلى محاولات التململ وعدم الرضا عن هذا الوضع, وتنظر إليه بعين متشائمة, لكنها تبدو قصيدة متفائلة بالمستقبل وحتمية تغييره للأفضل وترى أن الخلاص لا بد آتٍ, وأنه سيكون لأحفادنا نصيب منه. لكن السّؤال الذي يقفز إلى الذهن, هو عن علاقة التشاؤل بالاعتقاد بالماء خلف السّد. إننا على هذا الصعيد نرى السّد يمثل الوضع القائم, فهو في حالة ركود وهدوء, فنحن نعلم أن ماء السّدود غير جارٍ, ما أعطاه صفة الرّكود, لكن الماء الذي يغذّي السّد هو ماء جارٍ وقد يكون هادراّ جارفاً, ويخطر ببالي هنا أن الهدوء يسبق العاصفة, فالهدوء في السّد والعاصفة في الماء غير المرئي القادم إليه.

   ويبدو أن الإهداء الذي وشم به الشاعر صدر الديوان, يحمل طابع الفخر والاعتزاز والأيمان والتحفيز والأمل. إذ هو من جهة يعلن على الأشهاد أنه عربي فلسطيني مقدسي المولد, ما يوحي بالفخر بهذا المكان الذي ولد فيه, وهو من جهة اخرى يؤمن بعروبة فلسطين- كل فلسطين- وهي ما تعرف بفلسطين التاريخية من البحر إلى النهر وكذلك بحتمية العودة إليها وإن طال الزمن فهو يقول في الاهداء " ولو بنسله" إذ إن لم تكن العودة لهذه الأجيال فستكون للأجيال القادمة, وهم الأحفاد الذي يراهن العدو على موت أجدادهم وعلى نسيانهم لأرض الآباء والأجداد, - وهذا لن يكون- ويؤكد في هذا السّياق على القدس كعاصمة. وفي هذا الإهداء أيضاّ يبرز عامل التحفيز إذ أن الاهداء لمن يؤمنون بهذه الفكرة وهي فكرة الارتباط بالوطن وحتمية عودته كاملاً غير منقوص.

 

 

الإهداء

"إلى من آمن بي عربياً مقدسي المولد

وإن مات أو نفي أو اغترب أو سجن أو اعتقل

أو تشرد, فسيعود إلى فلسطينه ولو بنسله...

من البحر إلى النهر وعاصمتها القدس"

أما القصيدة التي حمل الديوان عنوانها, فتبدو متفائلة رغم أن الشّاعر جعلها مشحونة باستنكار الوضع القائم, وهي قصيدة يحاول الشّاعر جعلها ممحاة يمحو بها هذا الوهم الذي يجعل الذي يتحكم بالأرض يظن أنها مزرعته الخاصّة, يزرع فيها ما يشاء ويحصد منها وقتما يشاء, أي أنه يستطيع التّصرف بها كما يشاء, وأنه يملك القرار في كل ما يتعلق بها, حتى أنه من الممكن أن يتحكم بالمطر الذي يصيب مساحاتها, متوهماً أن هذا الأمر لن يحدث إلا بأمره وأمر من يأتمرون بأمره.

"واهماً كجنود طيبين

ان أرض الله ملك للخليفة

وسماء الكون لا تمطر إلا ضمن مرسوم موشّى

من أمير ووصيفه"

وتنجلي صورة أخرى من صور الوهم مفادها, أن إغماض العين عن هذه الأرض ونسيانها هو وهم كبير, كوهم ابن آوى الذي يغمض عينيه حتى لا يرى افتراس الذئب له إن هو فَعَلَ وألقي بنفسه أمام الذئب وأحال جسده إلى جيفة تنتظر من ينهشها, فاعتباره كذلك هو وهم كبير. ولا أعتقد أن اختيار ابن آوى كمثال جاء اعتباطاً, لأن ابن آوى يمتاز بصفتين الأولى, انه يبقى مغمض العينين لمدة عشرة أيام بعد الولادة والثانية, أنه يمنع غيره من الحيوانات من العيش في المنطقة الجغرافية التي تقع تحت سيطرته.

"واهماً كابن أوى

أنني أنجو وينجو الكون إن أغمضت عيني

على ما كان واستلقيت أمام الذئب كجيفة"

 

      وتأتي المقارنة هنا بين الوضع الذي وَصف, وبين من يعتقد بحريته إن هو استسلم وباع نفسه بصمته عمّا يصدر عن الدول التي تتحالف ضده, فهذا موقف يحتم عليه فعل الرّفض والمقاومة لا فعل الصّمت والاستسلام الذي يوحى له بأمن كاذب وحرية مزيفة, ومثله هذا الذي يغلق الباب على نفسه ويسترخي في فراشه, ظناً منه أن غلق الباب يجعله لا يَرى ولا يُرى وينجو بنفسه ويكفيه ربه شرّ القتال.

"واهماً من كان يؤمن أنه حرٌ

إذا أرخى حبال الصّمت للدّول الحليفة

أو تمطّي في فراش النوم واسترخى

وسدّ الباب واعتصم السّقيفة"

 

       ويتابع الشّاعر شاهين وصف من يتحكمون بالأوطان سواء أمرائها أو غزاتها كيف أنهم لا يرون في شعبها غير أناس لا يصلحون إلا لطاعتهم, ومن السّهل استحمارهم, وجعلهم مطايا يركبونها وقتما يشاؤون, ولم يقف الأمر عند هذا الحد, بل يرون أن ما يقدمونه للشعب من خيرات بلاده هو من باب العطايا التي يمنّون بها عليه, لأنه لا يستحق التمتع بهذه الخيرات, وهم يعتبرون ما يقدّمونه لشعوبهم من باب المنّة والتخفيف من خطاياهم تجاه من يحكمون. ويضيف أن هؤلاء لو فكّروا يوما بجعل فسحة من امل وإعطاء شعبهم المغلوب على أمره جرعة من الأوكسجين وفسحة من أمل, وفتح المجال لتبزغ الشمس على الناس, سيكون ذلك بشكل خاطف وسريع ما يلبث هذا الوضع إلا ويعود إلى سابق عهده.

 

       ويضيف شاهين أنه يرى في سلوك من يتحكم بالبلاد والعباد يتصرف بالأرض ومن عليها وكأن البلاد كلها ملكه, وكأن أهلها عمال في مزرعته, وله أن يمد رجليه كما يشاء, ولا يترك لمالك البيت غير رصيفه الذي لا يوفّر له الراحة, ولا يسمن ولا يغني من جوع, والرّصيف عادة على أطراف البيت لا داخله.

هم يريدون مطايا

ويؤدّون عطايا

ويزيلون خطايا

وإذا ما راودوا شمساً أرادوها خطيفة

وإذا ما جاء سيدهم كضيف

مدّ رجليه

وأهداني من بيتي رصيفه

      ثم يظهر الشّاعر تغير الحال, وأن حالة الوهم التي كان يتعاطاها المواطن صاحب البيت ويتفاعل معها, ويرقص على أحداثها كمن يرقص في العتمة, ويبوح بما يبوح غيلة إما طمعاّ أو خيفة, وقد كانت هذه حالة على الكل, سواء منهم النائم أو القائم والواثق والواهم والمتفائل واليائس وحتى من يتبوؤون مركزاً, كلهم كانوا على نفس الشّاكلة وجلّهم لم يكونوا يأبهون بمحاسن الأخلاق والفضيلة والمبادئ الإنسانية التي تحثهم على التراحم والتسامح والتكافل والتفاهم  فيما بينهم, لدرجة أن وظيفة أحدهم تعتبر من الرشاوى التي تقدم لهم وتجعلهم طمعاً في الحصول عليها يخمدون في مضاجعهم.

واهماً كنت.. ولا أتقن غير الرّقص في العتمة

والبوح لمن في سمعه وقر

وفي عينيه خيفه

فسلوا النائم والدّائم

والقائم والواهم

والداعم والسّائم

والسّابح والعائم

والحاكم والقاضي بأمر الله

والمفتون في أمر الوظيفة

 

ويتابع شاهين أسئلته الاستنكارية المثيرة للقلق والاستهجان والرفض, فنجده يعرض مشهداً مجتمعياً يفوح بالنفاق الاجتماعي مجاملة للحاكم بأمر الله, فقد بات الناس يفقدون القيم الاجتماعية والمثل العليا التي من المفترض أن تسود مجتمعهم, كالتراحم والتلاحم والتفاهم والتسامح, ليجدها قد صارت في عداد الأحلام والأوهام, ويضيف أن مجتمعاً بهذه الصفات أشبه ما يكون بمجتمع القطط الأليفة التي قد نسيت المواء كوسيلة للتعبير عن الحاجة أو الرفض.

عن مجازات التراحم والتلاحم

والتفاهم والتسامح والتباحث

والسلامات وأوهامي الحصيفة

عن بقايانا التي قد عودتنا

أن نعيش بلا مواء

مثلما القطط الأليفة

 

    وتأتي النتيجة على درجة عالية من السّرعة, فوطن هكذا أهلوه, يرتسم في ذهنية الشاعر كبيت متردم لم يبق منه إلا الطلل, ليقف الشاعر على أطلاله متحسراً ومهموماً على هذا الوضع المزري, وهو في توضيح الصورة ومحاولة إجلائها يبدو كمن ينحت في الصخر, وفعل النحت وصعوبته لا يخفى على ذي لب, ليقرر نتيجة هو يعرفها, وعلى أهل البيت معرفتها, إن الذئب لن يتخلى يوماً عن صفاته حتى لو لبس العمامة وبدا بصورة أخرى غير التي نعرف, فالذئب يبقى ذئباً  ينتظر من الشياه القاصية لينقض عليها, وهذا تناص يذكرني ببيت شعر للمتنبي بات قولاً مأثوراً:

" إذا رأيت نيوب الليث بارزة  -  فلا تظنّن أن الليث يبتسم". فنراه يقول:

فاندب الأطلال

وأنحت فوق ردم لم يزل أثراً

بأن الذئب لو لبس العمامة

لم تكن يوماً نواياه شريفة

 

       ويتابع الشاعر تفاؤله الحذر, ويحاول من باب التمني رسم صورة لمستقبل باسمٍ مختلف عن الحاضر, معرباً عن أمله في تغير الحال في قادم الأيام, فهو يؤمن أن الماء القادم للسد مختلف, يحمل بين جنباته ذرات نواتها التغيير, وأن العاصفة لا بدّ قادمة وستشعل النيران, فغداً ستهب الرياح العاصفة والشديدة المحملة بالمطر, وما استخدامه لعبارة " بارتفاع الموج في النّوّة, إلا إفصاح عن هذا المعنى, وسيقترن هذا الوضع بصدورٍ تختزن قلوباً ثائرة متأججة, ستنفجر يوماً مثل القذيفة, لأنها لن تحتمل سوء الوضع إلى ما لا نهاية.

فأعتقد بالماء خلف السّد

بالنيران في حطب تأجّج

بالرياح إذ تهب وتنتقي شكل العواصف

بارتفاع الموج في النوّة

بالصدور الموغلات

إذا انفجرن كما القذيفة

 



 

     

 

 

 

 

  

   

 

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016