-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية
  • جديد الموقع
  • جاري التحميل ...
  • جديد الموقع
  • التونسي علي اللواتي جعل الشعر يقول ذاته مستضيئا بالمعرفة

    الشاعر والمترجم التونسي علي اللواتي (صفحة الشاعر على فيسبوك)


    محمد الغزي

    برز الشاعر التونسي علي اللواتي خلال السبعينيات من القرن الماضي بوصفه أحد الشعراء الذين عملوا على تجديد الخطاب الشعري في تونس وضخّ جذعه اليابس بماء الفكر والروح. واحتفالاً بمكانته في الحركة الشعرية التونسية والعربية أقام المركز الثقافي في مدينة الحمامات ندوة فكرية حول اللواتي الشاعر والمترجم وكاتب الدراما، وشارك فيها خلال يومين عدد من الكتّاب والشعراء والنقّاد تناولوا بالدرس تجربته الإبداعية في تنوعها وتعددها .

    دأب علي اللواتي، وهو المتأثّر بمبادئ المدرسة الرمزية الفرنسية، على الدفاع عن نمط من الشعر مخصوص، وهو الشعر الذي يقول ذاته قبل أن يقول ما هو خارج عنه، شعر يتجاوز كلّ ما استتبّ من أعراف لغوية وتقاليد شعرية، مؤسّساً بذلك طريقته المخصوصة في سياسة اللفظ وإجراء الكلام، مناهضاً، في الوقت ذاته، الشعر الذي كان يعمل على ردّ الأدب إلى أصل يَقَعُ خارجه، ويتجلى هذا النمط من الكتابة أقوى ما يتجلى في الشعر الملتزم حيث يتصدّر مقولُ القول (المضمون) الكتابة الشعريّة بينما تتراجع طريقة القول (الأسلوب) لتتحوّل إلى مجرّد أداة.



    جسدت قصائد اللواتي تصور جيل السبعينيات لفعل الكتابة. وهي الكتابة التي تستضيء بالمعرفة، المعرفة على وجه الإطلاق والتعميم، لتصوغ خطابها الشعري، متنكبة عن الانفعال العاطفي الذي ظل مصدر القصيدة لدى شعراء الخمسينيات والستينيات، الذين بقوا على صلة وثقى بالحركة الرومنطيقية على رغم أفول نجمها وذهاب ريحها. وقد شدت قصيدته "حديث الحجارة البحرية"، انتباه الدارسين بلغتها الجديدة ورموزها المختلفة ومناخاتها الأسطورية التي لم يألفها الشعر التونسي من قبل: "أتيناك ليلاً/ فما انتبه الحرس الماجنون إلينا/ وما شتمونا وما لوحوا بالمصابيح كانوا/ جذوعاً على السور يسندها الضعف والكبرياء/ وخوذاتهم في بيوت السلاح/ تحرّكها في الظلام الرياح".

    ميتولوجيا مفتوحة

    هذه لغة جديدة، لم يكن للشعر التونسي عهد بها من قبل، لغةٌ تشع بدلالات مثيولوجية مفتوحةٌ على شتى التأويلات. تشد مقاطعها بنية سردية لا تخطئها العين، لكأن القصيدة نص مجتزأ من كتاب تاريخي قديم يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة والحلم بالواقع والممكن بالمستحيل.

    إن شعر اللواتي استرفد التاريخ والفلسفة وتشرّب الرموز والأساطير وأفاد من الكتب الدينية. فهو شعر الأوابد تتعاوى في البراري والنباتات التي لا أسماء لها والحضارات التي أسّست للذاكرة الإنسانية. فاللواتي قارئ نهم لا تقتصر قراءاته على الشعر بل تتجاوزه إلى حقول معرفية كثيرة مثل الفلسفة والأنثروبولوجيا والموسيقى والفنون التشكيلية وأدب الرحلة والسياسة. ولكأن غايةَ القصيدة التي جمعت عناصر مثيولوجية شتى، إيقاظُ حسّ الدّهشة في القارئ وتشكيكُه في تأويلاته النهائية للأشياء ودفعُه إلى النّظر إلى العالم بعينين جديدتين. ومن أجل تحقيق هذا الهدف عمدت القصيدة لديه إلى استرفاد رؤاها وصورها ورموزها من آفاق أسطورية وخرافيّة ودينيّة مختلفة. صحيح أن الشاعر لم يستلهم أسطورة بعينها كما كان الشأن بالنسبة إلى الشعراء الروّاد، وإنما عمد إلى أسطرة اللغة، وإلى خلق مناخات ميثيولوجية داخل القصيدة، أو لنقل إن الشاعر بات يخلق أساطيره الخاصة عوض أن يتكئ على أساطير قديمة ليعيدَ توظيفَها أو اقتباسَها: "وظالمة أنت بين المدائن تستمرئين/ لحوم الطيور/ وحانثة في الصنيع وفي القول إذْ ترفعين عجافَ العجول/ وتبقى صلاتك فوق الرخامْ/ هباتك يأكلها العسس الخاملونَ/ بآخر ليل/ ويجتمع البوم من حولها".



    لم تعد القصيدة وعاء يضم مجموعة من المعاني الجاهزة وإنما أصبحت حضوراً في العالم، مادة تشغل حيزاً فيه. تقول نفسها قبل أن تقول شيئاً خارجاً عنها. وهي بذلك تؤكد أنها سليلة القصيدة الحديثة التي تنكّبت عن شعر الاعتراف والبوح وأقبلت على شعر يستضيء بنور الإدراك العاقل والخبرة المعرفيّة الناقدة، قصيدة لا تغنّي بقدر ما تتأمّل وتستبصر، ولا تنشد بقدر ما تفكّر وتستقصي.

    قصيدة النثر التونسية

    وقد لا أبالغ إذا أضفت إن اللواتي كان من أوائل الشعراء التونسيين الذين كتبوا قصيدة النثر في تونس بوعي حداثي جديد. وقد كانت قصيدته "زمن اللوز على ضفاف الغدران" من النماذج المشرقة لهذه القصيدة في المدونة الشعرية التونسية: "بديع ملكك يا زمن اللوزعلى ضفاف الغدران/ الطحالب تفرش الصخر بمناديلها الفارسية/ والنوم يغزل حريره الفضي على الذاكرة/ اليوم نسكن كالأجنة رحم المياه/ في سجنها الجبلي/ نجئ بابك في الفجر/ يقضى لنا/ وتنتقل إلى القلب أقاليمك المقدسة".

    لقد بدت هذه القصيدة، غريبة، مفاجئة، مدهشة لسببين اثنين يؤولان إلى سبب واحد: السبب الأول هو أنها تنتمي إلى قصيدة النثر. والحال أن القصيدة السائدة في تونس في ذلك الوقت هي القصيدة الموزونة سواء أكانت قصيدة تفعيلة أم قصيدة الشطرين. والسبب الثاني هو أن هذه القصيدة حفرت لنفسها، داخل قصيدة النثر، طريقها المخصوصة من دون أن تستلهم قصيدة الرواد من شعراء مجلة "شعر". فقصيدة اللواتي بلغتها الفردوسية ومناخاتها التوراتية تذكرنا بـ"نشيد الأنشاد" مرة وبـ"سفر الجامعة" مرة أخرى.



    على رغم كل هذا يلحظ المتابع لمسيرة الشاعر علي اللواتي تهيبه من نشر شعره، فقد اكتفى بنشر مجموعتين شعريتين، أولاهما كما أعلن عن ذلك في المقدمة، كانت مختارات انتقاها من نتاج سنوات قطعها في صحبة الشعر على حد عبارته. لكنه في الوقت ذاته تعاطى الشعر بطرائق أخرى مختلفة منها ترجمة الشعر. وترجمة الشعر عند اللواتي هي في المقام الأول كتابة للشعر عن طريق طرف ثان، فكانت ترجمته الاستثنائية لسان جون بيرس أنموذجاً لهذه الترجمة الشاعرة. كل من قرأ هذه الترجمة لا بدّ أنه اكتشف في ثناياها حسَّ اللواتي المرهفَ باللغة، غنى معجمه الشعري، إحاطتَه بأسرار اللغتين العربية والفرنسية. وقبل كل هذا وبعده شغفَه الكبيرَ بشعر سان جون بيرس. لهذا يمكن نعتُ ترجمته بالترجمة العاشقة، وقليلات هن الترجمات العاشقات في ثقافتنا العربية: "ولد مُهرٌ تحت الأوراق البرنزية/ رجلٌ وضع هذه العنبيات المرّة في أيدينا/ غريباً كان، يعبرُ سبيله وها أنّ ضجةً كبيرة/ تقوم في شجرة برنزية/ قارٌ وورودٌ هِبة النّشيد/ رعدٌ ومزاميرُ في الغرف... آه/ يسرٌ عميمٌ في سبلنا، آه، حكاياتٌ كثيرةٌ/ للسنة والغريب في أطواره عبر ثنايا الأرض كلّها/ تحية يا ابنتي تحت أجمل أثواب السنة".

    هجرة الشعر

    هكذا تستضيف اللغة العربية نصاً هاجر إليها من قارة ثقافية أخرى من دون أن تطمس قواه الاستعارية والمجازية الساحرة، ومن غير أن تحوّل لألاء ناره إلى رماد. هذه الترجمة لم تكن حدثاً ثقافياً فحسب، بل كانت إحدى الترجمات التي تميزت بدقتها وسلامة نقلها من غير أن تسفح ماء الشعر في النص العربي، وكانت أيضاً حدثاً شعريّاً. فبعد نشرها استلهم نصَّها الكثيرُ من الشعراء واسترفدوا لغتها ومناخاتها الشعرية العجيبة. ولا أبالغ إذا قلت إن هذه الترجمة وترجمة مصطفى القصري هما اللتان عرفتا القارئ العربي بالشاعر الفرنسي سان جون بيرس، وبتجربته الشعرية المهمة. ولئن اختار القصري الأسلوب القرآني في ترجمته لسان جون بيرس على اعتبار أن هذا الأسلوب القرآني هو الأسلوب الملحمي الوحيد في ثقافتنا العربية، فإنّ علي اللواتي اختار لغة القصيدة الحديثة ليقول أسلوب سان جون بيرس، متجنباً البلاغة التقليدية التي تورط فيها القصري وهو ينقل شعر بيرس إلى اللغة العربية.

    لكن اللواتي لم يتعاط الشعر في الترجمة فحسب بل تعاطاه أيضاً في الكتابة الدرامية التي أتاحت له أن يدخل إلى كل البيوت التونسية وربما المغاربية. لكأن اللواتي قد بات مقتنعاً أن الشعر لا ينحصر في القصيدة بل بات موزّعاً في أقاليم فنية كثيرة، وربّما كانت الدراما قالباً من القوالب التي يتجلّى من خلاله الشعر تماماً مثل القصيدة، وإنْ في صور وأساليب مختلفة.

    كتب اللواتي الدراما الاجتماعية بلغة مفعمة بالشعر وهذه الدراما كانت تنطوي، في كل نماذجها، على حنين إلى زمن مضى وانقضى يسعى الأبطال إلى استرجاعه من دون جدوى. ثمة في هذه الدراما شيء من مسرح الفودفيل الذي يتخذ من الطبقة الوسطى منطلقاً لمشاهده الهزلية الضاحكة... لكن فيه أيضاً شيء من المسرح اليوناني القديم حيث تبدو الحياة هشة، قابلة للانكسار في كل لحظة.

    كل هذا يؤكد أن اللواتي كان شاعراً في كل المجالات التي كتب فيها، فالشعر هو الأصل الذي منه انحدرت بقية الأجناس الأدبية الأخرى انحدار الوليد من الوالدة. فهو جنس الأجناس، الذي بسط ظلّه على كلّ كتابات اللواتي الأخرى.

     ______

    اندبندنت عربي

    إرسال تعليق

    التعليقات



    جميع الحقوق محفوظة

    العهدة الثقافية

    2016