يعيش ليَكتُبَ، ويكتُبُ ليعيش
- عن أخي وصديقي الشّاعر أحمد الخطيب-
..
إنه لَمِنْ يُمْنِ الطّالع، كما أنّهُ من واجب الأُخوّة والصداقة، أنْ أَقول كلمةً قصيرةً عن صديقي الشاعر أحمد الخطيب، عن الشاعر وشِعرهِ...
عرفتُ أحمدَ في نهاية الثّمانينيّات من القرن المُنصرم. يا لها جملةً مخيفةً (القرن المنصرم) !!! عَرَفْتُ أحمدَ، وصار بيني وبينَهُ وُدٌّ عميقٌ، وصداقةٌ متينةٌ، وأُخوّةٌ راسخةٌ، لم يُعكِّرْها ما يُعكِّرُ الصّداقات والأُخوّاتِ، طَوالَ هذه السّنينَ، من نَزَقٍ أو طيْشٍ أو نِزاعٍ أو تحاسُدٍ أو تخاصمٍ يُفضي إلى ما يُكرَهُ.
ولعلّه لم يكن لي فضلٌ كبيرٌ أو صغيرٌ في هذا الأَمر، فأحْمَدُ، على ما يعرِفُهُ كلُّ مَنْ عَرَفَهُ عن قُرْبٍ، طيّبُ النَّفْسِ نبيلُها، حُلْوُ المَعْشَرِ، كريمُ الخصالِ والخِلالِ، يُقْبِلُ، إن أَقْبَلَ عليك، بكُلِّهِ، لا يستثني شيئًا ولا يستأثِرُ بشيءٍ، ويرمي نفسَهُ فيكَ حيثُ تُحِبُّ، على ما تُحِبُّ. وأمّا شِعْرُهُ فعلى ما عَرَفْتُ وعرفْتُم من شِعْرِهِ، منذُ أن بدأ يكتبُ الشِّعرَ قبلَ أربعينَ عامًا أو يزيد، بدافع الغيرةِ من أخٍ له يكْبُرُهُ بعامين، وهذه مصادفةٌ عجيبةُ حقًّا، إذْ هكذا بدأتُ، أنا أيضًا، أكتُبُ الشّعرَ، يومَ بدأْتُ، غَيْرةً من أخٍ لي يكبُرُني بعاميْنِ أَيضًا!
ولأحمدَ، فيما أحسبُ، ثلاثةٌ وعشرون ديوانًا من الشّعر، وثلاثةٌ وعشرونَ ديوانًا قد يُخطئُ في حِسبتها الحاسبُ بلا تثريبَ عليه. غيرَ أنَّ مَن عَرَفَ كيف أَقْبلَ أَحمدُ بمجامعِ نفسِهِ على كتابةِ الشّعرِ، وأَوقَفَ نفسَهُ عن ذلك لا يكادُ يُزاحمُ انشغالَهُ به انشغالٌ بغيرهِ...من عَرَفَ ذلك كان كافيًا ليَجِدَ تفْسيرًا مُقْنِعًا لغزارةِ إنتاجِهِ. وليس المتفرِّغُ المُتَهَمِّمُ للشّعر كالمشغولِ المتعطِّلِ تَقْطَعُهُ عن شؤونِه القواطِعُ، وتصرِفُهُ عن شجونِهِ الصّوارِفُ، وهي، لَعمْري، كثيرةٌ في زماننا هذا!
ظلَّ إخلاصُ أَحمد لكتابة الشّعرِ قويًّا ودائمًا، كأنّهُ يعيشُ ليكْتُبَ، أو يكتُبُ ليعيشَ، تلكَ طريقتُهُ في العيشِ والكتابةِ، كأنّهُ خليَّةُ نحلٍ حياتُها صُنعُ العَسَل، أمّا صديقي فأَزْهارُهُ الكلماتُ، وعَسَلُهُ الشّعرُ يجنيه من حيثُ ما أَطاقت أَجْنِحةُ إيقاعِهِ التحليقَ، ومن حيث ما أطاقَ قلبُه الشّغفَ ، به يَشْفى، وبه يَمْرَضُ، وتلكَ طريقتُهُ في المُراوحةِ المستغرِقة بين الدّاء والدّواء!
منذُ ديوانِهِ الأول (أَصابعُ ضالعةٌ في الانتشارِ) أسْلَمَ قلبَهُ لأَصابِعِهِ، وأَفْضى إلينا بنبوءته المُبكّرةِ عن انتشارِ شعرهِ وذُيوعِهِ بين النّاس، وهذا ما كانَ، على ما سوّلَ إليه يقينُهُ يومَها!
ظلَّت أصابعُهُ قابضةً على قلْبِهِ المتضرِّمِ بأَهوالِ الحياةِ وجمْرِها، تُدْمِي وتَدْمَى، لتكتُبَ لنا سيرةَ سُبُلِهِ وأَيّامِهِ في تضاريسِها الصّعبةِ القلِقةِ، وسيرةَ جبالِها الخافتةِ في سِلالِ القُرى... كتابةً تطفَحُ بالشّعرِ بقدْرِ ما كانت تمتلئُ نفسُهُ فتفيضُ، وبقدرِ ما يختبِرُ قُدْرَتها على الحياةِ في الشّعرِ، وإمكانيّاتها غيرَ المتناهية في تعالقِ الكلمات على غيرِ ما اعتادتْ ذوائقُنا فيما قرأْناهُ من شعر... تلكَ طريقةٌ في الكتابةِ لم نعتَدْها من قبل، يستعصي علينا توصيفُها لأسبابٍ عديدةٍ يرجِعُ أكثرُها إلى تصوّرهِ هو للشّعر، كيف يكون؟وبم يكون؟ ومن أيِّ بابٍ يدخل؟ وهو تصوُّرٌ لا نكادُ نقبِضُ عليه بالحكُمِ النّقديّ، ونحبسُهُ في قيود الفهمِ إلا وقد فكَّ أغلالَهُ وابتعَدَ عنا ساخرا غيرَ عابئٍ بحيرتنا وضعْفِ مُنَّتِنا.
وقد مضى زمانٌ طويلٌ منذ أنْ درَّبْتُ نفسي على متعةِ الاستماعِ إلى شِعْرِهِ أو قراءتِهِ، استماعًا وقراءةً لا تُفْضيانِ، بالضّرورةِ، إلى النّتائجِ نفسِها التي أُفضي إليها مُستَمِعًا لشعْرِ غيرِهِ أَو قارئًا له. فإنّ من الجمالِ ما لا يكادُ يُفسَّرُ، ولا تَهْجُمُ إليهِ المعْرفةُ أو يُنالُ بالفَهْمِ نيْلًا ينامُ محاولُهُ بعدَها قريرَ العيْنِ خاليَ الهمِّ. صارت قراءتي لشعرِ أحمدَ( نظرًا رطبًا) على حدِّ تعبيرِ ذي الرُّمّة، نظرًا رطبًا إلى غيمةٍ بيضاءَ عابرةٍ في سماءٍ زرقاءَ في يومٍ مُشْمِسٍ صافٍ، وأنتَ إنْ انشغلتَ بمحاولةِ إثباتِ شكلٍ محدَّدٍ واضحٍ مفهومٍ لتلك الغيمةِ شَقِيْتَ وأَشْقَيْتَ منْ ينتظرونَ منكَ وصْفَها وإثباتَ شكلِها، ثمَّ فَوِّت، بعد ذلكَ، على نفسكَ فرصةَ الاستمتاع بها كما هي: غيمةٌ بيضاء، تعبُرُ في سماءٍ زرقاءَ، في يومٍ صافٍ مشمسٍ، لا تألو على شيءٍ غيرَ أنْ تعْبُرَ وتتقلَّبَ في نفسِها وتتموّجَ في صورٍ وأشكالٍ تندُّ من الإثباتِ والحصرِ، لا معاجَزَةً، بل لأنّها طريقةٌ ممكنةٌ في الكتابةِ، واقتراحٌ غيرُ مألوفٍ للشّعر؛ أنْ يكون غيمةً لا تكادُ تُمْسَكُ بها صورةٌ فيضبطَها ضابطُ النّقد إلا لِمامًا. وأسهلُ للنقد أن يحرُثَ الشّعرَ الذي هو أرضٌ لا غيمةٌ.
وأَمرٌ معروفٌ، لا خلافَ فيهِ، أنّ تجربةَ الشّاعرِ، أيِّ شاعر، تنمو وتتطوّرُ وتكبَرُ وتتّسعُ حدودُها مع الوقت، وليست تجربةُ أحمد الشعريةُ بمنأىً عن هذا كلِّه في كلِّ ما كَتَبَ،وإن كنتُ، وما زلتُ، أكثرَ انشدادًا، وأوثقَ آصرةِ رحمٍ بدواوينِه الأُولى لأسبابٍ تتّصل بمزاجي الشّعريّ الخاص، وبتهمّمِ النّاقدِ فيّ للفهمِ إرضاءً لعقلِهِ، غرورًا، إن شئتَ، أو حقًّا مشروعا! ومن الّلافت للنّظر أنّ دواوينَ أحمد الأولى لم تقع في فخاخِ الضعف الذي يشوبُ، عادةً، أوّلَ تجارب الشّعراء ، بل جاءت على قدرٍ كبيرٍ من النّصْحِ والتّميز والفرادةِ، وقلّما يقعُ مثلُ هذا لأحدٍ من الشّعراء المحدثين، وأيًّا ما كانت انتحاءاتُ أحمد الشّعريّة فقد ظلّ، على كلِّ حال، صوتًا منفردًا متميّزا في كلّ ما كتب، وظلّت قصائدُهُ قادرةً على أنْ تأْخُذَ نفْسَكَ منكَ إلى عالمِها المحتشدِ بخيالٍ غزيرٍ خصبٍ لا يكادُ يُدانيهِ في غزارتِهِ وخصوبتِهِ شاعرٌ معاصرٌ فيما أعرف. خيالٌ يترتّبُ على وفقِ إيقاعٍ متمرّسٍ ذكيٍّ، وجامحٍ عارمٍ لا يبالي أينَ يقودُ صاحبَهُ، كما لا يُبالي صاحبُهُ إلى أيّ أرضٍ يقودُهُ إليها هذا الإيقاعُ، فخطاهُ/ كلماتُهُ جاهزةٌ مُستفزَّةٌ دائمًا، ومحتشِدةٌ متحفِّزَةٌ لتلبّي نداءَ اندفاعِه في رحلةٍ تفضي به إلى حيثُ أَفْضَتْ، لا يهمُّ، ما دامت توفّر له متعةَ اللعب بالكلمات، وبناءِ صورٍ بها من القريب المألوف، أو البعيد غيرِ المألوف.
يكتبُ أحمد الشّعرَ لأن كتابةَ الشّعرِ فَرَحٌ ممكنٌ، وأنتَ لا تخطئُ، وميضَ ذلك الفرحِ في عينيه إنْ أنتَ زُرْتَهُ في بيتِه، وكنتَ قريبًا منه، بحيث لا يمنعُهُ احتشامُهُ أو ضِنّتُهُ من أنْ يقرأ عليكَ آخِرَ ما كتَبَ بوجهٍ مملوءٍ بالفرح والابتهاج، فللكبارِ أيضا لُعَبُهم، وإنْ كانت أكثرَ تعقيدًا من لُعَبِ الصّغارِ، لكنّها تُسْلمُ إلى الفرح نفْسهِ!
هناك يقرأُ لك أحمدُ جديدَهُ فَتَسْمَع وتَعْجَبُ، وتسري فيك قُشَعريرَةُ الشّعر، ويروحُ بك ويجيءُ وأنت على مِقْعَدِك تشرَبُ الشّاي، وتشْحَذُ حواسّكَ، وتدخِّنُ، إن كنتَ مثلي مُدخِّنًا، ويأخُذُكَ إلى عوالمَ يُجيدُ بمهارةٍ لافتةٍ صنعَها وتلوينَها بأصباغِهِ الأحمديّة البارعة الغنيّةِ التي تَبْهَرُ القلبَ قبلَ العين.
ومن الشّعرِ ما يُرضيكَ من غنيمته بالوقوفِ على تُخومِهِ مراقبًا لحوادثَ تحدثُ فيه أمامَكَ، وخيالٍ يُسْلِمُكَ لحيرةٍ مُدْهِشةٍ أو دهشةٍ مُحيّرةٍ، لكنك تلتذُّ به، التذاذَك بشِعر أحمد، رغمًا عنكَ.
ذاك صديقي النّبيلُ وذاك شعرُهُ، باختصارٍ هو للإخلال أقرَبُ، ولطالما من قبلِ هذا اليومِ كرَّمَتْهُ نفوسُ أصحابه، وهم كثرٌ، بأنْ أنزلوهُ منهم منزلةَ الأخ والصديق، وكرّموا شعرَهُ بأنْ أحبّوه، واحتشدوا له، ، ورأوا ما فيه من فرادةٍ وتميّزٍ واستحقاقٍ. وتلك، من قبلِ اليوم، تكرِمَتُنا الحقيقيةُ لأحمد، فإن زاد على ذلك أنْ تكرِّمَهُ دولةُ السّودان بجائزة" الطيّب صالح" العالمية للإبداع الكتابيّ في مجال الشّعر.. فخيْرٌ على خيرٍ، وتذكيرٌ، لمن لم ينسوا أصلاً، بأهميّة تجربته الشعرية، لكنه تذكيرٌ (طيّبٌ) على أيّةِ حال، واستحقاقٌ لا مِراءَ فيه، ولو أنه تأخّر زمانًا طويلاً .
إرسال تعليق