-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

الجائحة وكيمياء العزلة أحمد الخطيب

 

 الحكاية لم تتسع لقالب جديد مبتكر، فهي الحكاية التي لم تعبر بعد أروقة المجالس، لما تمثله من قسوة غير اعتيادية، رهن الإنسان نفسه لمحور تحولاتها، وتحوّل محاورها، لكثرة انشغالاته بتأثيث مفرداتها.

    بدأت الحكاية في يوم غائم، حين قرّر الفتى أن يجوب شوارع المدينة، وأن يتلمّس حصى الكائنات التي تتدحرج في مياه الأزقة الترابية في مثل هذا الوقت، نظر في الأفق، ثمة طائر لا لون له، ثمة عارض ممطرنا، ولكن لا شيء يشغله عن التفرّس بالأمكنة وحوانيتها، نظر ثانية في الأفق، ثمة أقواس بريّة لم يرها من قبل، ثمة عارض مقبل من قيعان الأنفس، ثمة منزلق قادم، هكذا، وبعد أن ضبع الزمن السريع، حطّ رحاله على ساحة الميدان، قرب دوّار الساعة، نظر خفية إلى عقاربها، كانت جامدة، ليس من تعب، ولا برد، ولا من تضاءل الكهرباء في عروق النحاس.

   فجأة، انقلب كلّ شيء، عاد إلى البيت، استرخى على الأريكة، نظر خلسة إلى باب البيت الذي أغلقه بإحكام للمرة الأولى في حياته، كأن شيئا يحدث في ضمير العالم، أو كأن تأويل أيامه السابقات حلّ في متون الحكاية.

   المتخيل الذي كان يراوده على غصن شجرة في العادات اليومية للمجتمع، يسطع بقوة النشوة أن حدثا قادم ، حدثا يكاد يعصف بكل شيء، ليس له شبيه، ولم تألف موجته الأجيال الجديدة، غير أن ثيمة الاعتياد تشكّل ملاذا آمنا.

   كانت الجائحة في البدايات لعبة يومية للتفاعل مع كيمياء العزلة، حوارا مع الواقع على ما هو عليه، نسخ الحكاية 

التي تتناقلها الألسن، الإصغاء إلى ذبذبات القلب، مشاكسة أهل البيت الذين كانوا يتعلّقون بأنهار من عسل الحياة، العبور إلى أثقال الأحمال اليومية للعائلة، التفاعل مع حركة أبناء

 الحي، عن بعد، وهم يجوبون الشوارع بحثا عن حيواتهم اليومية التي ربط على قلبها كلمح بالبصر، أما الآن فأصبحت حالة مرتبطة بالأنساق الاعتيادية، النوم، الصحو، وممارسة الرياضة المنزلية، واللجوء إلى التلفاز للعبور إلى لحظة طمأنينة، والآن ها هو الفتى يكتب في سياق هذه الحالة، فالكتابة لحظة اتصال تفاعليّ، يصطفيها المبدع اصطفاء نورانيا للوصول إلى موائد التجريب، يكتب وهو

 منشغل بهذا النزق السريع المباغت الذي يمرّ على شبكة الحياة، يرصده، وحين يضارع طيفه العابر، تراه يحيط نفسه بكل مفردات العبث،

 فالمادة الأولى للكتابة لا تأتي من نظام صارم يفرضه المبدع على نفسه وعلى حروفه، ها هي الجائحة تفعل ذلك، بل من عبثية يظنّها المرء للوهلة الأولى كتابة طفولية لا هدف ولا مسار لها، ولكنها في حقيقة الأمر كلام ناسخ لهيمنة الواقع، يمرّ في

 شعابه، ثمّ يستوي على ما يريد.

   إذن هي الجائحة التي لا يعرفها الفتى، ولم يسبق أن مرّ بمثيلاتها، والآن يقيم على كرّاسها القابض على إيقاعه اليومي، وهي الجائحة التي كان يظنّ أنها غيمة صيف عابرة، تنشف حيواتها من حنجرة المفردات التضامنية مع النوازل، جائحة اعتيادية كتلك التي تضرب المجتمعات في الحروب المؤقتة، جائحة تنظر للطيور ولا تمعن النظر خارج سياق الفخاخ، جائحة يحتاجها الأطفال للتلصص الجميل على غزالة الأم تعبها، وفخاخ الأب وحكمته، أو جائحة بريّة عابرة إلى شؤونها الدنيوية، جائحة حصّنت الفتى، وأقول حصّنته، لأنها كانت تمارس مداراتها للوقوف مع الناس وهمومهم، مع العشّاق وأسرارهم، لتشكّل فيما بعد حصنه المنيع في دوائر التوجس من العادات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، حتى ظنّ الفتى أنه لن يجد غيرها مؤنسا

   إذن كان لا بدّ لهذه الجائحة أن تأخذ مداها، ليعاين الفتى هذه التحولات منذ قيامتها الأولى، كان لا بد لها من كسر ذلك الروتين الذي ترك أثره في لعبة العبور من بوابة الصباح حتى بوابة المساء، كان لا بدّ لها أن تقيه عثرات التكرار، وأن تخلد إلى نفسها بنفسها، وأن يحيا الفتى كما يريد لا كما تريد الجائحة، من هنا كان لا بدّ أن يمارس فعالية الركض في المناطق الشائكة التي يحتاج أن يراودها عن نفسها، فلا نصّ دون مشاكسة، ولا  معنى دون مراوغة، ولا موسيقى دون الإنصات إلى عصافير المخيّلة.

   وبما أن الجائحة مكابدة وجودية يومية، إذن لا بدّ أن يسعى الفتى إلى خيارات أخرى، يقف على أجرامها، ويتراسل مع حركتها السريعة، مما يشكّل حاجزا شفيفا من خلاله يتهيّأ للعبة التمارين ليصل إلى الشاطئ الذي سيحطّ عليه رحاله وطمأنينته واستقراره على معنى جديد للحياة، وليس على المعنى الذي شكّله الزمن، فاللحظة تحتاج كما يرى أن  يندفع تجاه تكسير المعتاد، ويتأمل الجبال والمنحدرات، فهو  وليد هذه الجائحة، لهذا فالمعاني التي يطرحها مراوغة غير مستقرة.

   على نحو ما، كان الفتى واثقا من صليل التجربة، راقب شقوق الجائحة وهي تتمدّد، وراقب الحياة الجديدة التي نسجتها يد الحظر، الشوارع الخالية إلا من الجنود المجهولين الذين يغسلون الهواء من أجل الحياة، الجنود الذين يضحّون بأرواحهم، وهم يندفعون فرادى وزرافات للوقوف بوجه طوفان الجائحة، الجنود الذين رابطوا وصبروا،  هل ثمة رابط بين الواقع والحدوس التي تشير إلى نهاية الجائحة، أظنّ ذلك، بل أكاد أجزم أن الشقوق التي كانت تتمددّ في جسد الحياة، ما هي إلا خريطة بصرية لتلك الحدوس التي كشفت عن طقسها

الأول.

   إذن من أين يبدأ الفتى، من هذه البرقية التي بدأت مبكرا، وهو مثقل بمرارات كثيرة ما زالت تراود العالم بأسره، أو من غربة فرضتها الجائحة فقادته فيما بعد إلى ضفاف التأمّل، وكلاهما حاضر في عروق الدالية المثمرة التي نشرت فروعها في كلّ مفاصل الحياة، إلى أن استقرت على أرض، خضراء خضراء، إلا من بعض الشوائب التي يهاجمها الخريف بغتة، ولكنها مع ذلك استشعرت الحقيقة من عصفها الأوّل، فنامت الطيور مطمئنة، إلى أن نفخت الجائحة في قصب التحوّلات، فكان لا بدّ لهذه المثابرة أن تساير حاجة الفتى، فأصبحت المنازل حدائق أخرى، تنطوي على مجازات واستعارات وانزياح، أو بالتحديد تنطوي على حكاية يومية يحرّك الفتى مفرداتها كما تشاء له المخيّلة، إنه التعاضد والتكافل الذي استقام معه دون تراسله في مخيال القول وحدوسه، التكافل الذي فتح للفتى آفاقا للنظر إلى عين الشيء، والذي تقاطع مع كلّ ما يقع تحت حركة الحياة، هكذا أصبح الفتى ينظر لعالم اليوم، عالم ما بعد الجائحة، ويحاول أن يلحق بهذه الجائحة أرواح المعاني، ومتانة التشكيل، إذا ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ليقف على عادات جديدة لها مؤثراتها وتحولاتها وتغيراتها وأنسنتها، يولد، وينمو، ويكبر، ويضارع الواقع الجديد، ويتأمل، ويسافر، ويعود محمّلا بكلّ منازل الحياة التي يطمح أن يستدرجها المجتمع من جديد بثوبها الجديد .

   هي هكذا نوازل الجائحة، مثولها، وعدم الاستعداد لميلانها، حطت بمنهل على روحه المتعبة أصلا، قاد جسمه بأناة وتصبّر، أخفق في تعليب الأيام، لكنه لم يدع لنقطة الصفر أن ترسم دوائرها على نزله الذي أضحى كابوسا، حين استمع إلى حكاية الجائحة، استدار كثيرا عن مرآته المعلقة على جدار الوقت، خفّض الصوت قليلا، لعل الذي يتبادر إلى قوقعة أذنه ما علق من حلم، أو ما تخيّله في نص إبداعي كان يفكّر أن يطرحه على البياض، ولكنها الحقيقة، الحلم، والحلم، الحقيقة، حقيقة أن ثمة أمر غير اعتيادي يجري في عروق العالم، وحلم أن لا يجد له تأويلا مناسبا، فهو لم يؤتى من علم التأويل شيئا.

   الجائحة إذن، هي التي تفرض أحكامها، تناول كسرة خبز غمسها بزعتر البيت، ربما تدرّب على قلة اليد وحيلتها، وربما ليشعر بالذين تقطعت بهم السبل، أو ربما ليؤكد مقولة " أن كلّ شيء له توازنه في الشدائد"، الجائحة، وما أدراك ما الجائحة، نسيان الحصى التي تجري في عروق الصباح والمساء، أو نسيان التسلل إلى المدينة كاشفا عن رغبته بالتمدد الاختياري، ولكن صورة الجائحة قلبت كلّ شيء على عقب، أصبح المعنى الاختياري غير قابل للتحقق، وأصبحت الشوارع خالية، حاول معها أن ينظّم صرّة الطيور التي أفلتها قبل أعوام وهو يدقق نصه الأخير، إلى ذلك أصبحت الضمائر حيّة، أو زاد تكشّف مسارها المغلق.

   عاد إلى مكتبته، لم ير مخطوطه الأخير، تناول أوراقا متناثرة هنا وهناك، كتب على عجل، كلنا في مركب واحد إذا غرق لن ينجو أحد منا، طوى الورقة ووضعها أمام جهاز الكمبيوتر، ثم فتح النافذة ومدّ أنفه للهواء، تنفّس قليلا، وغاب عن ذاكرة الماضي.

أحكم الباب، وهيّأ نفسه للمرابطة، كلكم على ثغرة من ثغرات الحياة، فلا يؤتينّ من قبلك، سألته زوجته، ما الذي تفعله، هل نحن في حرب؟، تبسّم وقال: بل أشدّ وطأة، اكفهرّ وجهها، جلست قبالة التلفاز بحثا عن مسلسلها الذي تتابعه من فترة طويلة، قال: هيّئي نفسك للبقاء طويلا في البيت، قالت: ما الذي يجري؟، قال: بيدنا كلّ شيء، إمّا أن نتكهّف في البيت لأشهر طويلة، أو نعود للحياة ببضع أيام طافحات بالألم والأمل.

   قبل ذلك كان الشارع متاحا للعب، والحارات مزدهرة بالحكايات القديمة، وبالأمل المشفوع بنهار قادم، قبل ذلك، قبل عصر الكورونا، كان الأطفال يستصلحون من التراب ما يجعلهم ينامون على حين غرّة، قبل ذلك كانت الأمهات ينسجن فصول اليوم، ويتهيّأن للحياة من جديد، قبل ذلك، كان الآباء يندلقون إلى الأسواق، إلى متاجرهم ومصانعهم، إلى كفاف يد سرّبت من غمامة في التاريخ، قبل ذلك، كانت المدارس واحة للأمان الفكري والثقافي، وكذلك الجامعات، قبل ذلك كانت الثقافة مناط الغرباء الذين يبحثون عن سلالم للصعود إلى أعالي الشجرة، قبل ذلك، كان البهاء يفتح حدائقه للسهر، لرؤية من غاب طيلة الأسبوع بحثا عن ذاته، قبل عصر الكورونا، كانت العصافير تحطّ على أسوار الحدائق، وأسلاك الكهرباء، وكانت الحيوات الوجودية كلها تدبّ على سيقان الحياة، ولكن ثمة أمر جلل، قال التلفاز، فأقفر من داره ملحوب، بعد ذلك صارت الشرفات مشاعا للجمال، ومضربا للحكايات التي يتراشقها الجيران، وموئلا للتأمل، ومحط تنفيس، ومحطة للنظر إلى الغيم الهارب، ومضافة للزيارات الخاطفة عن بعد، ومربعا لمحاورة الطيور التي أخذت فرصتها بالتنزّه في الشارع، بعد ذلك صار كل شيء نقيض نفسه، وصارت علامة الرضا " خليك بالبيت"، وصار القفز عن العادات مربطا للفرس، ومحارة للوثوب إلى مواجهة الجائحة، فيما صار الهواء إذ يدخل على حين غرّة إلى سريرك وأنت تقيس الأحلام بما سوف يأتي كيمياء للتعايش مع هذا المستجد.

   لم يعد بالإمكان أن يذهب الفتى إلى الحدائق العامة، ولم يكن بالإمكان الوصول إلى المقاهي والصالات والندوات، كان له حكايته مع الأشياء والأسماء، كان يؤثثها بألوانه الزاهية، يضيف إليها من فيوض السماء ما يضيء لها السطوح، كان للندوات مكانها الخصيب الذي ينبت في كل يوم شجرة، أعاليها ثمار من النصوص، كان يدفع بالمفردات إلى مضارعة الوجود، تأملا وإشراقا، كان يصافح أصدقاءه واحدا واحدا، وكأن الحنين والاشتياق ليس موقوفا على الانقطاع الطويل، أو الغياب المرهق للوجدان، كان كثير الإنصات لكلّ الطاقات الإبداعية، يفرح للعالي منها، ويمدّ يده لهؤلاء الذين تقطعت بهم السبل بين ضغط الواقع وفكرة الإبداع، وكان للمقاهي نهرها العريض الذي يجمعه مع أترابه للوقوف على فكرة ما، أو للحوار في مستجدات الحياة وتحولاتها، لقتل رتابة الزمن، لقراءة الحركة التي تجرف معها حقولا من الضغط النفسي، لم يعد بالإمكان أن يذهب  الفتى إلى كلّ ذلك، فالجائحة في الطريق، في الهواء، على مقعد هجرته سيدة قبل دقائق، على مقبض باب سيارة عبرت مسرعة إلى رزقها، على قميص أو بنطال تلبسه دمية وقفت بشموخ أمام محل في شارع السينما، على غلاف كتاب ينام مطمئنا على أرفف المكتبات، وقد مرّ شاعر لفت نظره الغلاف السماوي، فأخذ يقلّب صفحاته، على جريدة حاولت من خلال السبق الصحفي وعنوانه الموارب أن تجذب القرّاء، على هاتف محمول بيد عابر طريق احتاجه الفتى للاتصال بأخيه، بعد أن نسي هاتفه في البيت، على أوراق العملة التي أعادها له صاحب الدكان بعد أن اشترى حاجته، الجائحة في الطريق، والفتى مأخوذ بغمامة صيف، هطول عابر، وعقارب ساعة لا تفصح عن دورانها، الجائحة في الطريق، كل شيء توقف، الإيقاع اليومي للفتى، لم يعد صوت فيروز واحدا من الإيقاعات الجاذبة للذهاب إلى المقاهي، لم يعد الشباب المقبلين على الزواج ينتظرون حبيباتهم أمام صالونات التجميل، وعاد الشاعر والروائي والناقد من برجهم العاجي، ففتحوا الأبواب المغلقة،  لم يعد كل شيء كما كان، فاحتاج الفتى ومن معه من حيوات البيت والحارة والمجتمع لمتابعة التلفاز، قناة المملكة تحديدا، للوقوف على آخر ما تفعله حمّى زائرة العالم ليل نهار.

   كان للمقعد الخشبي في المدارس، أو المدرج الجامعي، الأثر الكبير في توليف العلاقة بين الطالب ومعلمه، كان لهما إيقاعهما الخاص في التلقّي، ولا شيء يضبط هذه العلاقة غيرهما، وكانت المقاعد الحجرية في ساحات الحرم الدراسي تشكّل فيما يذكر الفتى مرآة عاكسة لفرحه وقلقه، فكيف له أن يجلس أمام الحاسوب الصامت، وأن يدفع بمواسم الخضرة إلى صورة الكلمة وتشكيلها الجمالي،  كيف له أن يتصالح مع ضعف الانترنت، وانقطاع الكهرباء، كيف له أن يواجه الفيروس الذي يعطب الحاسوب وهو يتمدد عبر قنوات إعلانية أو إخبارية، أو روابط مزيفة، وكيف له أن يرى صورة المعلم وحركته وانفعالاته عندما يأتي على الجمال وهو يؤسس لإجابة كاملة ومقنعة، أو ينزوي في خانة الخطأ من حدّة تداخل المعلومات في رأسه المثقل بالهموم التي أنشأتها الجائحة، لكن الفتى، وفي لحظة يشوبها النقص الاستراتيجي لمثل هذه الخيالات، استيقظ على صورة ظنية قادمة من المثل الذي يقول " المرء على ما اعتاد عليه" .

   في لحظة سحريّة غامضة، انقلب كلّ شيء، فأصبح لكل مقام حال، ولكل دولة رجال، ولكل زمن أحوال، وما بين الأحوال والمقامات ثمة شطح كبير، ثمة نزق خارج حدود الواقع، ثمة أيقونة تتدلى من علّ، مليئة بالمحسوسات التي لا تأويل لها، كيف لهذا الفتى أن ينسج بين كيمياء الحضور وفيزياء الغياب، كيف له أن يعدّ فنجان قهوة لصديقه، كيف له أن يعبر الجدران الإسمنتية إلى الحديقة الخلفية للقاء عابر، كيف له أن يكتب بالخط الكوفي على المقعد الخشبي موعده مع طائر الحسّون بعد الآن، أيتها الجائحة ألا انتظرت قليلا، ألا عبرت سلسة مع الرياح الموسمية، ألا جلست معنا بسلام، أيتها الجائحة كيف للفتى بعد زيارتك المفاجئة أن يكتب رسائله وهو يخشى مصافحة الورق، لم يستعد لحضورك العالي، كنت سريعة الهبوب، وكنت جافّة لم تستوعبي هشاشتنا التي اكتسبناها ونحن في أسرّتنا الطينية صغارا، وهشاشتنا ونحن في السعي الطويل خلف الأرزاق الطائرة كبارا، كيف له أن ينحني ليميط الأذى عن الطريق، وكيف له أن يركض تجاه رجل عجوز ليمد له يد العون بعد أن اختطفت الطريق عكازه.

   كثيرة هي الغايات التي تنطوي عليها مجالس العزاء، لم يكن الفتى ليتصالح مع أي منها، كان يداهم فكرتها، رفضا للكثير من المستجدات التي تطرأ في حلقاتها، من استرخاء جماعي، وكأننا في حضرة القيامة، أو استقواء عقلي، وكأننا في قاعة للمناظرات، أو استجداء عاطفي، وكأننا أمام عدسات الكاميرا التي تنقل أخبار المعذبين في الأرض، أو استنساخ لصورة عزاء آخر فيه ما طاب من ملذّات العيش، وآخر ما يلفت النظر، يقول الفتى، إن أهل مجلس العزاء هم الذين يقومون على الخدمة، ويضيف:  اصنعوا يا أهل المجلس الطعام للمعزيين الكسالى، خوفا من سقط اللسان في مجلس آخر.

   من عادة الفتى أن يزور أخوته وأصدقائه كلّ أسبوع، فما الذي جرى، حمّى الليل والنهار في الطرقات، فهل يعقل أن تختلّ هذه العادة، وهل يعقل أن لا يتنسّم أشواق اللقاء، فكّر كثيرا، سأخرج في أوقات السماح، ولكن ما الذي يمنع فيروس كورونا أن يصطادك وأنت في الطريق، إذ لا يعني السماح انتهاء الوباء، ولا يعني كذلك أن تطلق لعاداتك أعنتها، كما لا يعني أن تكون عبئا على الآخرين الذين يواجهون الوباء بأجسادهم وأرواحهم، كن واحدا من الذين صبروا، يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب، وكن واحدا من الذين آمنوا أن العادات ليس لها حدّ، وهي قاتلة إذا لم يحسن التصرف معها، وكن واحدا من الذين لا يسرفون على أنفسهم، وكن واحدا من الذين اتخذوا لحياتهم مستنزلا جديدا للوقوف أمام هذه التحديات، ولا تغادر عاداتك، ولكن ضع لها استراتيجيات جديدة، فبإمكانك أن ترى أخوتك وأصدقاءك عبر البث المباشر الذي تتيحه وسائل التواصل الاجتماعي، وبإمكانك أن تكون فاعلا ومؤثرا في المجتمع عبر استعدادك لتقبل التطبيقات، وبإمكانك أن تتصفح كتابك الأثير عبر المواقع التي خصصت لهذه الغايات، وبإمكانك أن ترسل الصدقة والزكاة عبر المحافظ الإلكترونية، وبإمكانك أن تعزّي عزيزا عليك، وأن تفرح لعزيز عليك، وأن تنشر أفكارك، وأن تعيش حيوات العالم.

   أيقن الفتى أن بذرة التحولات زرعت في الأرض الخصبة، ولكنها تحتاج إلى سقاية يومية وليس موسمية، لهذا أخذ بالأسباب، ولم يقطع حبل تفكيره غير نافذة أطلّ منها ضوء قادم من معارك الوباء، كيف لهذا الذي لا يرى بالعين المجردة أن يغلق عالما بيده مفاتيح العلوم والتكنولوجيا، إذا لم يكن حافظا لمنعرجات التخبّط العشوائي الذي يمارسه أبناء هذا العالم، فطبقة الأوزون حائرة بين الانكماش وبين التمدد، والأرض صاخبة بمبيدات السموم المتنوعة، والبحار أغلقت على ساكنيها، ومورس ضدها عفن التوحّش، والبنوك أرهقت جيوب الطفارى، والحروب غيّرت موازين الطفولة، فمن اللهو واللعب والفرح إلى التشرد والجوع والقهر، والحدود ضاقت بزائريها، والنفوس أشبعت عدوانا وظلما، لهذا كان لا بدّ من إعادة الحياة إلى طبيعتها، والحياة إلى  نضارتها، فجاء زائر الليل والنهار، درسا غير قابل للانكفاء على ذوات بعينها، فلم يعد مسؤول ومحكوم، ولم يعد غني وفقير، ولم يعد سليم الجسم بقابض على صحته، ولم يعد مريض بقادر على الالتفات إلى مرضه، ولم يعد حريص ينظر بعين اليمامة، ولا مستهتر بعين الندامة، فأحكم قبضته، وسدّد رميته، فأصاب من أصاب، وترك من شاء، أعجز العلماء، وقهر الأقوياء، له طيف شفيف لا يرى، يراه الأطباء مع كلّ حالة نقيضا لما ألفه الأذكياء منهم، وها هو يتقدم، ويزاحم أنفاسنا في البيوت، فترانا نعود رويدا رويدا إلى الضوء المنفلت من حصافته، فلا عدنا نفرح بمجيء عزيز إلى بيوتاتنا، ولا عدنا نواسي عزيزا بفقد مؤلم، ولا عدنا نصافح مقبض أبوابنا إلا من وراء حجاب، ولا عدنا إلى المقاهي والندوات ومنازل الحارات إلا ونحن على قلق، ولا عدنا نمارس أحلامنا على الهواء مباشرة، وها هو يتقدّم، يرابط عند كل مفترق نظنه وحش البراري، ويرابط في الآخر حتى نظن أنه على وشك الانطلاق إذا ما عطس الآخر أو أصابه سعال حاد كففنا أرواحنا عنه، يا لهذه الفاجعة التي أحاطت بكل شيء، يا لهذا الهباء الذي تناثر في النفوس، ويا لهذا الخوف الذي وشّحنا بألوان العتمة.

   ليس ترويجا لهدّة حيل، وليس نمذجة لأسطورة خالدة، وليس تقطيرا لريش الحياة، إنما يقول الفتى، هي لحظة اختبار، لحظة تمحيص، ولحظة تقنين للمدخلات التي اعتدنا عليها، لتكون المخرجات أكثر إشراقا وديمومة، ولحظة اقتفاء لتجارب قادمة، أشمل وأعمق، وأبهى وأجلى، وهي كذلك، استعادة الأصول والارتباط بمكنوناتها، وهي تمارين خاضعة لجلسة القرفصاء، تأمّل، فكّر، قرر، ولا تتوكأ عصا الارتحال إلى قانون " الفعل وردّة الفعل"، فالجائحة ليست فيزيائية الحركة، إنما هي نشاط لخلل ما، فكن أكثر وعيا بهذا، كن على صلة وثيقة مع الماء، وحارس أحلام الخلايا الضعيفة التي تثير شهوة الجائحة من خلال الابتعاد عن كل المثبطات التي تعيق نموها وهندستها.

   الأمر المثير، غير المعتاد، الذي أبقى الفتى مستعدا للحديث عن جسور الشوارع والميادين، تلك الطمأنينة التي رآها في عيون العصافير وهي تحط على بساط الشوارع من غير خوف من عبث الطائشين، أو هرولة الأطفال، أو هدير السيارات ودخانها الملوّث، فهي مالكة الحارات وسيدة الموقف، تلتقط حبوبها دون وجل، ترفرف قريبا من يدي، وأنا على الشرفة أتنسّم قليلا من الهواء، تصافحني كلما مددت لها يدا، ولكن سرعان ما لمحت في عيونها غصة المآل، وغصة الأسلاك، فالحظر الذي أعادت ترتيبه القرارات الصادرة أصبح يشكل لها مأزقا لحرية الهبوط، فغادرت شرفة الفتى دون وداع، ويكأنها ترسم له حدود مملكته من جديد، هذا الذي لم يدعها وشأنها حين كان الفضاء بيتها الفسيح، وكانت الأسلاك والأشجار محطات هدأتها وخلوتها للغناء.

   مرّت الأيام والفتى لم يغادر بيته الصغير، كتب الكثير من النصوص، ورسم ما شاء له اللون أن يرسم، وحفظ الكثير من عيون الشعر، وقرأ في أمهات الكتب، نسي الجائحة ومساربها، قفز إلى دوائر الحلم، خطّ عمودين منفصلين، عمود يخترق منتصف الدائرة، بحثا عن عودة سريعة لأجراسه التي افتقدها، وعمود يخترق الدائرة تجاه النوافذ المشرعة على الحلم.

   يصعب أن تتعامل مع هذه البارقة التي تتفشّى في جسد النص، ولكن، ألم يكن الهبوط الاضطراري للناس على مدرج البيوت، على غير المعتاد، طريقا لهذا التشعّب، والانجرار وراء الأحاسيس المقيّدة التي يفرضها حسّ الانتباه لما هو قادم، إذا كان هذا الهبوط فعلا اضطراريا، فإنّ النص وعدم تقييده ببنية واحدة مناط الرسائل الضمنية التي يبثها الفتى وهو في الحجر في منزله الذي لم يغادره منذ أن أنصت إلى التعليمات الصادرة، وأخلد إلى نفسه ليبرهن لها أن لكلّ داء دواء، فقالت زوجته: الأهم أن قنطار وقاية خير من ذلك وأنجع.

      

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016