-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

ثلاث عشرة ساعة رواية الذاكرة والتأريخ

 

ثلاث عشرة ساعة رواية الذاكرة والتأريخ

سمير أحمد الشريف


 رواية " ثلاث عشرة ساعة " عمل إبداعي جريء جديد ، يضاف لرصيد الأديب الباحث سعادة أبو عراق  ، والذي صدر له من قبل  كتابات مميزة في الشعر والسرد وأدب الأطفال ، ونال جائزة الملكة نور لأدب الطفل من مؤسسة نور الحسين ، غير مؤلفاته الأخرى  كرواية "المخاض " وقصص" فتيان الحجارة " وقصص " طريد ظل " و" مدرسة المبتكرين ط قصص للطفل و "مخترعون صغار "و"الكلب الذي لا يأكل لحم صديقه"، مسرح دمى ، و" هيّا نكتشف هيا نخترع"، و"زرقاء بلا ذنوب"، قصص وديوان "ذاك هو أنا"، زيادة على اهتماماته الفلسفية واللغوية .

 

سردية تكتنز بالجمال والاحتجاج والسخرية ضد ما هو ظالم وغير إنساني، تُعرّي واقع المحسوبيات وغياب العدل وعدم تكافؤ الفرص، واستقصاء ألآم الناس وتتبع جذور معاناتهم، ونقد رمزي جريء لما وصل إليه الحال في تاريخنا السياسي المعاصر.


" ثلاث عشرة ساعة " صرخة ضد التشوهات الاجتماعية والقانونية التي أفرزتها السياسة الكسيحة، ومحاكمة لمنافذ الخلل في مفاصل المجتمع، مع التزام جمالي بصياغة رصينة ولغة مسبوكة ورؤية فكرية واضحة تشخّص الواقع دون أن تُغرق شخصياتها في حاجاتها الذاتية الآنية، بل جعلت منها أدوات كشف تضيء عتمة المعاش بما فيه من تباين طبقيّ ومستويات مجحفة التفاوت .


هذا النسيج السردي والتناسق الحكائي الذي يوازن بين الواقع والمتخيل، يشير إلى أن الفن عادة أكبر من مفسريه عندما يعتمد تعددية الضمائر وتقنية المونولوج و الحذف وتعدد البطولة وخاصة للمكان (الكسارات ) ، والتجريب وتوظيف جمل وصفية متوهجة تمنح المتلقي بعدا فكريا جماليا ، و أفقا مفتوحا على خيارات تأويلية كثيرة  ، بلا زوائد ولا رتوش أو شروحات فائضة ،  ويقف بالمتلقي متأملا لواقع سياسي واقتصادي وانعكاساتهما الاجتماعية .


صحيح أن "سائد" و"صبحية " هما محور النص بعامة ، إلا أن الشخصيات الثانوية الأخرى ساندت حضور الشخصيات الرئيسة ومنحتها أفقا إنسانيا جاذبا ومشوقا  وجعل لها حضور لافت : رئيس الوزراء وزوجته  وضابط الأمن  والناس في حي الكسارات وكافة الأسماء التي نحتت بأسلوب مميز وتهكمي ناقد (وزارة الجوانية= الداخلية  / وزير البرانية= الخارجية / وزارة البيوت = الإسكان / ، وإن سُجّل  على الشخصيات تسطيحها وعدم رسم ملامحها الخارجية وعدم  التعمق في دواخل بعضها  ،  وإن عبّرت تصرفاتها وأقوالها على مستوى نضجها وعمق تفكيرها وكشفت الحوارات الثنائية شيئا من ذلك .


تتمثل رؤية النص في طرح هموم المجتمع ، بخاصة الفئة المهمشة ضمن تعاط واقعي نقدي يغمز من التفاوت الطبقي في المجتمع وعيش فئة على حساب فئات أخرى .


قدّم الكاتب في نصه شخصيات تطرح معضلتها الفردية التي تعكس هما عاما يشترك فيها كثير نتيجة عدم تكافؤ الفرص وما يؤدي ذلك إلى تشكيل وتنامي فئة حاقدة قلقة غير منتمية.


نجح النص بتقديم الشخصيات التي تخرج عن حالتها الفردية ويصبح تعميمها كحالة رمزية ، وعكست الرواية حالات التفاوت الطبقي والفقر،  ورغد عيش الفئة العليا ومن ثم حالة الاغتراب  والضياع التي تحياها الفئات المهمشة بكل أطيافها وعطشها للعدل والحصول على فرصة للتعليم والعلاج المجاني . 


نص " ثلاث عشرة ساعة " إثراء للغة ولإيقاعها السردي، شملت بنيته السردية عناصر التتابع والتداخل والتوازي، توالت المشاهد فيه ضمن تراتب زمني يخدم إطار النص العام بطريقة منظمة خدمت خط السرد المتنامي عبر توظيف المشهدية السينمائية ، مع قطع لرتابة السرد بتنويع الضمائر وتوظيف تقنية المونولوج والاسترجاع والحوار ، وتداخل ذلك مع تعدد الشخصيات مما كسر حاجز السرد النمطي وأحادية الصوت وحطم البنية التقليدية للسرد .


تداخلت وقائع النص بما يخدم الخيط الناظم للسرد مع ما اعترى ذلك من توهج في اللغة وصدق في الطرح وعمق في الرؤية والتحليل ، وتشخيص وإضاءة لعوالم **الشخصيات وكشف بيئتها المغرقة في الفقر ( حي الكسارات) "الأزقة ضيقة بعرض نصف متر أو أقل، البيوت متقاربة لدرجة أنك تسمع سعال جارك، بل تأوهات امرأة في الفراش، البناء ارتجالي والإقامة مؤقتة، لا ماء ولا كهرباء ولا إنارة ولا مجاري للصرف صحي، فأحدهم لم يفكر بذلك إلا حينما أصبح الصباح ولم يجدوا ماء يشربونه أو يغسلون به وجوههم أو يتوضؤون، لم يجدوا مكانا يبولون به أو يتغوطون، أين يرمون نفاياتهم ومن أين يشترون الخبز؟ وفي أي مواصلات يذهبون إلى أعمالهم؟ أين المدارس التي سوف يرسلون إليها أبناءهم، بل أين يدفنون موتاهم؟" ص 87،

 

والغنى الفاحش في (حي الياسمين) ".. وأن أرصفتها مبلطة بالرخام، وأن الحليب الطازج يصلهم بالحنفيات، كالماء تماما لكي لا تمسه يد أحد، وأن الزبالين يلبسون الملابس الرسمية، ويحلقون ذقونهم يوميا، ولهم درجاتهم في الدولة، ...ضاحية الأندلس، ضاحية الكيبوتس، ذاك أن الكيبوتسات اليهودية يراعي بها حينما تبنى النواحي الأمنية، فتبنى حولها الأسوار والبوابات والحراس وها هي ضاحية الأندلس منطقة محظورة على غير أهلها" ص88،  والمقاربة بينهما لتظهر النتائج أمام المتلقي صارخة ، معرّية  لواقع يفصل بإجحاف بين عالمين من البشر لا يفصلهما غير شارع ،  بتوظيف لعبة التوازي بنقل السرد عبر لقطات تبين حركة الأشخاص وأماكن عيشهم ومستوى حيواتهم بطريقة أفادت المتلقي لفهم الصورة واضحة عبر كشف المفارقة وعمقها بين الحياتين في مجتمع واحد.


هذه الدراما الفنية التي تدور في فضاء عالم فنتازي، مع شحنات فلسفية نفسية تضمنتها الرواية، جعل النص يُصنّف ضمن السرد الاجتماعي الواقعي التسجيلي، حيث أنه يوثق للأحداث بتلميح رمزي وأسلوب السهل الممتنع ، الذي  يجعل الأحداث عادية وذات عمق رمزي كبير ، يتيح للمتلقي التنقل بتشويق وسلاسة لمتابعة الأحداث وتعدد فتراتها الزمنية وأماكنها وتباين طبقات ناسها وكشف ما يعتور الأحداث ويؤثر عليها  من تحولات خارجية وداخلية ألقت بظلالها على السياسة والاجتماع والاقتصاد.


هذا الشكل السردي التعبيري الذي اكتسى بلحم الاجتماعي الواقعي، ينتصر للمسحوقين الذين وقع عليهم الظلم من خلال انبثاق شخصيات في الطرف المتنعم الآخر، ممن لا يقبل هذا الإجحاف وينحاز للفقراء ( الابن والأم ).


مما يلفت في النص صورة الموقع الوظيفي في ذهن المسؤول" ..... يحدثنا مقدم الوزراء عن تجربته في الوظيفة والطريقة التي يجب أن تتبع للوصول إلى أعلى المراكز: "لقد شعرت خلال تدرجي الوظيفي أنه كلما ارتقيت وظيفيا، كلما وجدت العمل أكثر سهولة، فهناك من يفكر نيابة عنك ، ويسهر على خطته ليالٍ كثيرة، لكي تطلع عليها في ربع ساعة وتضع توقيعك، وتنسبها إليك، إنهم يخلصون بعملهم، ولا يريدون منك سوى الرضا والمباركة... خيرا لك أن تخدم صاحب العمل من أن تخدم العمل ذاته... الإخلاص في العمل يمضي بك أفقيا، والإخلاص للمسؤول عنك يمضي بك رأسيا" ص171 ، كما يستوقف المتلقي توظيف المسؤول للمفردة الدينية  أيضا ، في محاولة للتأثير على العامة واستمالتهم بلغة تخاطب عواطفهم "" فلقد وعدت البرلمان أن سيكون هذا البلد واحة أمن واطمئنان، أو كما قال عمر بن الخطاب رضي لله عنه: لا يخشى فيها المسافر إلى العراق إلا الذئب على غنمه" ص68.


أخذ النص بيد المتلقي متجاوزا ما يطفو على السطح من أحداث، للتفكير وبعمق في أسباب التحولات التي غزت المجتمع وأظهرت ما يمور فيه من صراع طبقي وتمايز اجتماعي، بلغة رشيقة رصينة تكتسي بأثواب التهكم والسخرية وتشخّص أحوال المترفين الذين لا ينقصهم شيء مقارنة بالمسحوقين الذي يحتاجون لكل شيء، كمتواليات السادة والعبيد/ الحب والحرية / الغني والفقير / المتعلمون والجهلة /السياسي الماكر والناس البسطاء السذج/.


" ثلاث عشرة ساعة "نص مركّز بلا ترهل وصرخة احتجاج أمام طوفان الظلم والتهميش وفقدان الحقوق، أظهر أن لدى الروائي قدرة كتابية مكنته وبجدارة أن يغوص داخل المجتمع ويرقبه بوعي، ويخرج لنا هذه اللوحة الفسيفسائية من عوالم متداخلة ومتباينة يمور بها المجتمع ومن هنا يمكننا أن نطلق على النص رواية الذاكرة والتأريخ.

**ثلاث عشرة ساعة

رواية سعادة أبو عراق

دار هبة ناشرون وموزعون، ط1، 2019- عمان

217 ص. 

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016