شاعرة
تستشرف اللغة وحدائقها ومنازلها
إربد- العهدة الثقافية
تتضافر الرؤى التي يسعى اتحاد القيصر للآداب والفنون،
وضمن أهدافه، لترسم في سياق أنسجتها الحراك الإبداعي العربي كلوحة بانوراما يستعيد
القارئ العربي مفرداتها.
بهذا السياق، وفي مسعى الاتحاد إلى إقامة نسيج موحد لهذا الحراك، استضاف مساء
الأربعاء، في برنامجه " أربعاء القيصر الثقافي"، وبدعم من وزارة الثقافة
الأردنية، الشاعرة الجزائرية نسيبة عطاء
الله في محاولة للتقرّب من تجربتها الأدبية والشعرية.
الحوار الذي أداره رئيس
الاتحاد الأديب رائد العمري، تضمن باقة من المحطات التي حاول من خلالها تسليط
الضوء على مفردات هذه التجربة، من مثل: البدايات، ومحطات الشعرية القائمة على
البيت الشعري والقصيدة النثرية، والقضايا التي تقفز أمام مخيلة الضيفة، وغيرها من
المحطات التي نجد في هذا الحوار ما يشي بمفاتيحها.
قالت الشاعرة عطاء الله كانت البدايات
نافذة تتسلل إلى بداياتي الروح والجينات، حيث ولدت شاعرة متأملة، ونشأت بين مخطوطات أبي رحمه الله، وأتقنت
الكتابة بشكل سليم في سن الثالثة، وقد لعبت مكتبة البيت دورا كبيرا في تحصلي على
رصيدي اللغوي بداية بالقرآن الكريم. ثم بدأت أنزع إلى الكتابة بشكل متدفق في مرحلة
الثانوية بسبب الجفاف الذي عانيت منه في تخصصي العلمي، أما بدايتي الفعلية للكتابة
فقد تزامنت مع فوزي بمسابقة الماستر في النقد الحديث والمعاصر عام 2014 وأثرت بي
وقتها رواية "أعشقني" للكاتبة سناء الشعلان وأيقظت بداخلي نسيبة الأديبة
كما أيقظت مفاهيم مقياس فلسفة اللغة، نسيبة الشاعرة..
وأضافت لست متزمتة لنوع معين ولا أحرُس نفسي لحظة
الكتابة، القصيدة العمودية تتجلى لوحدها في لحظة ولادة وكذلك قصيدة النثر، ولكن
تخصصي في النقد الحديث والمعاصر وتوجهي للقراءات الحداثية جعلني أنزع إلى قصيدة
النثر بحسّ فيه الكثير من عشقي الأصيل للإيقاع العربيّ وهذه الأشياء لا يمكن
التّنصل منها، إضافة إلى ذلك أنا أرى في قصيدة النثر مستقبلا لغويا وشعريا قد يفضي
إلى قصيدة تسيل عن الضفاف كما أطمح إليها. لذلك آثرتُ أن يكون إصداري الشّعري
الأول في قصيدة النّثر دفاعا عنها في وجه التّزمت للنّمطية والانغلاق الفكري عند
كثيرين، وهو ديوان "الجُلوس عند الهاوية" الصّادر عن دار ميم بالجزائر
عام 2017، وكتبت فيه عن قصيدة النثر بشكل شعريّ مثلا في قصيدة "كيف يُصنع
الشعراء":
فاشعري
لآخرِ مرّةٍ تناسُلَ الأعاصيرِ فيكِ
واكتُبي بصيغةِ النّثرِ الذي تضاعَفَ عن حدودِ
البحرِ ...
لأنّي لم أعرف كيفَ أَزِنُ الموتَ
صرتُ أكتبُ قصائدَ نثريّة.
وقالت كتبت
عن الوطن بشكل صريح أولا قصيدة "ركام من كلام" عام 2009 التي يتضمنها
ديوان "صمتُكَ وحناجِري" وقد تنبأت فيها بالكثير من المآسي التي حدثت في
السنوات الأخيرة بالجزائر، مطلعها:
في وطني تُذبَحُ القصيدةُ كنعجةٍ دونَ هُويّة
ثم قصيدة " مواجع خضراء" عام 2015
التي يتضمنها ديوان "غرداية" الجماعي مطلعها:
وجعي
أنا جرحٌ يُلحِّنُ نفسه
ويصدحُ
في شجون أرضي
اليتيمةُ
ظِلُّها كالموتِ يسبحُ في العيون
ولي
وطنٌ كالطفلِ يبكي في كلامِ العابرين
يُنقِّبُ
في القبورِ عن اليقين
يُخفي دموعَه في نشيدٍ من دماء
ثم قصيدة، "كَراكيِبْ" بديسمبر 2018
والتي تنبأت فيها بحراك فبراير 2019، وقد شاركت بها في ملتقى الشباب بجامعة
"ورقلة"، آخر مقطع منها: ..
ورُبّما..
مِنْ
قارِبٍ يَنجو نَبِيٌّ
رُبّما
مَهْدِيٌّ
رُبَّما يَخْتَصِرُ الوَعْدُ الطّريقَ
ويَفُكُّ دابّتَهُ يأجوجَهُ،
مأجوجَه،
ومَسيخَهُ
رُبَّما
تُحرِّرُنا شهْقَةٌ في حَيِّزِ المُعجِزِ
مِنْ
مُمكنٍ حَتمِيٍّ فقد هَزِلَ التّصَوُّرُ أن يُحيطَ بِهم جميعا:
(المقاهي، والمراكزَ التّجارية، والرّأسماليّة،
والاشتراكية، والعبث والمتسوّلين، والصّادقين والخائنين، والحكومة، والمساجين،
والفياغرا، وأكياس البلاستيك، وصناديق الانتخاب، والمقابر، والإطارات، والأقفالَ،
ونشراتِ الأخبار، والسّمَكَ الفاسِدَ، والكوليرا.. وقلبي!)
في بلَدٍ
واحِدٍ
وعَجِزَ
التّساؤُلُ أن يرى الحَبْلَ الذي وصَلَ العُلومَ مع النّجاسَة
عَجِزَ
الذي يَزورُ بِلادَنا أن يُقارِنَ شكلَنا بجُدران الجامِعاتِ،
والطّاوِلاتِ ودوراتِ المِياهِ والخِطاباتِ
والخُطَبِ والسّياسَة وأسواقِ الذُّبابِ على طَعامِ هوائِنا أنْفاسَنا المَسجوعَةَ
بالغَضبْ كلُّنا، والذينَ أظَلَّهُم هَمٌّ وتنَهّدوا، لم يفعَلوا شيئا
يُعبِّرُ عن تَعَبْ كلّنا، ولا تكفي الكراسي لتلقَفَ من حياتِنا حاءَها كلُّنا،
ولا يقومُ فجرٌ ليومٍ فوقَنا ولو ليَخدُشَ سقفَنا الملعونَ بليلِنا الأبَدِيِّ
فلِمَ هكذا، يحمِلُنا الثَّباتُ؟ ونُسْقِطُ روحًا حُرَّةً في حِجرِ التّخلي نوقِفُ
حَصْوةَ "لا" بحَلقِ آخِرِ فُرصَةٍ لِيَنزِلَ نبضُنا السَراديبْ ونُسَمّى
ذاتَ تاريخٍ بعيدٍ شُهداءَ الأنابيبْ؟!
ثم في
ديواني الجديد "في ضِيافةِ غودو" قصيدة "المُدُنُ عندَ بعضِها
والوطنُ مِدخنة" التي تتحدث عن رؤية ثورية لمفهوم التطبيع بشكل إيروتيكي
يعبّر عن مأساة الجسد الجغرافي للوطن والذات العربية أيضا، وقصيدة "أبناء
العَلامات" عن أزمة الأكراد، وقصائد كثيرة أخرى.. ولكنّ الوطن بالنّسبة لي
معجون بجميع المنطلقات الشعورية وهو حاضر في كلّ نصوصي بشكل ما، فلست أؤمن
بالتّصنيف في الموضوعات وعندي كلّ شيء ينطلق من كل شيء ويؤدي إلى كل شيء أيضا.
وزادت الشاعرة عطاء الله كما كتبت عن المرأة كتبت
عن الرّجل، ولديّ هذا الصّوت المزدوج وأجيد تقمّص جميع الشّخصيات والحالات وأوقن
أنّ المرأة ليست دوما مظلومة وأنّ الرّجل ليس دوما ظالما، رغم أنّ كتاباتي في
الدّفاع عن صوت الأنثى ثائرة جدّا أيضا على الأنثى كما هي ثائرة على الرّجل، وكتبت
بصوت الرّجل العديد من النّصوص السّردية والقصائد منها: نصّ "تحت سماء سوشو
مومبيليار"، "سيجارةُ الوقت"، وغيرها ومن نصّ سيجارة الوقت أذكر
المقطع الأخير: ..
" كلّما
ضاقت بنا على وُسعها الشّوارع نلتقي كما لو أنّ الوطنَ جِدارٌ واحِدٌ أو أنّكِ
لعنةٌ تُلقين جبلا على رأسي أُعرَفُ بِكِ كأنّي لقيطُكِ وأُنسى لتكوني الحادثَ
الوحيدَ في سيرتي الذّاتية .. أنا السّاكِنُ في شرايين التّسعينيّاتِ أنمو في
ذاكرة الدَّمِ حيثُ كنتِ الرَّصاصة التّي أصابت زمني فتوقَّفَ وأنا أشعلُ
سيجارة الرّيم بعود كبريت. لم تقتلني الخيبة عدا أنّكِ لا زلتِ تُشبهينَ شيئا
يحفِرُ تحتي وأنا أُفسِحُ لهُ ضحكَتَكْ أنتظر أن تنزعي "عْجارَكِ" لأجلِ
موتي مرّةً واحدة، لأتفقَّدَ نفسي وأعرِفَ كيف أجيبُ المَلَكينِ عند سؤال:
"عمرُكَ فيما أفنيتَه"؟!
وقرأت الشاعرة عطاء الله أبياتا من قصيدة عمودية
طويلة جدا، بعنوان "حشرجاتُ الغِياب" منشورة في كتاب "مشاعل
جزائرية" لمائة كاتبة جزائرية: تقول فيها:
إنّي لأُفني في عيونِكَ خافِقي
وأمُدُّ
مِن روحي الحياةَ وأسرِقُ
وأعيشُ عُمري لا أُبالي خيفةً
العُمرُ أنتَ ولو بصيصاً يَبرُقُ
أرجوكَ عُد لي كيف بعدكَ أشتهي
أنتَ الذي (إن كُنتَ لي) ما أُنفِقُ
والشّمسُ
تستلفُ الضِّياءَ كأنّها
مِن
ضوءِ عينِكَ بالغِوايةِ تُشرِقُ
قُل لي أُحِبُّكِ وانتظِرْ ما ينجلي
سأُطِلُّ
من زَهرِ الرُّبى أتزوَّقُ
دعْ عنكَ غيظَكَ وانفجِرْ من أجلِنا
إنَّ الغرامَ إذاَ تكتَّمَ يفسُقُ
هيّا لنَجْزِل بالعَطاءِ كلامَنا
إنَّ الفِعالَ من الرَّسائلِ أصْدَقُ
ما
زِلتُ أطلُبُ في الغيابِ وأشتهي
هل كان فيما أشتهيه تمَلُّقُ
وحول تجربتها مع القصة القصيرة تقول الشاعرة عطاء
الله مع القصة القصيرة "فايس عِشق" هي مجموعتي القصصية الأولى
الصادرة عن دار فضاءات عام 2017، موضوعها الحبّ في الفايسبوك، وهي تحمل في أغلبها
رؤية مأساوية للحبّ الأزرق، صوتها أنثوي إلى حدّ كبير وضمّنتها بعض النّصوص التي
نشرتها عن المرأة في مجلة المرأة العربية تحديدا في قصّة "تأبّطتُ خيبة"
التي يعتريها غضب كبير، ونظرة ساخرة أيضا للذات والذات الأخرى. ومنذ فترة أعدّ
مجموعة قصصية صوتها المرأة أيضا أصوّر فيها أنّ للتّعاسة أسماء سعيدة، منها قصّة
"أنا وروكي" التي فازت مؤخرا بجائزة العلّامة عبد الحميد بن باديس
بقسنطينة بمناسبة يوم العلم 16 أفريل الماضي، والذي يقرأ لي يجد أنني أحب كثيرا
مزاوجة الشعر بالقصة خاصة في القصص التي أراها تستدعي ذلك، وأيضا أحب أن أنكّه
قصائدي بنفس سردي تصويري أشبه بالمشهد الذي ترتفع لغته عن النثر العادي.
وبيّنت الشاعرة عطا الله أنها تحصلت على
ليسانس أدب حديث ومعاصر من جامعة مستغانم عام 2012، ثم ماستر في المناهج النقدية
الحديثة والمعاصرة عام 2016 وكانت رسالتها حول البنيوية التكوينية في المنجز النقد
الجزائري المعاصر وهذا الاختصاص مكنها من معرفة مدى أهمّية السياقات الاجتماعية
والثقافية والنفسية في إنتاج النّص ومنحها بعدا واسعا في الكتابة الأدبية أو
النقدية على حدّ سواء، لأن تتبع المسارات السابقة للكتابة واللاحقة لها هو ما
يحدّد رؤية العالم التي تصنع أفكار المستقبل وتنبّؤاته. ثمّ لاحقا فازت في مسابقة
الدّكتوراه بجامعة تلمسان عام 2017 بتخصص النقد الحديث والمعاصر، وهي الآن طالبة
في السنة الأخيرة وأطروحتها حول الرواية الجزائرية، وهي تحب أن تنوع في دراساتها
الأكاديمية وعدم التّقوقع في منطقة واحدة وأثناء هذا اكتشفت ذاتها الكاتبة
والنّاقدة معا، فالإبداع لا يتجزّأ، والمزاوجة بين النقد والكتابة أفادها كما تقول
كثيرا في الانفتاح على أساليب أرحب ممّا هو في حدود المعياريّة والنّمطية.
وأكدت أن اللّغة العربية هي لغة حيّة، وكما قال أحد
المفكّرين الفرنسيّين، هي لغة سيحتاجها العالم عندما يغرق في المادّية والوحشية
لأنّه لغة أخلاق ورقيّ وتهذيب وإنسانيّة، فقط لنترك رصيدا طيّبا للأجيال القادمة
تحمل هذه الرّسالة السّامية علينا أن نكون أكثر نخوة وأن نراعي الأخلاق والقيم في
تلميع المرآة أوّلا لكي يكون انعكاس صورتنا فيها واضحا ونظيفا للآخر الذي سوف يقرأ
غدا، وأعني بهذا أخلقة العمل وإتقانه بالحرص على الأفضل، من حقّ الجميع أن يجرّب
لكن ينبغي أن يكون ثمّة دائما من يُغربل.
وعن
الطموح على الصعيد الثقافي والوظيفي قالت: غايتي الأسمى هي أن أرتقي في إنسانيّتي،
والوصول إلى أفضل نسخة منّي حاولت الحياة تشويهها وتضييع خُطاي عنها، وأطمح لأن
أكون من الأيادي التي تساهم في تلميع المرآة، أمّا بخصوص الوظيفة فأنا لا أراني في
مكان واحد فقط.
وفي المحطة الأخيرة للحوار قرأت الشاعرة عطاء الله قصيدة بعنوان : "أورا النّظرة الأخيرة" ، تقول فيها: تحتَ سَوطِ الحقيقةِ تتمنّى روحي لو كانتْ عَرَبةً على يدِ أيِّ صخرةٍ، نهايتُها سهلةٌ وسلسَة وهذا القلبُ يَنفُقُ في مطحنةِ القراراتِ المُتذبذبة من يُوقفُ اللّيلَ وهو يُضيِّعُ الوقتَ بخلاياي؟! لقد راجعتُ كلَّ حدائقِ العُمر، فخرجتُ بِلا بِتلّاتٍ أغرِسُ مكانَ رُموشي دُموعا خشبيّةً لأُحرقَ خيالاتي الموحِشَة، كما وجميعُ الدّكاكينِ سِلعتُها الكِبريت من يَبيعُ فرصةً نحو البئرِ لمُستقبلِ النّجومِ الصّغيرة؟ ويتساءلُ جرحٌ يتمدّد كلّ مساء: أليس لهذا اللّيلِ أمٌّ تثكله؟! أشياءٌ من قَبيلِ خزانَتي قطعتْ وريدَها، على نصائحِ الملائكة وشاهدتُ حُلمَ الرّقصةِ الأولى يُحمَل على رافعةِ الخيبة وليالٍ تعيشُ في مناطقَ مضيئةٍ من عقليَ الباطن".
إرسال تعليق