التداعيات المرعبة لموت
ستالين بقلم مهند النابلسي
نموذج للكوميديا
السياسية المروعة
*علق
المخرج "أرماندو ايانوتشي" أنه أراد الابتعاد بقصد حاليا عن قصص السياسة
الأمريكية، لذا فقد اختار مشروعا تاريخيا يتعلق بأحد اكبر القادة الطغاة
"المضطرب-اجتماعيا ونفسيا والنرجسي الداهية" (سيكوباثيك)، والذي كان
يقود دولة عظمى...وعندما نشاهد الممارسات الحمقاء للساسة العالميين الحاليين، ومدى
تناقض سلوكياتهم وعبثهم "الطفولي والجنوني-المتحيز" في السياسة العالمية
ومصائر الشعوب، نأمل عندما "يعقل العالم" بعد بضع سنين، أن يقوم
"ايانوتشي" نفسه بالغوص مرة أخرى في دورة أخرى "ناقدة وعميقة
وكوميدية" في تداعيات السياسة الأمريكية على سبيل المثال، مع ممثلين جدد، كما
استغرب حقا الطريقة المتفهمة وربما المتعاطفة بأسلوب تناول مخرجي الغرب لحكام
وطواغيت الغرب وأمريكا حصريا، وعدم تسليط الأضواء على سلوكياتهم الإجرامية
والسادية والكارثية والتي مورست بضراوة خلال حروب الاستعمار والاستيطان وفي العصر
الحديث، مرورا بالمسؤولية التاريخية والراهنة عن اغتصاب فلسطين وتشريد سكانها
وقمعهم، كما عن ضرب اليابان بالقنابل الذرية وحرب فيتنام وحربي العراق وأفغانستان
واحتلالهما، ثم وصولا بمسؤولياتهم الخفية والظاهرة عن حروب ومذابح وويلات الربيع
العربي "البائس"!
*ومن
المشاهد الأولى يحيط المخرج الجمهور دون توقف بالمشاهد الساخرة الكوميدية، تماما
مثل منهجية الفتلندي "آكي كوريسماكي"، وقد ساعده على ذلك السيناريو
المحكم والشخصيات البارعة الرئيسية التي قامت بتقمص الشخصيات، وهم الثلاثة تحديدا:
دويبي جورجي مالينكوف (جيفري تامبور)، نيكيتا خروتشوف (ستيف بوسيمي)،
ورئيس الشرطة السرية السادي المتنفذ لافرينتي بيريا (سيمون راسل بيل)، وقد تمكن
بفضل هذه العناصر بتحويل فيلمه هذا إلى "كوميديا ذهبية نادرة"...لكن
سرعان ما يدخل المخرج إلى الجوانب المظلمة والمروعة في الحكاية، ولكنه نجح
بالمحافظة على العمق الساخر، وقادنا في رحلة سينمائية ممتعة ومبهجة وصادمة في آن
واحد.
*في البداية وبعد اكتمال التسجيل الموسيقي
الهارموني لموزارت، تخفي عازفة البيانو الساخطة "ماريا" داخل المغلف،
مذكرة تخبر فيها ستالين بصراحة مدى كراهيتها له وبأنه دمر البلاد وقتل العباد،
وعندما يصل التسجيل على عجل لستالين، يبدأ بقراءة المذكرة ساخرا وضاحكا، ثم يعاني
فورا من نزيف دماغي حاد طارىء يسقطه بلا حراك على ارض مكتبه دون أن يساعده احد،
ويتم اكتشاف حالته في اليوم التالي، فيقوم أعضاء اللجنة المركزية واحدا تلو الآخر
للحضور سرا، ويكون اول الواصلين وزير الداخلية والبوليس السياسي "لافرنتي
بيريا" (سيمون راسل بيل)، الذي يكتشف فورا ملاحظة ماريا ويخفيها، ثم يأتي
مساعد السكرتير "جورجي مالينكوف" (جيفري تامبور)، ويدب فيه الرعب، فيما
يحاول بيريا تهدئته لتولي القيادة في غياب ستالين، مستغلا ضعف شخصيته وإرادته
وخوفه.
*يحدث انشقاق أولي (ثنائي) بين أعضاء اللجنة
المركزية، ويسعى كل طرف لتحقيق انتصارات وولاءآت واستقطابات رمزية ذات دلالة،
ومنها السيطرة على "أطفال" ستالين الاثنين (روبرت فرينداند واندريا ريسبورو)
(وكذلك لاحقا استمالة مولوتوف الستاليني المخلص)، وذلك بانتظار وفاة ستالين
نهائيا، ويسارع كافة اعضاء اللجنة المركزية بالذهاب لموسكو، ويتم نهب سيارة ستالين
وكافة ممتلكاته بطريقة فوضوية جشعة، كما يؤمر بإعدام كافة الشهود فورا وبلا رحمة
وتردد، ثم نعلم كيف جلبوا طبيبا متقاعدا عجوزا لأن كل الأطباء الآخرين الكفؤين
يقبعون في السجون...ونلاحظ كيفية العبث الفوري بجثمان ستالين الميت، ومحاولة
استئصال دماغه فورا، ونسمع صراخ ابنه الشاب اللامبالي العصبي، الذي يهدد بفضحهم
جميعا، والذي يكشف محتجا عن نية خبيثة لإرسال الدماغ لأمريكا، والغريب أنهم حاولوا
تجنب شر ابنه (الذي يحتج دوما بالصراخ)، فسمحوا له بأن يلقي كلمة تأبين والده في
حفل الوداع، و"غرد" بكلام يشير فيه لتضافر القوميات السوفيتية المتعددة
المكونة للاتحاد السوفيتي وتأثرها بهذا المصاب الجلل!
*ثم
يتم وضع جثمان ستالين في قاعة الأعمدة الشهيرة في قصر الكرملين لمدة ثلاثة ايام،
في حين يتم الإفراج فورا عن العديد من السجناء السياسيين المحكومين بالإعدام،
ونلاحظ بمشهد أقرب "للتراجيديا الكوميدية" كيفية الافراج الفوري عن بعض
المحكومين بالإعدام في سجون سيبيريا وقد أصابتهم الدهشة... فيما نلاحظ جثث بعض
هؤلاء المساكين الساقطة فورا قبيل تطبيق الحكم (وكأنهم حشرات دعست للتو)، كما يتم
تخفيف حدة القيود المفروضة على الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، ويستدعى بعض الكهنة
لمواكبة طقوس الدفن والعزاء والقداس مع تجاهل احتجاج البعض وسخريته من تواجدهم، ويحرك
بيريا مسار الأحداث لكسب الدعم وتحقيق الشعبية في خضم الصراع المحتدم على السلطة،
وفي نفس الوقت يصل المشير "جورجي جوكوف" (جيسون اساكس) زعيم الجيش
الأحمر، ويستفسر منزعجا عن سبب حبس الجيش في الثكنات داخل موسكو...ثم في الليلة
الثالثة، يعلم بيريا بالصدفة أن لخروتشوف معرفة عابرة مع عازفة البيانو ماريا،
التي تلعب قداس الجنازة، فيهددها بالمذكرة الخفية، ويدرك حينها خروتشوف ان
بيريا سيسيطر على الوضع بسرعة غير متوقعة، وبأنه سيربطه ويشغله
بالأنشطة الجانبية (ومنها ترتيبات جنازة ستالين البروتوكولية) ساعيا لتهميشه وإقصائه
لاحقا، فيتصل فورا بزوكوف منسقا، وطالبا منه تقديم دعم الجيش الأحمر لانقلاب سريع
طارىء للإطاحة ببيريا وتقديمه للمحاكمة وإعدامه، بعد ان سجل متضافرا مع زملاءه الآخرين
لائحة اتهام تتضمن إجرامه وتآمره على الجميع وممارسات القتل الفوري والجرائم
الجنسية العديدة، ويتم اشتراط موافقة جميع أعضاء اللجنة المركزية لإنجاح الخطة،
وخاصة مالينكوف الواقع تحت تأثير بيريا، وهكذا تتم الأمور بشكل دراماتيكي متصاعد
على عجل ويعدم بيريا وتحرق جثته.
*في
اليوم التالي، يلتقي مولوتوف سرا مع خروتشوف و"كاغانوفيتش"، ويخبرهم
بأنه سيدعمهم فقط ان استطاعوا الحصول على دعم جميع الآخرين، بما في ذلك
"مالينكوف" المتردد، لأنه لا يريد الفرقة، وفي يوم الجنازة يحصل خروتشوف
على دعم مالينكوف بعد طول تردد، وخاصة بعد مؤازرة جوكوف والجيش الحمر، الذي يستولي
على جميع مرافق الكرملين، لتجتمع اللجنة عاجلا ومباشرة بعد الجنازة، ويتم إعدام
بيريا عاجلا في ساحة الكرملين!
*في المشاهد الأخيرة ...وبعد عدة سنوات، يحضر
خروتشوف كمرشد أعلى للاتحاد السوفيتي، وبعد أن نجح أخيرا بإبعاد كافة رفاقه
المتآمرين والاستئثار بالسلطة، يحضر حفلة موسيقية قدمتها عازفة البيانو الشهيرة
ماريا، تسلط الكاميرا الأضواء على ليونيد برجينيف (السكرتير الجديد المرتقب
للحزب)، وهو يوجه نظرات معبرة ذات مغزى إلى خروتشوف من مقعده الخلفي، حيث تشير
الوقائع التاريخية لقيامه لاحقا بالإطاحة بخروتشوف وزملاءه المنافسين، بنفس المنهج
التآمري، وحيث شغل المنصب الأول في الزعامة السوفيتية لسنوات عديدة، ومثل نموذجا
للقيادة المحنطة العجوزة "البروقراطية"، التي ترفض "التغيير
والتطور"، مما مهد مع عوامل أخرى "ذات علاقة بصراعات النفوذ والتنافس
والحرب الباردة مع الغرب وأمريكا" لانهيار "الاتحاد السوفيتي" في أوائل
التسعينات ...
ملخص نقدي انطباعي:
*يتميز هذا الفيلم (بغض النظر عن الثيمة ذات
الطبيعة السياسية الدعائية) بأسلوب إخراجي مميز وفريد، ما يمكن أن اسميه اصطلاحا
"الواقعية الساخرة القاتمة"، ويبدو وكأن المخرج "ايانوتشي" قد
أسس لهذا الأسلوب التاريخي بإخراج الأفلام السياسية، ونأمل كمشاهدين أن لا ننتظر
ثماني سنوات أخرى لرؤية فيلمه القادم، فقد أمتعنا حقا بهذه "الكوميديا
السوداء"، وأدخلنا لنفق من "الهزل البربري"، ليطلعنا على تفاصيل
قاتمة تشير لسرعة تطبيق "أحكام الإعدام" في كل مكان بشكل عشوائي لا
يرحم، ونجح بإظهار "مصدر ثابت" للفكاهة السوداء ذات الطابع الإجرامي،
متفوقا على منهجية أفلام عصابات المافيا!
*انغمس الكاتب/ المخرج مع ممثليه الأفذاذ بقصص
الشغب والرفض الناتجة عن النفاق والتآمر والوشاية والظلم والاعتقال والإعدام
الفوري، وأطلق ما يشبه فيلم الرعب الساخر، مطلقا مسخا يتمتع "بالسواد الحالك
اللزج"، الذي يلتصق بذهن المشاهد حتى بعد مغادرته لصالة العرض.
*الفيلم بمثابة خليط لطيف من "البهجة
والمهزلة" وغيرها من أنماط الكوميديا، ولكن بالرغم من ذلك فهناك رعب وخطر
حقيقي أحيانا.
*نموذج للكتابة السينمائية المتماسكة للسيناريو
المتمكن الدقيق، فيه استرجاع "مضحك وهزلي وبائس" للتاريخ، وربما مع قدر
كبير مقصود للتشويه في خضم استعادة "أجواء الحرب الباردة" مع شعور خفي
بعدم الارتياح، وقد بدا الفيلم بمثابة جوهرة سينمائية تدمج " الفكاهة السوداء
بالمراجعة التاريخية"، مطلقا جولة دسمة "لاهثة" من تفاعلات القوى
الظلامية.
*هناك شيء واحد يفضل أن لا نغفل عنه يتمثل في
القوة الجارفة للسلطة الطاغية التي لا تعرف الحدود والتي تنتقل بالممارسة والعدوى،
حيث لا يوجد مجال للتراجع عن الكم الهائل من ممارسات "القتل والاعتقال والإخفاء
والتنكيل والوشاية والفساد" (التي ما زالت تحدث في كل مكان في عالمنا البائس
وربما بأسلوب مماثل مسكوت عنه)، وتكاد تصبح كالفيروس القاتل التي تصعب السيطرة
عليه، أنها بمثابة كوميديا "داكنة وعبثية وممتعة" في آن واحد، ولكن
عندما يتعلق بالأنظمة الاستبدادية ذات الطابع الشمولي، فقد تتحول الكوميديا لمأساة
موثرة وربما محزنة، وفي الخلاصة فالفيلم برمته ما هو إلا جولة من القوة الظلامية
"المبهجة والشيقة"!
*في الختام فقد عرض الفيلم بدار سينما
"بيونير" في وسط موسكو مرة واحدة، قبل أن تمنعه الشرطة وتقوم وزارة
الثقافة بإلغاء رخصة العرض لأسباب "سياسية-ايدولوجية"، وادعى المسؤولون
بأن هذه الكوميديا "مهينة وتهريجية"، وتصور الصراع على السلطة بعد وفاة
ستالين بطريقة "مخزية وإجرامية" منافية للحقائق!
مهند النابلسي/كاتب وباحث وناقد سينمائي/
إرسال تعليق