هل راودك الموت يوماً عن نفسك، فرأيتَ جسدَكَ مسجى
على الأرض أو محمولاً في نعش على الأكتاف، ومن حولك الأهل والأصدقاء في نشيج يقضُّ
مضجعكَ، فتجدَ نفسَكَ في بكاء ساخن تتقاطرُ منه دموعُكَ؟! لعلّ هذه الصورة الغريبة
مرّ بها الكثيرون منّا، وهذه الصورة ليست حلماً في منامك، بل هي حلم في يقظتك.
تذكّرتُ مالك بن الريب وهو يرثي نفسه بعد عودته من
غزوة في جيش عثمان بن عفان، وبينما هو في طريق عودته مرض مرضاً شديداً أو يقال إن
أفعى لسعته، وهو في القيلولة، فسرى السمّ في عروقه، وأحس بالموت، فقال قصيدة يرثي
فيها نفسه، وأرجح بالقول أن المرض قد أصابه، وليس بأفعى لسعته، فأحسّ بدنو أجله،
فبكى بكاء مُرّاً، فأسقطه على السيف والرمح:
تذكّرتُ مَنْ يبكي عليَّ فلم أجدْ
سوى السيفِ والرمح الرُّدينيِّ باكيا
وما حال مالك إلا حال مَن خارت قواه أمام الموت في
لحظة تأملٍ للانتقال من عالم معلوم إلى عالم مجهول، فيرى فيما يرى اليقظان من نسوة
يبكينه، وما هذا إلا تسرية للنفس عند الفقد لكلّ معاني الحياة:
أقلبُ طرفي حول رحلي فلا
أرى به
من عيون المُؤنساتِ مُراعيا
وبالرمل
منّا نسوة لو شَهِدْنَني
بَكينَ وفَدَّين الطبيبَ المُداويا
فمنهنّ
أمي وابنتايَ وخالتي
وباكيةٌ أخرى تَهيجُ البواكيا
والباكية الأخرى التي تهيج البواكيا هي زوجته
وحبيبته أم مالك.
وما مالك بن الريب إلا واحد منّا، يتصالح مع نفسه لحظة الإحساس بالموت، فتغيب عنه أسئلة الوجود، وتحضر أمامه صورة الموت في ضعفه، فلا يجد انفكاكاً من البكاء على نفسه، في وداع مشحون بحزن أبيض، وهل هناك حزن أسود وحزن أبيض؟ أعتقد أن الحزن الأبيض يأتي في مشهد موتك وأنت على قيد الحياة، والحزن الأسود في موتك وأنت تغادر الحياة، وأي حياة تلك التي أنت على قيدها، وأي حياة تلك التي أنت تغادرها؟! إنها حياة كما جاءت في التنزيل، في صورة بلاغية راقية: "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون".
إرسال تعليق