ميشيل ويلبيك: لا أصدق من يقول
”لا شيء أبداً سيعود كما كان في السابق“
ترجمة: عزيز الصاميدي
يرى «فريديريك بيجبيدر Frédéric Beigbeder» بأن الكاتب في مطلق
الأحوال لا يلتقي بالناس كثيراً، وأنه يحيا حياة النُسَّاك وسط كُتبه. لذلك
فالحَجْر لا يغيِّر شيئاً بالنسبة له. أتفق معك تماماً، فريديريك، في أن الحَجْر
لا يغيِّر شيئاً في حياة الكاتب الاجتماعيّة، إنما هناك نقطة سهوتَ عنها فيما
يبدو، (وهذا راجع بلا شك لأنك تعيش في الريف، حيث إجراءات المنع أقلّ قساوة): إن
الكاتب يحتاج لممارسة المشي. إن هذا الحَجْر يبدو لي مناسبةً سانحةً للحسم في
سجالٍ قديمٍ بين «فلوبير Flaubert» و«نيتشه Nietzsche». لقد قرأت في موضعٍ ما
(لم أعد أذكره) نصّاً لفلوبير يؤكِّد فيه بأن المرء لا يمكن أن يفكّر وأن يكتب
إلّا في وضعية الجلوس. وقرأت بعدها لنيتشه (في موضعٍ لا أذكره أيضاً) نصّاً يحتج
فيه ويسخر من فلوبير، بل يذهب لحدِّ وصفه بالعدمي (لعلّ ذلك تزامن مع الفترة التي
بدأ فيها نيتشه يستعمل هذه الكلمة حيثما اتفق). ثم يؤكِّد على أنه أبدع جميع
مؤلَّفاته بينما كان يمارس المشي، وأن كلّ إبداع لا يولد أثناء المشي فهو والهباء
سيان. ومع أنني شخصيّاً لا أكن كثير إعجاب لنيتشه فلابد لي من الاعتراف بأنه صاحب
الرأي الأصوب في هذا المقام. إن مَنْ يحاول الكتابة دون أن يقوم خلال يومه بالمشي
لساعاتٍ طويلة وبإيقاع سريع فمن الأجدى له أن يضرب صفحاً عن الكتابة. إذ يستحيل
على الكاتب المسكين أن يتخلص مما يتراكم لديه من توترٍ عصبي ومن الأفكار والصور
التي تظلّ تدور برأسه وتسبب له الآلام والأوجاع فتزداد عصبيته وربَّما قاده ذلك
إلى الجنون.
إن أهمّ شيء هنا هو الإيقاع الميكانيكي والآلي
للسير على الأقدام، والذي لا يُرجى منه في المقام الأول انجلاء أفكار جديدة (وإنْ
كان ذلك ممكناً في المقام الثاني)، وإنما يتوخَّى منه تهدئة الصراعات التي تنشأ عن
اصطدام الأفكار بعضها ببعض عند جلوس الكاتب إلى منضدته. (هنا يبدو لنا بأن فلوبير
ليس مخطئاً بشكلٍ كلي). أما حين يحدّثنا نيتشه عن الأفكار التي تشكّلت لديه وهو
على المنحدرات الصخرية بأرياف مدينة «نيس Nice» بفرنسا أو في براري
منطقة «الإنجادين l’Engadine»
السويسرية فأعتقد أن في قوله هذا بعضاً من الهذيان. إن ما يكتشفه الكاتب في دواخله
هو أهمّ بكثير من أي منظر خارجي يمكن أن يراه، اللهم إلّا إذا كان يهم بتحرير دليل
سياحي.
فيما يتعلّق بالكاتبة «كاثرين مييي Catherine Millet» (التي كانت عند انطلاق
الحَجْر الصحيّ لحسن الحظ تتواجد بمنطقة «إستاجيل Estagel» بالجهة الشرقية من جبال
«البيرينيه Pyrénées»
وإنْ كانت في العادة تقطن بباريس)، فالوضع الراهن يذكرها بالجزء «الاستباقي» من
إحدى رواياتي: «احتمال جزيرة La possibilité d’une île». لقد قلت في نفسي بأن من
الجيّد أن يكون لدي عددٌ من القُرَّاء. فأنا شخصيّاً لم أعقد هذه المُقارنة، وإنْ
كان الشبه واضحاً تماماً. والآن حين أسترجع الأمر أتذكّر بأن هذا تماماً هو
السيناريو الذي رُسم بذهني في ما يخص انتهاء البشريّة. سيناريو بعيد جدّاً عمّا
تصوِّره الأفلام الضخمة: مشهد رتيب لأشخاصٍ يعيشون في زنازين تعزلهم عن بعضهم
البعض دون أن يكون بينهم أي اتصال جسديّ ما عدا بعض الرسائل التي تنتقل عبر
الحواسيب. وجود بشريّ يستمر هكذا في الأفول شيئاً فشيئاً.
«إيمانويل كارير Emmanuel Carrère» (الذي يقضي فترة الحَجْر
متنقّلاً بين باريس ومنطقة «روايان Royan» في الشمال، لابدّ إذن أن
لديه سبباً وجيهاً للتنقّل هكذا في هذه الظروف) يتساءل جديّاً عمّا إذا كانت فترة
الحَجْر ستتمخض عن ميلاد كُتب جيّدة بالفعل. وأنا أتساءل معه أيضاً. لقد طرحت
السؤال على نفسي بالفعل، ولكنني لا أعتقد أن شيئاً من ذلك سيحدث. الطاعون شكّل
موضوعاً لكتاباتٍ عديدة، وكان مصدر إلهام لمُؤلِّفين كثر على مدى قرونٍ طويلة.
وفيما يخص الوضع الراهن تراودني الكثير من الشكوك. أولاً أنا لا أميل إلى تصديق
التصريحات من قبيل: «لا شيء أبداً سيعود كما كان عليه في السابق». على العكس
تماماً، ستبقى الأمور على حالها. إن سيرورة الأحداث في هذه الجَائِحة عادية جدّاً
ومتوقّعة لحد يلفت الانتباه. فالغرب لم يعد المنطقة الأغنى والأكثر تطوُّراً في
العالم. انتهى كلّ ذلك منذ مدّة طويلة ولم يعد أمره يخفى على أحد. ونحن عندما ندرس
سير الأحداث نجد أن فرنسا واجهت الجَائِحة بشكلٍ أفضل قليلاً من إسبانيا وإيطاليا،
ولكن أسوأ بكثير من ألمانيا. هنا أيضاً لا ينطوي الأمر على مفاجأة تذكر.
لعَلّ من الخطأ القول بأننا مع كورونا أعدنا اكتشاف البُعد التراجيديّ والفناء، وأعدنا اكتشاف الموت. إنّ التوجُّه العام خلال الخمسين سنة الأخيرة، على حسب ما جاءت به الدراسات الرصينة التي أنجزها «فيليب أرييس Philippe Ariès» في هذا المجال، ينحو نحو إخفاء الموت على قدر المستطاع. ولم يحدث أن تمَّ التكتم على الموت قدر ما حدث في الأسابيع الماضية. إذ ينازع الناس في عزلة تامة داخل غرف المستشفيات أو في دور العجزة، يدفنون فوراً أو يتمّ حرقهم (وقد زاد الإقبال على حرق الجثث في الآونة الأخيرة) في سرية تامة ودون دعوة أحد، إذ يصير الضحايا مجرَّد أرقام في الإحصائيات التي تصدر كلّ يوم. وهذا القلق الذي يزداد انتشاراً بين الناس قدر ما يرتفع العدد الإجمالي للضحايا ينطوي في نظري على بُعدٍ مجرَّد يصعب تفسيره.
رقم آخر اتخذ أيضاً أهمِّية كبرى خلال الأسابيع الماضية: يتعلَّق الأمر بسنِّ المرضى. ما هي إذن السنّ التي يظل في حدودها للمريض الحق في أن يستفيد من العلاج ومن جهاز للإنعاش؟ 70، 75، 80؟ يتوقَّف الجواب فيما يبدو على البلد الذي يوجد به المريض. ولكن في مطلق الأحوال لم يسبق للبشريّة أن تحلَّت بهذا القدر من الصفاقة الهادئة في الجهر بأن أرواح الناس ليست لها القيمة نفسها، وأن من بلغ سناً معيّنة (70، 75، 80) يعتبر نوعاً ما في عِدادِ الموتى.
هذه التوجُّهات كلّها هي، كما قلت، موجودة سلفاً، ولم يقم فيروس كورونا سوى بإضفاء نوعٍ من البداهة الجديدة عليها. نحن لن نستيقظ بعد الحَجْر على عَالَمٍ جديد، سيكون نفس العَالَم، إنما أسوأ بقليل.
العنوان الأصلي والمصدر:
Michel Houellebecq, «Je ne crois pas aux déclarations du genre «rien ne
sera plus jamais comme avant»
إرسال تعليق