فإنْ فعلَ ذلك، وهذا مُحالٌ وألفُ مُحالٍ، فإنَّه
بلا شكٍّ سيتحولُ إلى كائنٍ مجهولٍ غامضٍ مبهمٍ لا هو بالحيوانِ ولا هو بالعاقلِ
المُدرك، إلى كائنٍ عجيبٍ لا نعرفُ كُنْهَهُ، ولا نستطيعُ أنْ نتصورَه أو
نتخيَّله، ولكنْ مِنَ الممكنِ أنْ نتعقَّلَ الأمرَ، من خلال هذا النأي بالإنسان عن
إنسانيته، أنْ يتحولَ إلى مادةٍ صمّاء لا حياةَ فيها. وأعيد قولي، بأنَّ هذا
التجرُّدَ، تجرُّد الإنسان من مَشاعرِه المأساويّة، مُحالٌ مُحالٌ. أضِفْ إلى
ذلك، ما يُعانِيه البَشرُ من آلامٍ ماديةٍ كالمرضِ الجسديّ، والإرهاقِ والتَّعب
الجسدي، والعقمِ، والفقرِ، والجهلِ، والذّريةِ السّيئةِ، والزَّوجِ
السّيء/السّيئة، والعجزِ، والكَسلِ، والفَشلِ في تحقيقِ ما يَطمحُ إليه ويَرْجوه،
والأسى مما يتناقضُ مَعه فكراً وسلوكاً وأخلاقاً وعلما، وما يُواجهُه من ضُغوطِ
العَملِ ومُشكلاتِه وصراعاتِه، والأعظم مِنْ هذا وذاك، انْشغالُه بالموتِ هادمِ
اللّذات والمتعِ، وقاهرِ كلِّ متكبرٍ جبّار. وعليه، فإنَّ الإنسانَ بناءٌ مُحكمٌ
دَقيقٌ من المشاعر المأساوية التي يمكننا أنْ نختزلها في كلمة واحدةٍ آلا وهي
الشقاء، الشقاءُ الذي لا يفارقُه بأي حالٍ من الأحوالِ، ولا بأيِّ ظرفٍ من
الظروفِ.
اختلف الناس في قديمهم وحديثهم في تعريف السعادة،
وتنوعت في مباحثَ ومجالاتٍ عدةٍ، وخرجتْ تعريفاتٌ وتصوراتٌ ومفاهيمُ مختلفةٌ
باختلافِ المعرِّف لها، فثمَّة تعريفٌ من منطلقٍ فلسفيٍّ وآخر من منطلقٍ
اجتماعيٍّ أو نفسيٍّ أو دينيٍّ أو غيرِ ذلك، ولا غرْو في ذلك، فالسعادةُ هي المطلب
الإنسانيّ التي لا يبْغِ الفردُ غيرَها إنْ توفرت، فهي شغلُه الشاغلُ، وتفكيرُه
المستمرُ، وبحثُه الدؤوبُ، لعلَّه يحققُ شيئا من تلك السّعادةِ بزعمِه.
يعتقدُ أكثرُ الناسِ، كما يعتقدُ أغلبُ العلماءِ
والمتخصصين والفلاسفةِ عبر الأعصارِ أنَّ السعادةَ هي المتعةُ أو اللذة، وبعضهم
يعتقدُ أنَّها الفرحُ والسرورُ وتحقيق الآماني والطموحاتِ والأهدافِ، وبعضُهم
يعتقد أنَّها العطاءُ ومساعدةُ الآخرين، وبعضُهم مَنْ يعتقدُ أنَّها العقلُ
والعِلمُ والإدراكُ، وآخر يَرى أنَّها الإيمانُ والاستقرارُ النفسيُّ، أو
الطمأنينيةُ والسكينةُ، أو الرّضى والحبُّ، ولا أستطيعُ مهما بلغتُ من اطلاعٍ
واسعٍ أو معرفةٍ عميقةٍ من أنْ أُحصيَ الدراساتِ والأبحاثَ الّتي اهتمتْ أكبر
اهتمامٍ بالسعادةِ مفهوما وكُنْهاً، وبالسعادة تطبيقاً وتحقيقاً، ولا ريْبَ أنَّ
هذا البحثَ العريضَ والكبيرَ والعميقَ حولَ السّعادة لَيُشير بطرفٍ خفيٍّ إلى أنَّ
ثمة شيئا عصيٌّ على الفهمِ والإدراكِ من جهة، وعَصيٌّ على الشعورِ به ومعايشته من
جهةٍ أخرى، فضلا عن أنَّه عصيٌّ على الملاحظةِ والمُشاهدةِ أيْضا.
والحقُّ مما سلف، هو أنَّ الأنسانَ يستطيعُ أنْ
يجزمَ قاطعا بلا شكٍّ أو ريْبٍ، أنه شقي بأي نوع من أنواعِ الشّقاء السّالفةِ
الذّكْر من خوفٍ وحزنٍ وهمّ...إلخ، ولكنَّه لا يستطيعُ بأيّ شكلٍ من الأشكالِ أنْ
يجزم أنه سعيد، بالمعنى الذي يستطيع فيه أنْ ينفيَ كلَّ أنواع الشقاء، وأن ينفي
عنه كل أنواع اللذات في الوقت ذاته. وهذه حقيقة لا بُدَّ من الاعتراف بها،
والتّصالح معها، دون معارضةٍ أو إنكارٍ أو جحود لِحقيقةِ البنْيَةِ الإنسانيّةِ
الّتي خَلَق الله الناسَ عليها.
ولا ريبَ أنَّ (الشقاء) بأنواعِه لا يميّز بين
مؤمنٍ أو كافرٍ أو ملحد، ولا بَيْن أيّ متناقضين في الإنسان خِلقة أو خُلقا أو
طبقةً اجتماعية أو غير ذلك، وهذا واضحٌ جليٌّ في حياةِ الأنبياءِ وطبيعتِهم، وهم
أعْظم الخَلق وأشرفُ النّاس وأطهرُ البشر، إذْ ذكرَ القرآنُ الكريمُ أوَّل ما ذكرَ
في قصّةِ الخليقةِ، عندما عَصَى أدمُ ربَّه، أنَّ الشقاء هو الصفةُ اللَّازمَةُ
لآدمَ بعد خروجِهِ من الجنّة: "فقلنا يا آدم إنَّ هذا عدو لك ولزوجك
فلا يخرجنَّكما من الجنةِ فتشقى". والآيات القرآنيّة التي تصفُ حالَ
الأنبياءِ الدَّالة على شقائهم في الدنيا كثيرة، وهذه بعض آيات الذكر العظيم، التي
يتجلى فيها الشعور الشقائي الدنيوي للأنبياء-عليهم الصلاة والسلام-: "
فلما رجع موسى غضبان أسفى"، "فخرج منها خائفا يترقب"،
" قال ربي ليطمئن قلبي"، "فأسرها يوسف في
نفسه"، "قالت يا لـيتني مـت قبل هذا وكنـــت نسيا منسيا"،
"قال ربــي إنّـي مَـسني الضـر وأنت أرحـــم الراحمين"،
" قال ربي إن ابني من أهلي"، "إنما
أشكو بثي وحزني إلى الله". والآيات في ذلك بالمئين، إنما ذكرت بعضها
عل سبيل المثال لا الحصر، للدّلالةِ على أنَّ الحزنَ ملازمٌ للأنبياءِ وهم أقربُ
النّاس إلى اللهِ تعالى، ومِنْ بابِ أوْلى، أنْ يكونَ من هو دونَهم أكثرَ حزنا
وتعاسةً وشقاءً، ولا يُستغربُ هذا، إذْ أنَّ الله سبحانه قد خلقَ الحياةَ الدنيا
دارَ بلاءٍ وشقاء، ولا يتحققُ ذلك إلا أنْ يُحاطَ الإنسان بنيةً وحالةً بكلِّ شيءٍ
يولِّد عندَه الآلام والأوجاع؛ أجْلَ أنْ يصبرَ على ما ابْتُلِي بِه.
وهكذا، نُدركُ معنى قولِه تَعالى في سورةِ (فاطر)
عندَ حديثِه عن أهْلِ الجَنةِ: "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي
أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا
يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)" فكأنَّ الإنسانَ في حياتِه الدّنيا، لا
ينفكُّ يَحزنُ، الحزنُ المتمثلُ في كلِّ المشاعرِ المَأساويّة، إذْ يمكنُ أنْ
نختزلَ كلّ هذه المَشاعرِ في الحزنِ، لأنَّها سببٌ رئيسٌ لكلِّ أحزانِنا. وبذلك
فإنَّ الإنسانَ يجهلُ مَصيرَه باستمرارٍ، مهما بَلَغَ من الطمأنينة والسَّكينةِ
والإيمانِ، فقدْ وَرَدَ في القرآنِ على لِسانِ سيدِنا محمدٍ -عليه الصّلاة
والسّلام- "قل ما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أنا إلا نذير
وبشير"، والجهل بهذا المصير هو المولِّد الدائم للخوف والقلق
والحزن. وبما أنَّ آية فاطر تتحدث عن أهل الجنة فهو بلا ريب، داخل فيه الأنبياء
والصدِّقين والصالحين، وفي هذا السياق، يقول الإمام الطبري في تفسير هذه الآية:
"وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء
القوم الذين أكرمهم بما أكرمهم به أنهم قالوا حين دخلوا الجنة ( الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) وخوف دخول النار من الحزن، والجَزَع من الموت
من الحزن، والجزع من الحاجة إلى المطعم من الحزن. ولم يخصص الله إذ أخبر عنهم أنهم
حمدوه على إذهابه الحزن عنهم نوعًا دون نوع، بل أخبر عنهم أنهم عموا جميع أنوع
الحزن بقولهم ذلك، وكذلك ذلك؛ لأن من دخل الجنة فلا حزن عليه بعد ذلك، فحمدهم على
إذهابه عنهم جميع معاني الحزن".
وعليه، فلا عجبَ مِنْ أنَّ السَّعادةَ لمْ تُذكرْ
فِي القرآنِ إلا في سياقِ الحَديثِ عن أهلِ النّارِ والجنةِ، وأنَّهما صنفان صنفٌ
شَقيٌّ في النّار، وصِنفٌ سَعيدٌ في الجَنةِ، يقولُ تعالى في سورةِ هود: "يَوْمَ
يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
(105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ
(106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ
رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) ۞ وَأَمَّا الَّذِينَ
سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ".
فكأنَّما عذابُ الآخرةِ هو امْتدادٌ للحياةِ الدُّنيا، مَعْ فَرْقٍ بَسيطٍ وهو
استمراريةُ الألمِ والمُعاناةِ الشَّديدةِ، بِمنأى عَنْ لَذةٍ أو فَرحٍ أو سُرور،
وأنَّ السّعادةَ المتحققةَ عندَ أهلِ الجنّة هو نتيجةٌ من نتائجِ صبرِ الإنْسانِ
على آلامِه وأحزانِه وشقائِه.
إنْ أريدُ إلا الإلماع إلى أنَّ الإنسانَ في حقيقتِه، بوصفِه كائنا دنيويّا، هو حزينٌ وشقيٌّ بالضّرورة، وأنْ البحثَ عن سعادتِه في دنياه إنَّما هو من قبيل التّرهات والأباطيل، ولا يمتُّ إلى الحقيقة والواقعِ الملموس والمعقولِ لا من قريب ولا بعيد، وهذا ساطعٌ صارخٌ بائنٌ لكلِّ مَنْ كانَ لهُ قلبٌ أو ألقى السّمعَ وهو شهيدٌ، فلا يحتاجُ المَرءُ إلى كثيرِ عناءٍ وتفكير، ليتوصَّلَ إلى أنَّ البشرَ في معاناةٍ مستمرة، وابتلاءٍ دائم، ومشقةٍ لا تنْقطعُ، ولا يَخلو ذلك مما عرفْنا أو سمِعنا أو قَرأْنا أو شاهدنا، ويستوي في ذلك كلُّ البشرِ على اخْتلافِ أديانِهم وأعراقِهم وألوانِهم ولغاتِهم وطبقاتِهم. وعليه، كما أتصورُ أنَّ موضوعةَ السّعادة وما لَفَّ لَفَّها من موضوعاتِ لا تحزنْ أو لا تيأسْ أو لا تقلقْ، كلامٌ سخيفٌ أخرقُ لا يؤبَهُ له أو به، ولا يمكنُ تحقيقه لا بالقوةِ ولا بالفِعلِ.
إرسال تعليق