لم يجانب العرب الصواب حين قالوا في دارجتهم : " يقرأ المكتوب من عنوانه " ، وهذا القول يبين ما للعنوان من قيمة واثر وعلاقة جذرية بالمكتوب بعده، للدرجة التي تمكّن من القول:" بأن العنوان مخزون معنوي وفكري وتراثي ونفسي يشف عما يتضمنه النص من معان وأفكار والتفاتات تشير إلى توجه الكاتب ومراده . هذا على المستوى الدارج في حياة العرب
أما على المستوى الأدبي فقد أصبح العنوان الشغل الشاغل لكثير من الباحثين والدارسين، ونقطة جذب تستقطب اهتمامهم وتثير فيهم الكثير من التساؤلات التي من خلالها ومن خلال الإجابة عنها راحوا يلجون النصوص الأدبية واتخذوا من العناوين عتبة تقودهم إلى مكنون النص فوقفوا عليها طويلا يستشرفون ما بعدها ويطيلون النظر في أعماق ما ورائها ووصلوا كل ذلك بخيوط مترابطة متشابكة تجعل من النص جسدا، رأسه ودماغه العنوان ، الذي يرتبط معه بشبكة من الأعصاب .
وقد سمى الشاعر ديوانه باسم واحدة من قصائده, والأصل أن تكون هذه القصيدة مميزة عند الشاعر في محتواها وفي لغتها ومحوراً للأفكار التي بثها في قصائده الأخرى أو عناوينها . ويحمل هذا العنوان دلالات كبيرة تشكل مخزونا يشف عما يتضمنه النص من معان وأفكار رغب الشاعر في التعبير عنها والربط فيما بينها , فالعنوان يثير في القارئ مجموعة من التساؤلات ويدفعه إلى التعاطف مع الشاعر , ذلك ان التعبير المباشر والمعنى المباشر لهذا العنوان يوحي بوجود شخصية إنسان ضرير لا يستطيع رؤية ما يدور حوله من أحداث وما يتشكل حوله من صور تحمل ألوانا وأبعادا كثيرة , ولكنه وعلى الرغم من ذلك كله ينجح في تصويرها وفي رسم أبعادها ووصف شخوصها وتجسيد عذاباتها عبر مجموعة من المرايا التي تعكس الصورة في ذهن المتلقي . إن لفظة مرايا توحي بأشكال حياتيه متنوعة ومتعددة وتحكي مواقف متباينة في الحياة البشرية لذلك يمكن القول بان الشاعر قد نجح إلى حد كبير في اختيار هذا الاسم وهو الاسم الذي أصبح واسع الانتشار على الصعيدين الفني والأدبي
ويتكلل ذلك النجاح بربط المرايا بالإنسان الضرير الذي لا يقوى في الحقيقة على الرسم والتجسيد والتشخيص بالألوان والأبعاد وكان ذلك عندما قام الشاعر بنقل الضرير من خانة العمى وانعدام البصر إلى خانة الرؤية المطلقة حيث مكنه من الرسم بالألوان فلوّن بالأبيض وبالأحمر وشخّص الشخوص في مراياه ووصف حالها واسمع الآخرين أصواتها التي نطقت بها الصور والمرايا في خلخلتها وانزياحها لتشي مع كل خلخلة وانزياح بحال آخر .
ففي كتاب النصوص سبعة نصوص تجسد سبع مرايا للضرير انتظمها خيط واحد يتوق إلى الماء وقد صدره الشاعر بنص الغائب الذي يوحي بوجود ( النص الغائب ) المتعارف عليه نقدا وأدبا . وحين يختتم الشاعر هذا الجزء فانه ينهيه بمرآة أو نص اسماه ( نص الإرث ) وهو العنوان المرتبط بعنوان النص الأول من الجزء الثاني من الديوان والذي جاء بعنوان ( ارث مبلول ) .
وهكذا يكمل الشاعر دورة الحياة تحت عناوينها وأحوالها المتنوعة والمختلفة في الجزء الثاني ليختم في المرآة السادسة بعنوان ( مرآة المطلق في بطن الحوت ) الذي يحمل الكثير من الدلالات ثم يردف في المرآة السابعة والأخيرة بعنوان ( دخول إلى مولدي ) وهو العنوان المرتبط بكل معانيه وأبعاده بعنوان الجزء الثالث من الديوان الذي أطلق عليه ( ميقات الثمر ) وكأن الميلاد مرتبط بميقات الثمر واحد أشكاله فالإثمار ولادة كذلك وهكذا تستمر المرايا السبع في ميقات الثمر والتي يختتمها بمرآة تحت عنوان ( نامي لأكتب سر مرثاتي ) وهو العنوان الأطول بين عناوين الأجزاء الفرعية والعنوان الرئيس للديوان حيث تكون من ثمان كلمات تضج بالرثاء وأسراره . تلك كانت حكاية صاحب المرايا ،
من كتاب النصوص مروراً بمرايا الضرير إلى ميقات الثمر الذي سبقته الولادة والإثمار وختمه بالرثاء ليزيل الستار عن الجزء الرابع والأخير من ديوانه والذي اسماه ( واصعد إذ يكتب العشب حالي ) فهنا تكتمل الصورة وتخرج للعيان بكل محطاتها وألوانها فالحياة يكتبها العشب أيا كانت وهو يلونها ويعبر عنها وعن كل مراحلها فالعشب من بذرةٍ والبذرة تحتاج إلى غيم ومطر والعشبة صغيرة وليدة ثم تكبر وتنمو وتخضر ولكنها وبعد فترة تصاب باليباس بعد أن تترك بذوراً أخرى تحكي ملحمة الحياة فوق الأرض .
إن خيطا واحدا ينتظم النصوص فمن الملاحظات التي يقف عليها قارئ الديوان وجود بعض الألفاظ في النصوص الواردة فيه ومن هذه الألفاظ المعبرة والتي تحمل في ثناياها الكثير من الدلالات لفظة الغيم وكأنها اللازمة التي تواتر ذكرها في الديوان والتي تستحضر وتستدعي لازمة بدر شاكر السياب في قصيدته ( أنشودة المطر ) حيث يقول الشاعر في نص اليباس: كنت المحها تنتمي للغيوم، لا مطر، وقوله في ارث مبلول : أبادلني بالغيم، والغيم بتول ،وقوله في ( نامي لأكتب سر مرثاتي ) :هل كان أعمى ،حين بلله المطر. وهنا تتجسد صورة بدر شاكر السياب في أنشودته وكذلك في بث لوعاته وهو غريب على الخليج .
ان هذه النصوص مجتمعة تكاد تشكل ملحمة للحياة البشرية بمختلف مقوماتها ومتطلباتها التي تتوحد جميعا في الماء الذي جعل المولى عز وجل كل شيء منه حيا وربط ذلك كله بوجود الإنسان وبكرامته , ففي النص الأول وهو نص الغائب ذكر للغيم الذي يأتي في العادة بالمطر فيبث الحياة في الربوع وبين الضلوع . أما النص الثاني وهو نص اليباس فهو يعبر بعنوانه عن الحاجة الملحة للمطر وللمياه ويذكر الشاعر فيه الغيمة المسافرة التي رحلت دون مطر فكان اليباس نتاجها . وفي نص الانتباه يعمد الشاعر إلى ذكر المزاريب وألفاظ أخرى مثل ( انسياب ) وكذلك ( السيل ) و ( اليباس ) في حين أتى على ذكر الفيض والماء في نص المرايا وكذلك الغيم وهو ما أقدم عليه في نص الرمل حين ذكر المياه واليباس . وكذلك فعل في نص الإرث حين أتى على ذكر الغيم ليختم به وليربطه بالمرآة الأولى من الجزء الثاني في مرايا الضرير والذي جاء بعنوان ( ارث مبلول ) حيث ذكر الغيم أيضا . ويأبى الغيم إلا أن يكون في نص مرايا الضرير وكذلك في نص مرايا الشاعر ومرآة الشاعر ما يشير إلى الماء كالنوارس والندى .
أما ( مرآة المطلق في بطن الحوت ) فتبعث صورة النبي يونس - عليه السلام – وهي صورة مرتبطة بالماء والبحر أيضا . وعندما نلج مرآة ( دخول إلى مولدي ) نقف على ذكر الماء والغيم أيضا .إن كل ذلك التقديم الشعري والفني مرتبط إلى حد كبير بالجزء الثالث الذي جعله بعنوان ( ميقات الثمر ) وهو ميقات يحتاج إلى المطر والغيوم والمياه ويرتبط بها ارتباطا جذرياً وقد حمله الشاعر بالذكر المباشر للغيم والمطر أو بذكر ما يرتبط بهما ويدلل عليهما ثم يختم بالجزء الأخير وهو بعنوان ( واصعد إذ يكتب العشب حالي ) وهذا التصدير حكاية ملحمة مطرٍ وعشبٍ وحياة .
أما عناوين الجزء الأول: فقد استخدم الشاعر في عنونة الجزء الأول من الديوان تركيب المضاف والمضاف إليه، حيث كان الجزء الأول بعنوان كتاب النصوص، أما العناوين التي اندرجت في خانته فهي كما يلي : نص الغائب و نص اليباس و نص الانتباه و نص المرايا و نص الرمل و نص الكروان و نص الإرث، ومن الملاحظ أن العناوين تكونت من كلمتين وكانت الكلمة الأولى التي شغلت العناوين كافة هي كلمة نص والتي عرّفت بإضافتها إلى ما بعدها للتخصيص، وهي عناوين قد تواتر ذكرها في متون النصوص باستثناء النص الأول الذي جاء بعنوان نص الغائب، حيث لم تذكر الكلمة الثانية من العنوان وهي الغائب في النص، ولكنه عبر عن الغياب بقوله ( عادة الغيم أن لا يجيء بلا ثوبه ) وهذا يشير إلى غياب وجهٍ من وجوه الحياة التي يسببها ويبعثها الغيم بأمطاره.
أما النصوص الأخرى فقد كانت الكلمة الثانية من العناوين
مذكورة في متون النصوص حيث ذكر الشاعر اليباس في نص اليباس كما ذكر الانتباه في نص
الانتباه أما في نص المرايا فقد ذكر ما يشير إلى المرآة من خلخلة الصورة وانزياحها
، وفي نص الرمل ذكر الشاعر الرمل وكذلك فعل في نص الكروان ونص الإرث حيث ذكر
المفردة الثانية في النص. وقد عنون الشاعر الجزء الثاني بـ ( مرايا الضرير ) حيث
تكونت عناوين الجزء الثاني وهو الجزء الذي يحمل اسم الديوان من تركيب مكون من
كلمتين باستثناء النص الثالث والخامس والسادس والسابع، حيث حمل النص الثالث
عنوانًا مفردًا وهو ( الشاعر ) ، أما الخامس فقد حمل عنوان ( الشارع ) ،
والعنوانان عبارة عن كلمة مفردة تشكلت من نفس الحروف مع اختلاف في التقديم
والتأخير وهما من المرايا التي تحمل الكثير من المعاني ، فللشاعر مرايا وللشارع
مرايا أيضا، ومرآة الشارع هي مرآة الشاعر ، ومرآة الشاعر قد تكون مرآةً من مرايا
الشارع. أما النص السادس فقد حمل العنوان الثالث الأطول من عناوين الديوان مجتمعة
وقد جاء باسم ( مرآة المطلق في بطن الحوت ) وهو عنوان يذكّر بالتراث ويبعث صورة
النبي يونس عليه السلام وقصته مع الحوت. أما السابع فقد جاء بعنوان ( دخول إلى
مولدي ) وهو يسبق عنوان الجزء الثالث من الديوان، ومرتبط به ، فالدخول إلى المولد
مقترن بميقات الثمر. ومن الملاحظات التي يمكن تسجيلها على عناوين الجزء الثاني
أنها جميعًا قد ذكرت في ثنايا النصوص حيث استل الشاعر كلمات العنوان من النص.أما
عناوين الجزء الثالث: فقد تكرر ذكر عنوان بعض النصوص في قصائد هذا الجزء، ومنها
النص الأول والثاني والثالث والرابع والخامس ، أما السادس والسابع فلم تذكر
عناوينها في النص ، فقد جاء السادس بعنوان ميقات الثمر، وهو عنوان الجزء ، أما
السابع فحمل العنوان الأطول الثاني في الديوان وهو ( نامي لأكتب سر مرثاتي ) وهو
مرتبط بعنوان الجزء الأول والثاني والثالث والرابع ، الذي جاء بعنوان ( وأصعد إذ
يكتب العشب حالي ) ، فالأول حمل عنوان ( كتاب النصوص ) ، والثاني حمل عنوان (
مرايا الضرير ) ، والثالث حمل عنوان ( ميقات الثمر ) ، وجاء الرابع بعنوان ( وأصعد
إذ يكتب العشب حالي ) ، فسر المرثاة والحياة يكتبها العشب ويحكيها ويرويها عبر
مراحل نموه وحياته ومماته. في حين حمل الجزء الرابع العنوان الأطول حيث أنه يحكي
ملحمة الحياة البشرية عبر مراحل نموها وكأن العشب يحكيها أو كأنها تحاكي العشب في
حياته ، وقد اندرج تحته 18 عنوانًا لمقاطع قصيرة تشير إلى تعدد محطات الحياة
البشرية التي يمر بها الإنسان وكذلك المواقف والأحداث.
___
المصدر: دنيا الوطن
تاريخ النشر 7/11/2019
إرسال تعليق