لماذا بكى لي كوان يو بقلم د. سلطان الخضور
لم يبك لي كوان يو, العائد من الدراسة في الخارج وتحديداً من جامعة
كامبردج في بريطانيا حيث درس القانون, والذي ترشح فصار رئيساً للوزراء في
سنغافورة, فحكم فعدل, وهو الشخص الذي أظهر نجاحاً منقطع النظير, واستطاع انتشال
بلاده من القاع إلى القمة. لم يكن بكاؤه لسبب شخصي, أو بدافع الحسرة على موقف سبب
له أزمة لا يستطيع الخروج منها, إنما كان القلق على مستقبل الجزيرة التي كانت عشه
الذي رأى النور فيه, حيث معاناته خلال سيطرة اليابان على المنطقة خلال الحرب
العالمية الثانية, إذ بنيت شخصيته على رفض الخضوع والاستسلام أمام الأجنبي. .
كان
ذلك عام ألف وتسعمائة وخمس وستين, عندما تركت سنغافورة لينهشها الفقر, ويذوي جسدها
ويتهالك أمام العالم بسب الفساد الذي تفشى فيها بشتى أشكاله وصوره, حيث وصفت في
حينه بأنها من أخطر الأماكن في العالم بسبب الفلتان الأمني المروع الذي نتج
عن هذا الفساد, وباتت تشتهر بكثرة الجرائم وبات سكانها عرضة للنهب والسرقات وبات
الناس يتقنون هدر المال العام ويحفظون حكايته عن ظهر قلب.
بكى " لي كوان يو" على إثر قرار ماليزيا التخلي عن
بلده للأسباب التي ذكرت سابقاً, والتي كانت قد انضمت اليها عام ألف وتسعمائة
وثلاث وستين بعد أن رحل عنها المستعمر البريطاني وتركها في ظلام دامس وفوضى عارمة,
وجهل مستطير, وهي الجزيرة الفقيرة محدودة الموارد لم يكن أهلها البالغ
عددهم خمس مليون ونصف من البشر يرتوون حتى من الماء, ولم تكن شوارعها لتخلو من
النفايات وبقايا الطعام ومخلفات الصرف الصحي. وقد كان تخلي ماليزيا عنها
لذات الأسباب, وخوفاً من اختلال تركيبتها السكانية, إضافة لخشيتها من المد الشيوعي
في ذلك الوقت كونها ذات أكثرية مالاوية مسلمة, واستجابة لطلب المثقفين السنغافوريين
ورغبتهم بالانفصال, وظهور صدامات عرقية بينهم وبين الصينيين, كان السبب الرئيس
للقلق الذي اعترى" يو" وجرح قلبه لدرجة البكاء, ومما يروى عنه أنه كان
يطمح لبقاء سنغافورة في وحدة مع ماليزيا إلا أن ذلك لم يكن وكان لا بد من
الانفصال, وهي اللحظة التي جعلته يجهش بالبكاء.
فهل تترك الجزيرة جثة
هامدة لتنهشها الوحوش؟
بكى" يو " لأنه كان
إنساناً حالماً, يريد أن يرى بلده تتخلص من وضعها المتردي, وترتفع برأسها لتنافس
أعلى اقتصاديات العالم مرتبة, فتحولت الدموع إلى حبر يكتب تاريخاً ويرتقي
بسنغافورة, لتقيم مع مثيلاتها من الدول المتقدمة على صعيد البناء والمال والأعمال,
فهل كان لدى " يو " خلطة سحرية أستمتع السنغافوريون بمذاقها, أم ماذا
فعل؟
تحولت إحدى
قطرات دموع " يو" إلى مجموعة من القوانين, التي فرضت بقوة وعدالة على
الجميع, وبات القوم بحكم تطبيق القانون وصرامته منضبطون في سلوكياتهم فصاروا حتى
البصق في الشارع محرم لديهم ولا يقطعون الشارع إلا من الممر المخصص للمشاة, وصاروا
يحرصون على نظافة الأماكن العامة وكأنها ملكية خاصة, حتى تمكن من تغيير نمط
الفكرة, وحول بلاده لتعرف على مستوى العالم ببلد القانون, وباتت سنغافورة تنام
بهدوء ولم يعد أهلوها يحلمون أحلاماً مزعجة, بل بات لحافهم طويل فيمدون أرجلهم على
طولها وينامون بأمن وأمان لا يخشون الوحوش سواء كانت وحوش الغابة من الحيوانات أو
وحوش المنازل من البشر.
وفي ظل ما ذكرنا لم تكن
مهمة "يو" سهلة عندما تحولت دمعة أخرى من دموعه وانسابت على شكل فكرة
تجلت بالالتفات للتنمية البشرية, فكان المواطن هو الهدف, حيث أدرك " يو"
مقولة أساسها أن النهضة بالوطن لا تكون إلا من خلال النهضة بالمواطن, فتعلم
المواطن وتدرب وابتعث الكثيرون للخارج للدراسة والبحث, واستغلت الكفاءات المحلية
للمساهمة في الرقي والنمو والتقدم على كافة الصعد وشتى المجالات, وتم التركيز على
المناهج التعليمية وبناء المعلم كقاعدة صلبة تبنى عليها الأجيال, وبات المواطن
السنغافوري مثقفاً, متعلما ومؤهلاً ليس للبناء فقط بل لمحاربة كل أشكال الرشوة
والفساد ومناضلاً في سبيل التغيير.
لم تكن مهمة"
يو" سهلة حيث وجد نفسه في جزيرة صغيرة لا تتعدى مساحتها السبعمائة وتسعة
عشر كيلومتراً مربعاً, وسكانها متعددي الأعراق واللغات والأديان ما بين صيني وهندي
ومالاوي, ينطقون بأربع لغات هي الإنجليزية والصينية والماليزية والتاميلية,
ويدونون بالإسلام والبوذية والمسيحية والطاوية والهندوسية واللادينية, لكنه استطاع
تحويل التهديدات إلى مكتسبات, فاستغل دفء المكان المداري الرطب ومعقولية درجة
الحرارة في معظم شهور السنة وإطلالته على المحيط الهندي من جميع الجهات وعدم وجود
حدود برية ووجوده على مضيق " ملاكا" الذي يفصل ماليزيا عن جزيرة
سومطرة الاندونيسية, لتكون ميناء عالمياً ذا موقع استراتيجي مهم لدول شرق آسيا
وللعالم, جعلها متنوعة الثقافات وحلقة وصل لهذه الدول مع أوروبا وأمريكا ومحطة
لشحن البضائع للعديد من الدول لا سيما استراليا والصين, وموطنا للتكنولوجيا الحديثة.
ولم
يكن " لي كوان يو" باني النهضة السنغافورية لينجح لو لم تتوزع عبراته
على كل مساحات الوطن, فغرس معنى المواطنة وفرش حقول التنمية بتراب مجبول بالعدالة
والمساواة وتكافؤ الفرص, وأخمد النزاعات العرقية التي كانت تعصف بالبلاد, وتوحدت
لغة الجميع وصار لسان حالهم يلهج بلغة واحدة تنطق باسم سنغافورة, حتى تمكن من
العمل على استثمار الموارد البشرية والمادية المتاحة, وبرزت سنغافورة كمورد
اقتصادي هام وباتت العين تتجه لتحويلها من قرية للصيادين إلى ميناء بحري عالمي هام
وضروري للكثير من الدول المجاورة, وصارت محجاً للسفن القادمة من الشرق ومن الغرب
من ستمئة ميناء في العالم, فميناء جوياً يرتبط مع معظم دول العالم, وما كان ذلك
ليكون لولا استثمار العقل البشري الذي أدرك قيمة الموقع فخطط ونجح.
وكانت دموع
"يو" فيها من الإلهام ما يفرد على قطاع النقل والمواصلات, فتوسعت سنغافورة
في شبكة المواصلات, وتم تحديث هذه الشبكة وبات الوصول إلى العمل في الوقت المحدد
متاحاً وسهلاً وبأرخص التكاليف, في حين تم رفع عائدات الجمارك على السيارات, فتخلى
الناس عن وسائل النقل الخاصة إلى وسائل النقل العامة, ودارت عجلة الإنتاج بأقل
كلفة في الوقت والجهد والمال, ونهض القطاع الصناعي والتجاري والزراعي, متكئاً على
التدريب وعلى قطاع المواصلات.
وكان القطاع السياحي من
روافد الاقتصاد السنغافوري, فقد تساوى عدد السياح مع عدد السكان أي بمعدل خمسة
ونصف مليون سائح سنوياً, يجدون الفندقة الراقية والخدمات على أعلى المستويات,
والالتزام بالوقت والجو الصيفي الذي يسهل الحركة ويسهل على السائح قضاء فترة زمنية
تتسم بالراحة والطمأنينة والاستمتاع بالمناظر الخلابة والمباني الشاهقة ومتعة
التسوق في واحدة من أنظف مدن العالم ومن أكثرها جمالاً, وتحولت بيوت الفقر
إلى ناطحات سحاب بأشكال هندسية حديثة وباتت أرضها حديقة غناء تسر الناظرين.
ويبدو أن" يو"
وهو يبكي كان الموقع السياحي الهام يجول في خلده, فالتفت إلي كيفية استثماره, فقد
أسهم القطاع السياحي كغيره من القطاعات في عملية النهوض التي انعكست بشكل مباشر
على دخل الفرد ليرتفع إلى أربع وستين ألف دولار سنوياً, فبرزت المعالم السياحية
الحديثة مثل متحف سنغافورة الوطني وفوت كاننغ والميريليون بارك وحدائق
الطيور والنبات والحيوانات ونايت سفاري وحدائق الخليج وجزيرة سنتوسا.
وبتشاركية القطاعات
انحدرت نسبة البطالة إلى ثلاث بالمائة واستقرت لتصبح من أقل النسب في العالم, بل
تحولت نسب البطالة إلى فرص للنجاح, وانقلبت الأمية إلى أدوات للتكنولوجيا الحديثة
تستخدمها يد واثقة لم تعد نرتجف من القهر أو من الجوع أو من الخشية على مستقبل كان
الظلام سمته الأساس.
بدموع " لي كوان
يو" خطت سنغافورة طريقها لمستقيل واعد لتتبوأ المركز الإنمائي الرابع في
العالم, والخامس من بين أغنى دول العالم في احتياطي العملات الصعبة والمركز الثالث
كأكبر مصدر للعملات الأجنبية.
هل كانت الصدف أم
أن الدموع جبلت بها الأفكار, قطعاً كانت دموع الألم تختلط بدموع الأمل, وخلفت
وراءها بعد النظر, وجذبت الكل السنغافوري للمشاركة بالمسؤولية وصناعة القرار
والتطلع لمستقبل مبتسم, شبكة عنكبوتية خارجية بحرية وجوية, وشبكة طرق داخلية,
وبنية تحتية وتكنولوجيا متطورة وحوافز للقطاع الخاص, مع العزيمة والإخلاص, جعلت من
سنغافورة نموذجاً صناعياً وتجارياً وسياحياً يحتذى.
وقد مات الأب الروحي لسنغافورة
وباني نهضتها عام ألف وتسعمائة وخمسة عشر عن عمر يناهز الواحد والتسعين عاماً, بعد
أن تولى منصب رئيس الوزراء ما ناف عن الثلاثة عقود.
___________________________
المراجع
إسراء ربحي – معلومات عن سنغافورة
سناء الدويكات – أين تقع سنغافورة
الشرق الأوسط – عن مؤسس سنغافورة الحديثة
مدونات البنك الدولي – ثلاثة عوامل حولت سنغافورة
إلى مركز عالمي
السياحة في
سنغافورة - SINGAPORE
إرسال تعليق